الاثنين، 31 أكتوبر 2011

نحو استراتيجية وطنية للشباب


جريدة الرؤية الاثنين 31/10/2011م
كنت في إحدى الأمسيات الشعرية، والتي يحييها نخبة من الشعراء الجدد، مساء الخميس الفائت،  عندما وجدت من يربت على ظهري . التفت كي أرى من فعل ذلك،فوجدته هو، بابتسامته التي لا تفارقه، إنه أبو فاطمة، صديقي الذي أزعجتكم مراراً بالحديث عنه.

أبا فاطمة؟ أية رياح طيبة ألقت بك هنا يا صديقي العزيز؟ رد علي : كما ترى، أتيت لنفس السبب الذي أتيت أنت من أجله، الفراغ قاتل يا صاحبي، فقلت آتي للاستمتاع بالشعر، وفي نفس الوقت تشجيعاً لهذه المواهب الفتيـــــة.

مرت دقائق قبل أن ينظر إلي بابتسامته الجميلة وهو يقول لي: مبروك، وأخيراً تحقق ما كنت تنادي به وتكتب عنه مراراً. نظرت له بدهشة وأنا أسأله: ماذا تقصد بكلامك يا عزيزي؟ أجاب: أولم تسمع عن المرسوم السلطاني الذي يقضي بإنشاء اللجنة الوطنية للشباب وإصدار نظامها؟ أولم تكن تطالب بإنشاء هيئة أو جمعية أو لجنة أو وزارة تهتم بأمور الشباب؟ ها قد تحقق مطلبك، ولأجل ذلك فأنت مدين لي بعشاء الليلة.

قلت له: بالطبع سمعت به، وفرحت به كما فرح كل الشباب في هذا البلد، ولعلمك فهذا المرسوم ليس الأول ولن يكون الأخير، فاهتمامات جلالته بقطاع الشباب قد بدأت منذ الأيام الأولى لحكمه الميمون، أولم تسمع منطوقه السامي في أحد الأعياد الوطنية "إننا أصدرنا أوامرنا لوزرائنا بأن يولوا شبابنا عناية خاصة، وأن يتيحوا لهم كافة الفرص، لكي يؤدوا دورهم على الوجه المرضي في بلادهم". أولم تعاصر  تجربة تخصيص أعوام للشبيبة والشباب، وإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الشباب في فترة زمنية معينة، ثم إنشاء الهيئة العامة لأنشطة الشباب الثقافية والرياضية؟

هنا قال لي: دعنا نتحدث بشفافية ، أنت وأنا وغيرنا يعرف أهمية الشباب وقيمته في كل مجتمع، وفي نفس الوقت يدرك التحديات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي تواجه هذا القطاع الحيوي المهم. هل تتوقع أن تحقق هذه اللجنة شيئاً من طموحاتنا تجاه ما نصبو إليه؟

قلت له وأنا أتكئ على مسند الكرسي: هذا يعتمد على مدى الصلاحيات التي ستعطى لها، ونوعية العقليات التي ستديرها، ومدى إيمانهم بدور الشباب في المجتمع، لو تعاملوا معها بنفس الآلية المتبعة سابقاً والتي تركز على إقامة بعض المناشط الرياضية والثقافية والاجتماعية التقليدية، فلا أعتقد أنها ستضيف الشيء الكثير لهذا القطاع، وستكون نسخة مكررة من سابقاتها من اللجان.

قبل أن أنتهي من إجابتي السابقة كان سؤاله التالي حاضراً: وما تصورك أنت لهذه اللجنة لو أعطيت صلاحيات إدارتها؟
أجبته: هون علي من أسئلتك المتلاحقة يا صديقي، عموماً التصورات كثيرة، والكلام حولها سيطول، ولكني سأحاول أن أختصر لك تصوري لها في عدة نقاط:
أولاً: دعنا نتفق سلفاً أن الاهتمام بقطاع الشباب ليس مسئولية جهة واحدة بعينها، ولكنه مسئولية مشتركة بين عدد من الجهات الحكومية والأهلية، إذا فليكن لهذه الجهات ممثلين لهم في هذه اللجنة ، كأن يكون هناك ممثل لوزارة التربية والتعليم، وآخر لوزارة الصحة، وثالث للإعلام، ورابع للتنمية الاجتماعية، وهكذا، بحيث نضمن أكبر قدر من التنسيق وتكامل العمل.
ثانياً: يفترض في هذه اللجنة أن تترجم رؤية الدولة لقطاع الشباب، وتجيب على السؤال الهام: ما نوع المخرجات التي تبتغيها الدولة من هذه الفئة؟ لذا من المهم أن تكون هناك رؤية واضحة تركز على تنشئة  جيل من الشباب العماني الواعي  لذاته وقدراته، المنتمي لوطنه، القادر على المشاركة  في تنميته وتطوره ، والمتمكن من التعامل مع تغيرات العصر المتسارعة.

ثالثاً: على هذه اللجنة وضع وثيقة تشتمل على إستراتيجية شاملة للشباب، يمكن تطبيقها خلال فترة زمنية محددة، يمكن تقديرها مثلاً بخمس سنوات، تحاول النهوض بالمستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي لهم، وتضع الخطط والبرامج التي تحدد التي تعمل على ترجمة الرؤية العامة للشباب ، يشترك في وضعها الجهات التي يعنيها قطاع الشباب، بحيث تضع كل جهة خطتها في المجال المتعلق بها، فوزارة  التراث والثقافة تضع برنامجها في مجال التوعية الثقافية من خلال رزمة من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات والورش الثقافية المختلفة التي تركز على الجديد، وتناقش قضايا حيوية تهم الشباب في المجالات المختلفة، و القوى العاملة تقدم خطتها في مجال العمل والتدريب وتعزيز المشاركة الاقتصادية للشباب، كبرامج التدريب المهني، وكيفية تنفيذ المشاريع الاقتصادية الصغيرة على سبيل المثال،  بينما تركز جهة كالتنمية الاجتماعية على المشاركة المجتمعية لهم من خلال حزمة من البرامج التي تهدف إلى تشجيع مساهمتهم  في أنشطة الخدمة العامة والأنشطة التطوعية مثلاً ،  ويساهم الإعلام في هذه الإستراتيجية بدور مهم من خلال إيجاد مساحات أكبر للشباب من خلال البرامج الحوارية، وتشجيع الحوار الفكري والثقافي بينهم حول قضايا التنمية الشاملة والتحديات الداخلية والخارجية والسياسات العامة المتبعة، بينما تطــــوع وزارة التربية والتعليم مناهجها وأنشطتها الصفية واللاصفية ، للتوافق مع ما أتت به الإستراتيجية  في مختلف المجالات، وقس على ذلك بقية الجهات.

رابعاً: تتخذ هذه الإستراتيجية  أساليباً عديدة في تنفيذها كالمؤتمرات، والمعسكرات العملية، والمحاضرات، والدورات التدريبية، والزيارات بأنواعها، والنشاطات بمختلف أشكالها.

قاطعني  قائلاً: ولكن كثيراً من الشباب، وخاصة في القرى والولايات البعيدة عن مراكز المناطق والمحافظات لا يجدون حالياً الأنشطة التي تخاطب إمكاناتهم، ومواهبهم، وتسهم في  القضاء على وقت الفراغ لديهم بكل سلبياته.
قلت له:من المهم مراجعة الإمكانات المادية المقدمة للشباب في الوقت الحالي، والعمل على توفيرها، كمراكز الشباب التي ينبغي أن تتواجد في كل قرية وحي بالتزامن مع المدرسة والمركز الصحي، مشتملة على  عدد من الخدمات الرياضية التي تتيح للشباب ممارسة هوايته المفضلة، وبالتالي تفريخ الكوادر المجيدة في هذا المجال، وكذلك بيوت الثقافة بمرسمها ومكتبتها ومسرحها ومعامل تصويرها وقاعات المطالعة وأنديتها العلمية، إضافة إلى المكتبات العامة في المدن والقرى، وبيوت الشباب، وغيرها من الخدمات.
هنا ابتسم صديقي أبو فاطمة وقال لي: الأمسية انتهت، وبقينا أنا وأنت لوحدنا بعد أن أخذنا الكلام.ماذا بقي لديك لم تقله في هذا الجانب أيها الصديق؟
قلت له: كلام كثير لم أقله بعد ، لم أتحدث عن دور اللجنة في التنشئة السياسية، هذا المطلب المهم والملح والمطلوب في الوقت الراهن، ولم أتناول أهمية الزيارات والمعسكرات  المختلفة، وورش العمل ، ودورها في تنمية الانتماء، وصقل المشاركة المجتمعية، وتشكيل القيادات الشبابية. كلام كثير لدي يا أبا فاطمة قد أتحدث عنه يوماً ما بعد أن ترى اللجنة النور. فلننتظر، فإن الغد لناظره قريب.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



الأربعاء، 26 أكتوبر 2011

مواقف حياتيــة (6)


جريدة عمان - الخميس 27/11/2011م
هذه مواقف حياتية نصادفها يومياً.. نعرضها ليس من باب النقد، ولكن من أجل أن تكون الرؤية أكثر جمالاً ووضوحاً.
(1)
(452) حالة وفاة، و(5647) عدد الإصابات البشرية ، خلال النصف الأول من عام 2011م، حسب إحصائيات شرطة عمان السلطانية.
أرقام مخيفة، وواقع مأساوي، وبرغم كل الجهود المبذولة على كافة المستويات في الدولة، إلا أن الأعداد في تزايد، والمشكلة ما زالت تراوح مكانها.ما الحل؟
(2)
تحدث الكثيرون عن الصلاحيات الواسعة التي أعطيت  لمجلس عمان، ، والتي تؤكد على الإرادة السامية في دفع وتطوير مسيرة الشورى بالسلطنة، وأصبحت الكرة الآن في ملعبنا نحن المواطنين، فكثير من مطالبنا في هذا الشأن تحققت، والبقية ستأتي لاحقاً، في ظل اهتمام لا متناهي من قبل القيادة الحكيمة بكل ما من شأنه الرقي بهذا الوطن.
سؤالي المهم: هل الغالبية من أعضاء مجلس الشورى الحاليين مهيئون لتفعيل هذه الصلاحيات؟ وهل لديهم  الوعي والقدرة والشجاعة والثقافة التي تؤهلهم لمناقشة كثير من الأمور الدقيقة، كمشروعات مشروعات خطط التنمية
والميزانية السنوية للدولة، و
الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتزم الحكومة إبرامها أو الانضمام إليها، أو استجواب أي من وزراء الخدمات في الأمور المتعلقة بتجاوز صلاحياتهم بالمخالفة للقانون؟
في ظل ما أفرزته نتائج الانتخابات الحالية، فإننا بحاجة إلى عمل دءوب لكي نقتنع كمجتمع بأهمية هذا المجلس في الحياة السياسية والاجتماعية، وبالتالي وجود حرص كبير، ورغبة ملحـــة في تفعيل أعماله بالشكل الايجابي، والوصول إلى ما يسمى (بثقافة الانتخاب)، وهذا يعني الاختيار الجيد للمرشحين، والمفاضلة بين البرامج الانتخابية المطروحة.
 يستلزم الأمر تحولاً مجتمعياً ندرك أنه لن يأت بتلك السهولة، بل هو بحاجة لشيء من الحراك الفكري المتواصل، ومراجعة دقيقة للتجارب الحالية والسابقة، ولبرامج انتخابية متوافقة مع الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع، ولأشخاص لديهم رصيد من الرضا والتقدير في المجتمع.
إنشاء برلمانات طلابية ،واتحادات طلبة في المدارس والجامعات، وإنشاء وتفعيل النقابات والجمعيات المهنية،ووضع مناهج تعنى بالتربية الوطنية أو المدنية، وتشكيل مجالس بلدية في الولايات وجعل عضويتها عن طريق الانتخاب ،من بين  الأمور التي من شأنها أن تأتي بهذا التحول المطلوب .
(3)
في ظل الحديث عن دور المرأة العمانية في المجتمع، فإنه من المهم التذكير بأن المرأة المنتجة ليست فقط صاحبة دار عروض الأزياء، أو محل التصوير، أو الكوافير، أو تنظيم الحفلات والأفراح، أو غيرها من الأنشطة المماثلة، والذي تحاول بعض وسائل الإعلام الترويج لها على أنها وحدها الواجهة المضيئة للمرأة العمانية المنتجة.
 المرأة العاملة هي كذلك المرأة الريفية في حلـــوت، ومدينة الحق، والخويمة،والطحايم،وكمزار، والدقم،وسمد الشأن،والحوقين، وحفيت، وغيرها من القرى والنيابات العمانية المترامية الأطراف، والتي تعمل جنباً إلى جنب مع زوجها وابنها وأخيها الرجل في كثير من المهن والحرف (الحقيقية) دون البحث عن بهرجة إعلامية وهمية.
هذه المرأة هي من بحاجة إلى أن تستهدفها برامج التنمية الاجتماعية، وصناديق الدعم النسائي، والفعاليات المصاحبة ليوم المرأة العمانية من احتفالات وتكريم.
 
(4)
يحدث أحياناً أن يصاب أحدنا بوعكة صحية مفاجئة وغير مسبوقة، فيثير ذلك لديه تخوفاً كبيراُ، ويهتم بمحاولة تشخيص حالته عن طريق سؤال بعض المختصين، والاطلاع على المواقع الإلكترونية، والكتب والمجلات التي تهتم بالجوانب الطبية، ويحرص على مراجعة كثير من السلوكيات السلبية المتعلقة بحياته اليومية كأنماط الأكل، أو النوم، أو قضاء أوقات الفراغ. بل إن بعضنا يذهب لما هو أبعد من ذلك، فتجده يغيـــر من سلوكياته الدينية والاجتماعية، ويصبح إنساناً مختلفاً عما كان سابقاً.
ولكن كثيراً منا ، وبعد مرور هذه الوعكة بسلام، يعود إلى سابق عهده ، ويتناسى ما جرى له قبل بضعة أيام، (وتعود ريمة لعاداتها القديمة) وكأن شيئاً لم يحدث.
 (5)
يرهق البعض أنفسهم في الجد والاجتهاد، والحصول على أعلى المؤهلات الفكرية والعملية، ومع ذلك يظلون سنوات طويلة لا يراوحون أماكنهم الوظيفية،منزوين خلف أستار الروتين والبيروقراطية، بينما يبدو بعض أقرانهم  وكأنهم ولدوا وفي فمهم ملاعق من ذهب، فالطريق مفروش بالورود، والمكان المناسب مهيأ حتى قبل وصولهم، بالرغم من تقارب الإمكانات والقدرات، وميلها في كثير من الأحيان إلى جانب الفريق الأول.
معيار الأفضلية، والحرص على تساوي الفرص أمام الجميع،  هي من أهم مقومات بناء المجتمعات الناجحة.

(6)
من جميل ما قاله الشاعر الأندلسي "ابن زيدون" هذه الأبيات :
ودّع الصبرَ محبّ ودّعك 
                  
ذائع مِن سرّه ما اِستودَعك 
يقرع السنّ على أَن لم يكن 
                  
زادَ في تلك الخطى إذ شيّعك 
يا أَخا البدرِ سناء وسنى 
                  
حفظ اللَه زماناً أطلَعك 
إن يطُل بعدك ليلي فلكم 
                  
بتّ أشكو قصرَ الليل مَعك









د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



الأحد، 23 أكتوبر 2011

"رفقـاً بهم"


    جريدة الرؤية - الاثنين -24/10/2011م
كنت بالمستشفى لزيارة أحد معارفي عندما سمعت ذلك البكاء الذي يقطـــع نياط القلوب "بأموت" "بأموت". بحثت عن مصدر الصوت فوجدته لصبي لم يتجاوز الحادية عشرة من العمر ، كان  متدثـــراً بلحاف السرير،           و إحدى يداه ملفوفة بالجبس، بينما عيناه غارقتان في الدموع . اقتربت منه وسألته: لم تبكي يا بني؟ وما الذي سيجعلك تموت؟ أجابني: يدي تؤلمني بشدة من جراء العملية التي أجريت لي صباح اليوم، ولا أستطيع النوم، وليس هناك من يخفف عني ألمي. قلت له: وأين والدك؟ رد علي : والدي متوفي منذ سنتين، وأنا أكبر إخوتي،  وأمي في البيت مع إخوتي لأنها لا تستطيع أن تتركهم لوحدهم، وبيتنا في قرية بعيدة عن المستشفى. سألته: ومن يرافقك إذاً؟ قال: معي خالي، ولكنه لا يجلس معي كثيراً، وهو طوال الوقت خارج الغرفة.

لا أعلم لم تذكرت وقتها كثيراً من المشاهد المؤلمة لعدد من مظاهر اليتم التي ما برحت ذاكرتي تحتفظ بها طوال سنين مضت. هل جال في خاطري صالح وإخوته جيراننا البعيدين والذين خرجوا من المدرسة تباعاً بعد وفاة والدهم، وأكبرهم لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، لأنهم ربما لم يجدوا من يشعرهم بأن الحياة فيها كثير من الأشياء الجميلة؟ وهل سأنسى ملامح تلك الطفلة ذات العشر سنوات بملابسها البالية، وشعرها المنكوش، وقد اقتربت  مني يوماً في أحد ميادين القاهرة طلباً لبعض المال كي تتمكن من شراء وجبة عشاء لأخيها الصغير الذي كانت تمسكه بإحدى يديها؟ وهل سأسامح ذلك الصديق الذي  أرسل لي بريداً الكترونياً يحوي صورة تم التقاطها في إحدى دور الأيتام لطفل رسم صورة  لوالدته على الأرض ونام بحضنها؟ بل وهل سأغفر لصديق آخر ما فعله بمشاعري حين عرض علي صورة طفلة تبكي على قبر أمها، وهي تحمل حقيبتها المدرسية ؟وقتها ظلت الصورتان تراودان مخيلتي وتقلق منامي لعدة ليال قبل أن أتناساهما كما يفعل كثير من البشر عندما تتغلب قسوتهم على مشاعرهم.

أتساءل أحياناً عندما تقترب مني ابنتي ذات السنتين ، لتوقظني من نومي العميق،  كي أشاركها لعبها ولهوها، وابتسامتها تغطي وجهها، بينما صدى ضحكاتها يملأ أرجاء الغرفة. ترى لو لم أكن موجوداً على هذه الحياة، فهل ستجد من يلاعبها؟و هل هناك من سيتحمل إزعاجها البريء له دون غضب أو تبرم؟ وهل ستلاقي من سيحتضنها في حنان لو سالت دموعها بسبب ملامح قسوة بسيطة لم تحتملها؟ ومن سيعتني بها إن مرضت في ليلة ما؟

وأتساءل كذلك عندما تتغلـــى علي "موده " في دلال كي آخذها إلى مسقط في عطلة نهاية الأسبوع ، أو عندما تتصل بي ليلاً قبل عودتي إلى البيت كي أحضر لها عشاءً  تحبه، أو تنتظر عودتي ظهراً من عملي كي تبشرني بعلامة كاملة حصلت عليها في إحدى المواد، أو تطلب مني أن أشرح لها درساً صعـب عليها فهمه. ترى هل يستطع أقرانها الأيتام أن يفعلوا مثلها؟ وهل يجدوا من "يتغلوا عليه" كي يلبي لهم طلباتهم؟ وهل هناك من سيربت على ظهورهم في حنان أبوي، وهل يجدون من يقوم بتغطيتهم ليلاً خوفاً عليهم من برد الحياة؟

كل ذلك يجعلني أتساءل في ألم:كل منا يعرف في محيطه الأسري أو العائلي أو المجتمعي عدداً من الأيتام، فماذا فعلنا لأجلهم؟ وما هي مظاهر اهتمامنا بهم؟ وهل تتعدى تلك المظاهر بعض العطف والشفقة، وقليلاً من الملابس والمال في بعض المناسبات؟

كان المجتمع في السابق متماسكاً متكافلاً  رحيماً ببعضه البعض. كان للواحد منا عشرات الآباء والأمهات والأخوة، و كانت كثير من الأسر المقتدرة تحتضن اليتامى وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بهم وحماية حقوقهم، وكان الرجل يكفل جاره ويعتني بأحوال أسرته في غيابه أو وفاته، وكانت المرأة تعتبر نفسها أماً بديلة لأبناء من تتوفى من جاراتها أو قريباتها، فتحسن الاعتناء بهم، وتحاول تعويضهم عن حنان الأم، بل إن بعضهن يصعب عليها أن ترى ابن جارتها يصرخ من الجوع لمجرد أن والدته قد تأخرت في جلب الماء، أو إعداد الطعام، فتبادر إلى إرضاعه حتى ولو لم يطل غياب والدته عنه. وكانت الجدات يحطن أحفادهن بالرعاية الكافية، والعناية الكبيرة، فهن الصدر الحنون لهم لو ضايقتهم قسوة (مبررة ) من والدهم، أو أزعجهم عتاب (مطلوب ) من أمهم، فيكون التعويض بفتح صندوق الهدايا، وسرد القصص والحكايات القديمة، و(هدهدة) ذلك الحفيد في حنان حتى ينام، فما بالكم لو كان هذا الحفيد يتيماً؟

أما الآن فلربما تغير المشهد كثيراً، وفقدنا في زحمة ما ندعيه من تسارع العصر، وهموم الحياة كثيراً من قيمنا وعاداتنا الجميلة في عدد من أنماط العلاقات الإنسانية، لعل من بينها الاهتمام بكفالة الأيتام ورعايتهم، فلم يعد المجتمع يعطي هذه الفئة الاهتمام (الإنساني) الكافي الذي تحتاجه.

إن هؤلاء الأيتام ليسوا بحاجة فقط إلى أن نتصدق عليهم ببعض المال أو الهدايا، أو أن ندرجهم ضمن الفئات التي تستحق الإعانة، أو أن (تحسن) عليهم بعض الجهات بعدد من المقاعد الدراسية،فهذه أمور مفروغ منها ، وواجب ديني على الحكومة والمجتمع أن ينفذه ويقوم به على الوجه الأكمل، ولابد من المراجعة الشاملة، والتفعيل الأمثل لصناديق الزكاة، والأوقاف، والرعاية الاجتماعية، بحيث تؤدي دورها المطلوب لخدمة هذه الفئة في هذا المجال.

هم ربما لا يهمهم كثيراً كذلك  إقامة الجمعيات الخيرية ، والتي قد يقتصر دورها فقط على تقديم القليل من المساعدات المادية والعينية، والكثير من الشو الإعلامي، أو أن نخصص لهم يوماً واحداً في السنة كي نتذكرهم فيه، ونتعامل معهم يومها كأنهم (أنتيكات ) للعرض، وننظم لهم بعض الفعاليات الترفيهية،ونهديهم بعض الهدايا التذكارية البسيطة، مع شيء من الكلمات الموشـــاة بحلو الكلام عن اليتيم وأهمية الاعتناء به، بينما نقضي باقي الوقت في التقاط الصور التذكارية مع راعي المناسبة، وفي التأكيد على أهمية أن تظهر صورنا في أخبار الصحف المحلية في اليوم التالي، مع ملاحظة أن كثير من هذه النوعية من الحفلات لا يراعى فيها الجانب النفسي لليتيم أحياناً، فبدلاً من أن تدخل الابتسامة في قلبه، فإنها تجدد في نفسه الألم والحزن، وتصر على أن تشعره بأن هناك ما ينقصه بعكس أقرانه الآخرين.

هم بحاجة لاهتمام من نوع آخر، بحاجة لمن يشعر بهم ويحس بما يعانوه. بحاجة لمن يكون لهم الأب الحنون، والأم الرءوم، والأخ الوفي، بحاجة لمن يهتم بمطالبهم النفسية قبل المادية، دون أن يشعرهم بالشفقة والتمييز بينهم وبين غيرهم من فئات المجتمع.

هم بحاجة إلى من يوفر لهم الإرشاد والتوجيه الثقافي والسلوكي، خاصة في سنوات مقتبل الحياة، وفترة المراهقة، ولو اهتم بعض منا بأن (يحتضن) يتيماً يعرفه، فيغدق عليه حنانه في غير مبالغة، ويراعي حاجاته النفسية، ويحاول تقويم تصرفاته السلوكية، ويكون قريباً منه بنصائحه وإرشاده كي يتلمس خطوات حياته حتى يصبح قادراً على تولي مسئولياته، لأصبح مجتمعنا في خير كثير.

مهما قلنا أو فعلنا ، فلن ندرك أبدا كيف هو شعور من يكتشف في لحظة أنه بدون أب أو أم، وصدق تعالى حين قال"وأما اليتيم فلا تقهر".


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


الخميس، 20 أكتوبر 2011

مواقف حياتيــة (5)


جريدة عمان - الخميس 20/11/2011م
هذه مواقف حياتية نصادفها يومياً.. نعرضها ليس من باب النقد، ولكن من أجل أن تكون الرؤية أكثر جمالاً ووضوحاً.
(1)
نظــــم برنامج الشباب التابع لإذاعة سلطنة عمان يوم الثامن عشر من أكتوبر الحالي حملة توعوية مهمة  للحد من الحوادث المرورية وأثرها السلبي على المجتمع، وقد وفــق القائمين على هذه الحملة من معدين ومقدمين في اختيار الفقرات واللقاءات والشخصيات التي تناولت الموضوع من مختلف أبعاده.
هذه الحملة تأتي استكمالاً لكثير من البرامج والإعلانات التوعوية المهمة في هذا الجانب و التي دأب البرنامج على تقديمها خلال دوراته البرامجية المتعددة.
تحية شكر وتقدير للقائمين على مثل هذه الجهود، وهناك الكثير من الظواهر التي تحتاج إلى مثل هذا الاهتمام كي يشعر المجتمع بمدى تأثيرها عليه سلباً أم إيجاباً.
(2)
تعمد (بعض) المعلمات إلى الإكثار من الحصول على الأجازات المرضية التي تخول لهن التغيب عن الدوام المدرسي،مما يؤثر سلباً على انتظام سير العملية التعليمية بمدارسهن، وحرمان قطاع مهم من الطلاب من حقهم الكامل في الرعاية التربوية. ومن بين المبررات التي تدفعهن نحو ذلك،  توزيعهن في مدارس تبعد كثيراً عن مقر إقامتهن مما يضطرهن لأخذ الإجازات بسبب المراجعات الطبية المتكررة، وحالات الوضع ، أو رعاية الأطفال.    
     يتطلب الحد من هذه الظاهرة تعاوناً أكبر بين وزارتي التربية والتعليم والصحة نحو الاتفاق على آلية معينة لمنح الأجازات، وتشكيل لجان طبية يعرض عليها من يتم استشعار عدم قدرته على العطاء، ومراجعة القوانين المنظمة لأجازات الأمومة والطفولة ، بالإضافة إلى الوقوف على معايير وبنود النقل الداخلي والخارجي، والبحث عن حلول أكثر نجاعة للحد من توزيع المعلمات في أماكن بعيدة عن مقر اقامتهن.
(3)
وأخيراً انفض سامر انتخابات مجلس الشورى في دورته السابعة، بعد أشهر من الحراك الاجتماعي والاقتصادي والفكري المرتبط بها. وعلى الرغم من تشاؤم البعض من جراء سطوة عاملي ( المال + القبيلة ) على نتائج تلك الانتخابات، إلا أنني لدي تفاؤل كبير بالتجربة الحالية، وأرى فيها مقدمة لتجربة أكثر نضجاً في الدورات القادمة ، فلأول مرة  يتم الحديث  بشكل جاد عن أدوار حقيقية للمجلس ينبغي أن يقوم بها كالتشريع ومراقبة أداء الحكومة، و تم طرح مصطلحات سياسية لم تكن مطروحة في السابق، كالعدالة الاجتماعية، والتغيير، والشفافية، ومكافحة الفساد. وتعرف المجتمع على  البرامج الانتخابية للمرشحين، ونظمت لقاءات جماهيرية مباشرة لم تكن متاحة في السابق. و كل ذلك من شأنه أن يثير حراكاً مجتمعياً مهماً خلال الفترة القادمة، ووعياً أكبر في مدى تقبل المجتمع لدور المجلس وأهميته، ويبشر بتحول سياسي قادم في أداء المجلس بدلاً من الدور الاجتماعي الغالب حالياً.
أدرك أن هذا التحول لن يأت بتلك السهولة، بل هو بحاجة لشيء من الحراك الفكري المتواصل، ومراجعة دقيقة للتجربة الحالية، ولبرامج انتخابية متوافقة مع الواقع السياسي والاجتماعي للمجتمع، ولأشخاص لديهم رصيد من الرضا والتقدير في المجتمع.  



(4)
"دروس خصوصية للطلاب في مادة.....". إعلان قرأته في واجهة إحدى المكتبات التي تبيع المستلزمات المدرسية.
كثيراً من مداد الحبر قد سال في التحذير من خطورة استشراء مثل هذه الظاهرة السلبية، وكثيراً من المقالات الفكرية قد دبجت في هذا الموضوع. ويبدو أن التهاون في اتخاذ الإجراءات الرادعة قد أغرى البعض نحو الظهور العلني والترويج لبضاعته.
لابد من وقفة مجتمعية تجاه هذه الظاهرة الدخيلة.
 (5)
وادي سال  - لمن لم يسمع عنه – هو أحد الأودية الجميلة التي تقع في قلب ولاية جعلان بني بو علي، وعلى بعد 31 كم منها،  ويمتاز  بمقومات طبيعية رائعة منها :اعتدال جوه طوال العام، وانبساط تربته، والبرك المائية الجميلة المنتشرة في أرجاءه، وكثرة أشجار الغاف التي تطوقه، مشكـــلة غابات ظليلة متشابكة  تصلح للتخييم والاستجمام، مما يجعل الوادي متنفساً حقيقياً للكثير من الأسر والأفراد خلال فترة الإجازات .
كان الوادي يمتاز كذلك بخصوبة أراضيه، ووفرة مياهه، وكان يضرب به المثل في جودة (بطيخه) و(رطبه)، ولهذا كانت قراه مليئة بالسكان من قبائل شتى، وكان النشاط الزراعي والرعوي فيه على أشده. وفجأة حل المحل والجفاف بآباره، وهجره كثير من سكانه إلى مركز الولاية، وأصبحت كثير من بيوته ومزارعه في طي النسيان.
دعوة للمختصين في وزارتي السياحة، والزراعة لزيارة الوادي، وإيجاد خطط تنموية للنهوض بالنشاط الاقتصادي والسياحي فيه. هناك كثير من المشاريع المتنوعة التي يمكن أن تلاقي النجاح، وتعيد لهذا الوادي أهميته ومكانته.

(6)
كثيراً ما قرأنا عند تصفحنا للتاريخ الإسلامي عن شخصيات عظيمة  كانت توازي بانجازاتها وبطولاتها آلافاً من الرجال، ولهذا فقد سطعت شمس الحضارة الإسلامية على كثير من الأمم والشعوب، وانتشر تأثيرها في كافة أرجاء المعمورة.
أكتب هذا الكلام بعدما تابعت الصفقة التي تم التوصل لها بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، والتي تضمنت الإفراج عن 1000 معتقل فلسطيني مقابل الجندي الإسرائيلي المختطف جلعاد شاليط ، وعن حالة الفرح (الهستيرية) التي انتابت البعض على اعتباره انجازاً عظيماً  لنا، وهزيمة (نكراء) للطرف الآخر.
ألهذا الحد أصبح الإنسان العربي المسلم رخيصاً؟
(7)
من  جميل ما قاله الشاعر البهاء زهير:
يا أحسنَ الناسِ يا من لا أبوحُ به
                                       يا مَنْ تَجَنّى وَما أحْلى تَجَنّيهِ
قد أتعسَ اللهُ عيناً صرتَ توحشها
                                   وأسعَدَ الله قَلباً صرْتَ تأوِيهِ
مولايَ أصبحَ وجدي فيكَ مشتهراً
                               فكيفَ أسترهُ أمْ كيفَ أخفيهِ
وصارَ ذِكْريَ للواشي بهِ وَلَعٌ
                            لقد تكلفَ أمراً ليسَ يعنيهِ
فمنْ أذاعَ حديثاً كنتُ أكتمهُ
                        حتى وَجدتُ نَسيمَ الرّوْض يَرْويهِ
فيا رَسولي تَضَرّعْ في السّؤالِ لَهُ
                      عَسَاكَ تَعطِفُهُ نَحوي وتَثْنيهِ

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 17 أكتوبر 2011

"وانفـض السـامر"


   جريدة الرؤية - الاثنين 17/10/2011م
 في الوقت الذي توجـــه فيه عشرات الألوف من الناخبين إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يمثلهم في مجلس الشورى، وفي الوقت الذي فرح فيه الكثير من الموظفين بعدم ذهابهم إلى أماكن عملهم في هذا اليوم، بحجة ممارستهم لواجبهم الانتخابي، كان (العم) راشد نائماً ملء جفونه تحت ظل صخرة كبيرة اعتاد أن يرتاح بجوارها، بعد أن عاد من رحلته الصباحية اليومية في متابعة أحوال مزرعته المتواضعة، والتي تبدأ بعد صلاة الفجر، برغم سنوات عمره التي تجاوزت الثمانين، وكأنه غير مكترث بما يحدث حوله من حراك.
قد تكون سنوات عمره الكبيرة، وتواضع هيئته، وانشغاله اليومي بطلب الرزق، هي من بين الأسباب التي جعلته يبدو بعيداً عن المشهد، ولهذه الأسباب ربما لم يأته من يقنعه بأهمية تفعيل بطاقته الانتخابية،وممارسة حقه الانتخابي كمواطن صالح، وربما لم يسمع بمصطلحات كالانترنت و"الفيس بوك" و"التويتر" ومنتديات الحوار، كي يجد من يحاوره من خلف الشاشة حول أهمية الاختيار المناسب للمرشح، أو بمقاطعة التصويت كون المجلس قاصر السلطات. وربما لم  يأت من (يدس) في يده ورقة مالية كي يختار (فلان) كونه المرشح الأنسب للقضاء على الفساد، و لم يستدعه (رشيد) القبيلة ليحثــه على ضرورة اختيار (علان)ابن القبيلة، والذي سيسهم في الحد من المحسوبية، وقد تكون (أميته) القرائية قد منعته من الاطلاع على البرنامج الانتخابي للمرشح (ترتان )، والذي يؤكد على أن (صوتك أمانة)، ولهذا فإن عليك أن ترشح صاحب البرنامج لا أن تختار غيره.
       وربما لأحد هذه الأسباب كذلك لم يحرص على أن يفتح الراديو صباح ذلك اليوم ليستمع إلى جمل وعبارات رنانة من نوعية( العرس الديمقراطي )، و(الوعي العالي للمواطن)، و(قمة النضج الفكري) ، وعلى أن حرص المواطنين الكبير على إنجاح العملية الانتخابية، واقتناعهم بأهمية الدور الذي يقوم به المجلس  هو من دفعهم نحو التوجه إلى صناديق الاقتراع منذ الصباح الباكر، وحتى قبل أن تبدأ العملية الانتخابية، لكي يختاروا من يرونه مناسباً. وهي عبارات ما زالت تؤكد على سيادة مناخ (التطبيل) الإعلامي الفج، في الوقت الذي كانت فيه (باصات) النقل الجماعي تنقل مئات المرشـــــحين إلى صناديق الاقتراع، وفي ذات الوقت الذي كانت فيه (القدور) تفوح بما لذ وطاب في الساحات القريبة من بيوت بعض المترشحين.
ومع أن كثيراً  من المترشحين قد حرصوا على (الزج) بفئة كبار السن والمعوزين أمثاله، في برامجهم الانتخابية، فإنـﱠﱠﱠـه لا يبدو مهتماً بمعرفة أسماء المرشحين الفائزين بعد أن انفض السامر، أو بما سيفعلونه من أجله، وأنا الذي لم يقدر لي أن رأيته يوماً ما مشغولاً بغير (جونيته) التي يحملها على ظهره في رحلة عودته وإيابه، وربما كذلك لأنه يدرك أن مثل هذه البرامج قد وضعت لمجرد( الشو ) الإعلامي، أو التسول الانتخابي لأصوات أمثاله، فأين هذه البرامج طوال الفترات الماضية؟ ولماذا لا يتم تذكرهم سوى في مواسم الانتخابات؟
قد لا يهتم العم (راشد) في غفوته تلك، بمعرفة  أن هناك من ينظر للأمر بسوداوية قائمة على حقيقة تحمل في طيــاتها أن الوعي بأهمية المجلس ودوره ما زال ضعيفاً وسط شرائح مجتمعية كبيرة، وأن السلبية (القاتلة) ما زالت تسيطر على فئات لا بأس بها من الشباب الذين يمكن أن يحدث على أيديهم التغيير المجتمعي الايجابي، وعلى أن سطوة المال، وانتشار ثقافة (القبيلة أولاً) مازالت تسهم في تحديد هوية كثير من الفائزين بمقاعد المجلس، وأن كل الجوانب الايجابية التي أبداها كثير من المترشحين من أفكار نيــرة ، وحماس متــقد، وطيبة زائدة،  وكرم حاتمي، وتواصل مجتمعي ملحوظ، وحرص على خدمة الناس، ، قد تذهب إلى بيات شتوي وصيفي مطول حتى الدورة القادمة.
وربما لن تحدثه أحلامه عن فريق آخر متفائل كثيراً بالتجربة الحالية، ويرى فيها مقدمة لتجربة أكثر نضجاً في المراحل القادمة، ولتحول سياسي قادم في أداء المجلس بدلاً من الدور الاجتماعي الغالب حالياً، وأن هذا الفريق يراهن على فوز عدد من الشخصيات الجديدة  التي ستأتي من خارج إطار ثقافة (المال والقبيلة)، وأن مجرد فوزهم يعد انتصاراً لفكرة التغيير التي يراهنون عليها مستقبلاً،  ومبررهم في تفاؤلهم هذا  هو حدوث إرهاصات كثيرة تدل على ذلك ، فلأول مرة  يتم الحديث  بشكل جاد عن أدوار حقيقية للمجلس ينبغي أن يقوم بها كالتشريع ومراقبة أداء الحكومة، بعد أن كانت الفكرة السائدة هي أن دور العضو ينحصر في مرافقة البعض لمقابلة المسئول الفلاني، أو المطالبة بخدمة مجتمعية معينة، أو كفالة شخص ما، ولأول مرة تطرح مصطلحات سياسية كسيادة دولة القانون، والعدالة الاجتماعية، والتغيير، والشفافية، ومكافحة الفساد،بعد أن كان الحديث عنها يعد من التابوهات المحرمة، ولأول مرة يتم وضع برامج انتخابية لكل مرشح، ولقاءات جماهيرية، وإدارة للحملات، بعد أن كان الاعتماد في السابق على السمعة القبلية أو الوضع المادي. صحيح أن كثير من هذه البرامج كانت غير ناضجة، وصحيح أن بعض المرشحين لم يكونوا على وعي كاف بما تتضمنه  برامجهم من أفكار (كبيرة)، ولكن كل ذلك من شأنه أن يثير حراكاً مجتمعياً مهماً خلال الفترة القادمة ، ويمكن أن تأتي الدورة الثامنة من عمر المجلس بعد (4) سنوات ، وقد تغيرت مفاهيم ومصطلحات كثيرة، ويمكن أن يلاحظ وقتها نضجاً أشمل في البرامج المقدمة، وتحديداً أدق لمحاور هذه البرامج، ووعياً أكبر في مدى تقبل المجتمع لدور المجلس وأهميته، وانحساراً ملحوظاً لعمليات التلاعب المتعلقة بالترشح، في ظل هذا الوعي، وحرصاً أكبر في عملية الترشح، خاصة في ظل اهتمام عدد من الشباب المثقف  بخوض التجربة، وفي ظل انفتاح (جزئي) في  حرية طرح بعض وسائل الإعلام، وفي ظل ثورة تكنولوجية هائلة متمثلة في المنتديات السياسية ومواقع التواصل الاجتماعي،  بشرط أن لا يمنع هذا التفاؤل من تسليط سهام النقد لأية ممارسات مجتمعية خاطئة أو قاصرة، لأنه بدون النقد والحوار والنقاش الفكري فلن يصل المجتمع إلى ما يصبو إليه، وما زال هناك مخاض عسير  للوصول إلى تجربة بعض المجتمعات المتقدمة ديمقراطياً، فالعبء الأكبر في التغيير يقع على المجتمع بمؤسساته المجتمعية، ومهما تغيرت مئات القوانين، وأعطيت آلاف السلطات والتشريعات، فلن يحدث ذلك التغيير المنتظر في ظل سلبية المجتمع.
قد يكون الأمر الوحيد الذي يشغل ( العم راشد) في غفوته الصباحية هو ماذا سيفعل خلال الساعات القادمة من عمل، وما كمية المحصول الذي سيجمعه في نهاية اليوم، وهل سيجد من يقف له كي يوصله إلى المكان الذي اعتاد أن يبيع فيه محصوله المتواضع كل يوم؟
إنني أفكر جدياً في أن أقنع  بعض زملائي كي نختاره مرشحاً لنا في الدورة القادمة، وقتها لن يتضمن برنامجه الانتخابي سوى جملة واحدة فقط "قليل من الكلام..كثير من العمل"
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


الخميس، 13 أكتوبر 2011

مواقف حياتيــة (4)


جريدة عمان - الخميس 13/10/2011م
هذه مواقف حياتية نصادفها يومياً.. نعرضها ليس من باب النقد، ولكن من أجل أن تكون الرؤية أكثر جمالاً ووضوحاً.
(1)
    كثرت في الآونة الأخيرة حالات الإصابة بالأمراض الخبيثة كالسرطانات بأنواعها، والأورام الخبيثة، والتهاب الكبد الوبائي، وغيرها من هذه الأمراض الفتاكة، وأصبحنا نفجع كل يوم بحالات وفاة لعدد من الزملاء والأصدقاء والمعارف بسببها، والمؤلم أن بعضهم يفاجأ بأن المرض قد وصل مراحله النهائية دون أن يدر بذلك.
أما آن الأوان نحو التفكير في إقامة مراكز ومعاهد طبية متخصصة على أعلى مستوى تعنى بمثل هذه الأمراض؟
(2)
(هاتف البشرى)، (لتهنأ بما حزت من منصب)، (موطن الأحرار) نماذج لأغاني وطنية جميله طالما عشنا على معانيها المعبرة ، ومازالت تعيش في وجدان البعض منــــا. ترى هل يعرف الجيل الحالي هذه الأغاني ، وهل سمعوا عن المرحوم (عبد الله الصفراوي) أو (نوال بنت سيف) وغيرهم ممن حملوا لواء الأغنية الوطنية في فترة من الزمن؟
نحتاج إلى مشروع وطني لجمع مثل هذه الأعمال وتوزيعها، علـــها تحرك شيئاً من المشاعر الوطنية الجميلة التي نحن في أشد الحاجة إليها هذه الأيام.


(3)
1000 بعثة دراسية يتضمنها برنامج "الألف بعثة" لمرحلتي الماجستير والدكتوراه، والذي سيتم تطبيقه اعتباراً من العام الأكاديمي الحالي  2011/2012م ، بواقع (200) بعثة كل عام ، وذلك بناء على توجيهات سامية تؤكد مدى اهتمام القيادة الحكيمة بأهمية العلم ودوره في تقدم الأمم والشعوب.
السؤال المطروح هو عن  مصير هذه الكوادر بعد حصولها على الشهادات العليا في التخصصات المختلفة؟هل هناك خطط مدروسة للاستفادة منهم ومن حصيلة ما درسوه، وهل هناك مراكز علمية يمكن أن تستوعبهم؟ أم سيكون مصيرهم كمصير كثير ممن سبقوهم والذين  تعج بهم مكاتب المؤسسات الحكومية المختلفة؟
(4)
تضمنت كثير من البرامج الانتخابية للمترشحين لعضوية مجلس الشورى الاهتمام بفئات الفقراء وكبار السن والمعوقين كأحد المحاور الرئيسية ، واشتملت على خطط وفعاليات متنوعة في هذا الجانب.
هل هي قناعة منهم بضرورة الاهتمام بمثل هذه الفئات، وهل سيتم الاهتمام بهم بالفعل في حالة التوفيق أو عدمه ، أم أنها نوع من الشو الإعلامي، والتســــول الانتخابي لأصواتهم.
(5)
عندما تذكر موانئ الشرق يأتي ميناء صور كرقم صعب بينها. لكن صور الحالية لا تمت بصلة لصور الميناء الشهير،  فمعظم بيوتها الأثرية قد هدمت، والبقية تنتظر الدور ، ومصانع سفنها التي انطلقت تجوب العالم حاملة مشاعل النور والحضارة قد أقفلت، وشخصياتها التي برعت في مجال الملاحة والفن والأدب وبقية المجالات  منزوية في صمت مؤلم تنتظر من يأتي لينهل  من فيض خبرتهم وخلاصة تجربتهم الحياتية.
 متى ستعود لصور  ريادتها التجارية والحضارية بين موانئ المنطقة، ومتى نرى خورها يعج بحركة السفن التجارية والسياحية، ومتى تعود عجلة العمل لمصانع سفنها التي دوت شهرتها الآفاق، وهل يمكن أن يتصدر المشهد إنشاء مركز ثقافي يحفظ تاريخ المكان ويوثق تراثه؟
(6)
يحدث أن يفكر أحدهم في مشروع تجاري ما قد تحتاجه المدينة، كافتتاح مطعم متخصص في مأكولات معينة، أو مقهى خاص بأنواع محددة من المشروبات، أو محل تقنيات معين، أو أي مشروع جديد آخر، وما إن يتم افتتاح هذا المشروع، إلا وتجد عشرات المشاريع المشابهة قد تم افتتاحها خلال فترة وجيزة، برغم عدم استيعاب السوق لها، الأمر الذي يترتب عليه إقفال بعض هذه المشاريع تباعاً، وحالة إحباط تصيب صاحب الفكرة الأساسية عندما يرى فكرته ومشروعه الذي تعب كثيراً من أجل تحقيقه عرضه للتقليد من قبل الآخرين.
أين الجهات المسئولة عن إعطاء التصاريح التجارية من هذه الظاهرة؟
 (7)
    حدث هذا المشهد أمام ناظري في عصر أحد الأيام، قطيع من الأغنام  يعبر أحد الساحات القريبة من البيت، وسط هذا القطيع (شاه) تعاني من كسر في إحدى رجليها، تمشي ببطء بجوار رفيقاتها اللواتي يحطن بها من كل جانب، ويحاولن مسايرتها في حركتها البطيئة في مشهد أدهشني وجعلني أتوقف مجبراً لتأمله.
تابعت المشهد حتى اختفى "القطيع" في إحدى الأزقة الجانبية، ولسان حالي يتساءل:ترى  هل نحتاج نحن بني البشر لمثل هذا التكافل والإحساس بالآخر؟
 (8)
من بكائيات الشاعرالعباسي ديك الجن الحمصي:
وَدَّعْتُها لِفِراقٍ فاشْتَكَتْ كَبِدِي
                                           إِذْ شَبّكَتْ يَدَها مِنْ لَوْعَةٍ بِيَدِي
وحاذَرَتْ أَعْيُنَ الواشِينَ فانْصَرَفَتْ
                                                 تَعَضُّ مِنْ غَيْظِها العُنّابَ بالبَرَدِ
فكانَ أَوَّلُ عَهْدِ العَيْنِ يومَ نَأَتْ
                       بالدَّمْعِ آخِرُ عَهْدِ القَلْبِ بالجَلَدِ

جَسَّ الطّبيبَ يَدي جَهْلاً فقلتُ لهُ
                   إِنَّ المَحَبّةَ في قَلْبي فَخَلِّ يَدي

ليسَ اصْفِراري لِحُمّى خامَرَتْ بَدَني
                                   لكنَّ نارَ الهوى تَلْتَاحُ في كَبِدِي

فقال هذا سَقَامٌ لا دَواءَ لَهُ
                                    إِلاَّ بِرُؤْيَةِ مَنْ تَهْواهُ يا سَنَدِي
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com