الثلاثاء، 30 يونيو 2015

رمضان في ذاكرتي

أثناء إعدادها لبرنامجها الإذاعيّ الرمضانيّ "رمضان في ذاكرتهم" طلبت مني المذيعة المتألّقة نايلة بنت ناصر البلوشية أن أسرد شيئاً من ذكرياتي البسيطة مع الشهر الفضيل، ومع أنّني حاولت الاعتذار كون أنّ هناك من هم أقدر منّي على سرد ذكرياتهم إلا أنّ إصرارها كان أقوى، وهي ثقة أعتزّ بها من مذيعة مثقّفة بحجمها.

الحديث عن ذكريات رمضان بالنّسبة لي أمر قد يلامسه شيء من الحيرة في تحديد البداية والنهاية، ذلك أنّني قضيت رمضان في أكثر من بيئة تمتاز كلّ منها بعبق خاص قد يختلف قليلاً أو كثيراً عن الأخريات ابتداءً بالقرية وانتهاء بدولة مثل مصر، مروراً بالعاصمة وعدّة ولايات، ولكنّها في مجملها كانت ذكريات جميلة وأليمة وطريفة عايشتها في هذا الشهر كما عايشها غيري من أبناء جيلي ومن سبقه وتلاه ما زالت حاضرة في الوجدان ولا يمكن البوح بها جميعاً في هذه العجالة، ويمكنني القول إنني من الجيل الذي لحق على متعة رمضان الحقيقية بلمّته الجميلة، ولياليه الروحانيّة، وسهراته الرائعة، وبقيمة الإحساس بالآخر برغم المصاعب التي كانت تطرأ أحياناً لظروف مختلفة كالجو والامكانات وغيرها.

أنا من الجيل الذي كان يعتقد فعلاً أن رمضان شيء مقدّس لا يجوز فيه الكذب أو ترك الصلاة او سماع الأغاني، أو حتى بلع اللّعاب، وكان ارتيادنا للمسجد منذ الصباح الباكر وكل منّا يمسك بمصحفه خاصة لو صادف دخول الشهر وقت عطلة من الأمور التي لا يمكن نسيانها، وكثيراً ما كنّا نتحدى بعض بقدرة تحملنا على الاستمرارية في صيام اليوم. 

من الجيل الذي حظي بمتعة الافطار في الحارة مع النّساء والأطفال عندما كانت هذه العادة لا تزال باقية، وفي المسجد مع الكبار عندما كان الجميع يحرص على ذلك، والذي كان يتسابق مع أقرانه على من يصل بالافطار المرسل من منزله إلى المسجد أو إلى بيوت الجيران أولاً، وعلى من يقوم بتقديم القهوة للكبار بعد الانتهاء من أداء صلاة المغرب.

من الجيل الذي عايش شراء قوالب الثلج عندما لم تكن الثلاجات متوفرة كما هي اليوم، والذي كان يسدل الشراشف المبللة على جسده عندما كانت الكهرباء تنقطع أحيانا أو بسبب عدم تغطيتها لكافّة الأماكن وقتها، والذي كان ينتظر بلهفة قدوم الشّهر كي يتذوّق طعم الفيمتو، ويحلّي بلقمة القاضي في وقت لم يكن المجتمع قد عرف بعد الوصفات التلفزيونيّة الغريبة، والمأكولات الجاهزة كما هو الحال الآن! والذي طالما تلذّذ برائحة الكاستر وهي تفور في النار، واختلف مع أخيه الأكبر منه على من يظفر ببقاياها في القدر كي يتناولها وهي مازالت ساخنة، وما ألذّه من طعم.

من الجيل الذي تعلم الذهاب وهو طفل لأداء صلاة التراويح وكثيراً ما كان النوم يغالبه على رجل والدته، ثم حرص على أدائها مع الكبار عندما شبّ قليلاً، ولا بأس بأداء نصفها ثم استكمال الوقت المتبقي أمام باب المسجد أو في الساحة القريبة منه لممارسة بعض الألعاب الشعبيّة التي اندثرت أو كادت، والتي قد لا يعرف عنها بعض من أبناء الجيل الحالي الشيء الكثير. وقتها كانت طقوس الصلاة تمتد لقراءة القرآن والأدعية، وتختتم بصواني الفوالة ووجبات العشاء التي كان يحرص كل بيت على إرسالها للمسجد.

من الجيل الذي رافق صالح زعل وسعود الدرمكي في مسيرة دراميّة رمضانيّة طويلة منذ الشايب خلف في مسافر خانه مروراً بجحا وحماره وعايش زمانه (وتبقى الأرض),(اباء وأبناء),(جمعه في مهب الريح),(سعيد وسعيده),(قرائه في دفتر منسي)، وغيرها من الاعمال الدرامية الاذاعية والتلفزيونية التي مازالت حاضرة في الوجدان، وحفظ أسماء من أمثال صالح شويرد، والمرحوم سعد القبان، والاخوان ماهر ومهران البرواني، وأمينة موسى،  وجمعه هيكل، وطالب محمد، وأمينة عبد الرسول، وصالح محفوظ، وهادي السرحاني، وايمان محمد وغيرهم ممن أسهموا في خارطة الدراما العمانية، والذي اختفى بعضهم فجأة تاركاً تساؤلات مختلفة حول أسباب هذا الاختفاء!

من الجيل الذي ارعبه غانم الصالح كامل الأوصاف اللي يخوّف وما يخاف، والذي كره خالد العبيد أو علقم علقم مر ومدلقم في (مدينة الرياح)، والذي مازال يحفظ بعضاً من أغنية المقدمة لمسلسل (خالتي قماشه). الجيل الذي لم يفهم وقتها عمّ كانت تتحدث فوازير نيللي، والذي مازال يتذكر دور سعود الدرمكي ملك ليون، وصالح زعل في دور ابن عبّاد حاكم اشبيليه في (الشعر ديوان العرب) ذلك العمل الدرامي العماني الرائع الذي أتمنى أن يعاد عرضه مرّات ومرّات. الجيل الذي استمتع بمسلسلات خالدة من نوعيّة (الشهد والدموع)، و(ليالي الحلميّة)، و(أرابيسك)، و(أيام شامية)،و(الجوارح) وغيرها من المسلسلات الباقية أحداثها في الذاكرة عندما كان تلفزيون سلطنة عمان هو الوسيلة الإعلاميّة المرئيّة الوحيدة التي تتوجّه إليها الانظار قبل أن نبتلى بإسهال البرامج والمسلسلات كما هو الحال الآن.

من الجيل الذي عايش فوازير "حميد" أو الفنّان هاني القاضي وقتها، والجرّاح المعروف حاليّاً وتنقّل مع كاميرته بين ملامح عمانية جميلة، وكان يهتم بحلّ الفوازير المتنوّعة التي كانت تقدم في الاذاعة والتلفزيون، وأسئلة المسابقات المطروحة في الصحف المحلّيّة والتي أضافت الكثير من المعلومات المتنوّعة، أملاً في ظفر جائزة كانت تعدّ ثمينة بمقاييس تلك الأيّام.

أنا من الجيل الذي أسعده القدر بأن يعايش رمضان في لحظاته الجميلة الأخيرة وأن يلحق على شيء من ذلك الجمال وتلك الرّوحانيّة والصدق التي حظي بها قبل أن تجتاحه حمّى التناقضات التي نراها حاليّاً والتي طغت على كثير من الممارسات والسّلوكيّات بحيث لم يعد من روحانيّات الشهر ونقاءه سوى القليل، فحلّت المقاهي والدّورات الكرويّة محلّ المساجد، واستبدلت البرامج والمسلسلات الهادفة بأخرى لا همّ لها سوى لهف الجيوب والتّسابق على الاعلانات، وكادت البساطة في الشراء وإعداد الوجبات أن تختفي أمام هوس الشراء العبثي الذي أصبح سمة تميّز الشهر، وأصبح (الآي باد) و(التاب) بديلاً للألعاب الشعبيّة التي كان الأطفال يمارسونها كلّ ليلة حتّى تدركهم إغفاءة النوم، وأصبح الكثير يتحرّج من ذهابه للإفطار في المسجد، وقس على ذلك تناقضات أخرى في الملبس والإعلام وغيرها، فهل ستعود لهذا الشهر شيئاً من جماليّته وروحانيّته ونقاءه يوماً ما؟!!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.