"أكد الدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة
المصري أن الوزارة وضعت خطّة فعّالة لإنشاء بيوت ثقافة بالقرى المحرومة على مستوى الجمهورية
باستثمارات تبلغ 100 مليون جنيه, وذلك للمساهمة في تنمية المواهب الثقافية"
خبر قرأته صبيحة هذا اليوم بأحد المواقع الإخباريّة
يتناول توسعة خريطة النّشاط الثّقافي بمصر والتي تجاوزت أكثر من (550) موقعاً ثقافيّاً
متنوعاً ما بين قصر وبيت وقصر طفل ومكتبة تغطّى جميع أنحاء الجمهورية، تهدف إلى المشاركة في رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي
للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والتشكيلية ونشاط الطفل
وخدمات المكتبات في المحافظات وتشكل ملتقى للإبداع الأدبي والفنّي والنشاط الثقافي.
وأنا أقرأ الخبر السّابق جال بخاطري (استجداء) ابني وهو
يخاطبني قائلاً: أبوي اشتري لي (آي باد) أو شلنا دبي، الإجازة طويلة وكلها ملل!! تذكّرت
كذلك طفولتي التي كان أقصى نشاط هادف يمكن أن نمارسه هو مباريات كرة القدم
الصّباحيّة والمسائيّة، أو شراء كتيّب يحتوي على بعض المسابقات الثّقافيّة، وباستثناء
بعض الأعمال التي كنّا نقوم بها كمساعدة العائلة في أعمال الحصاد وقت القيض مثلاً،
فإنّ بقيّة الأوقات كانت تذهب سدى في تجمّعات فارغة من المحتوى الفكريّ
والثّقافيّ.
وللأسف، فبعد مرور سنوات عديدة على تلك الذّكريات إلا
أنّ الواقع يكاد يكون هو ذاته - أعني البنية التّحتيّة الثّقافيّة - إن لم يكن
أسوأ، ففي ذلك الوقت كانت الأندية ( التي يقتصر وجودها على مراكز بعض الولايات)
تقيم بعض الفعاليّات الثّقافيّة من معسكرات ومسابقات ثقافيّة وحفلات وطنيّة
وغيرها، وكان الإقبال عليها كبيراً، إذ لم تكن توجد أنشطة سواها تستفرغ طاقات
الفتية والشّباب تجاه ذواتهم ومجتمعهم. ورغم قلّة تلك الأنشطة إلا أنّه كان لها من
الأثر الإيجابي ما لا يمكن نكرانه.
أمّا الآن فبالرّغم ممّا قد نقوله عن هذا النّوع من
النّشاطات وكثرة الجهات المنظّمة حكوميّة أو مجتمعيّة إلا أنّ نطاق أثرها في تنمية
الحياة الثقافيّة لدى الفرد والمجتمع لا يزال ضيّقاً، ولا شكّ أنّ هناك من الأسباب
وراء ذلك ما هو معلوم لدى المعنيّين والمتابعين والمهتمّين.
ولعلّ أبرز تلك الأسباب يتمثّل في عدم صفاء الأجواء بين
المنشغلين على النّشاطات الثقافيّة، وضعف الوفاء كذلك للرسالة الثقافيّة وفاءً
مجرّداً لقيمة الثّقافة ومضمونها العام دونما تحزّب لتيّار وإقصاء لآخر، بما يشير
إلى غياب الرّؤية الاستراتيجيّة لغايات الثقافة البانية للفرد والمجتمع.
وفي هذا السّياق لا زلت أسأل نفسي (والآخرين أحياناً)
بعض الأسئلة التي لا أجد لها إجابة شافية أو وافية، والتي من بينها: لماذا لا تهتم
الجهات المسئولة عن الثّقافة بتنمية المجتمع ثقافيّاً من خلال إنشاء مراكز وبيوت
ثقافيّة يستطيع الشّباب من خلالها ممارسة أنشطتهم المختلفة، وصقل مواهبهم
ومهاراتهم المتنوّعة؟! وأين هي المسارح، والمراسم، والأندية العلميّة، وقاعات المطالعة، والمكتبات
عن قرانا وولاياتنا؟! وهل يعقل أن أزور قرية نائيّة في أقصى صعيد مصر لأجد بها
مؤسّسة ثقافيّة متكاملة تدعى "قصر الثّقافة" ولا أجد مكتبة عامّة في
أيّة ولاية من ولايات السّلطنة( عدا بضعة مكتبات تكفّل المجتمع بإنشائها)؟! وأين
تكمن المشكلة بالضّبط: هل في الإمكانات، أم في اللامبالاة وعدم الإحساس بوجود ما
يستدعي الاهتمام بهذا الجانب؟! أولا
ينصّ النّظام الأساسي للدولة في المادّة (13) على أن "ترعى الدولة التراث الوطني وتحافظ عليه، وتشجع
العلوم والفنون والآداب والبحوث العلمية وتساعد على نشرها"!!
بل وكيف لنا أن نعالج بعض الإشكالات المتعلّقة بقضايا
المواطنة والهويّة والعولمة، والتنشئة السياسية، وثقافة العمل والإنتاج، وثقافة العمل
التطوعي، أو ثقافة الحقوق والواجبات، وغيرها من الثقافات في ظلّ عدم وجود حاضنات
ثقافيّة وفكريّة توجّه هؤلاء الشّباب وتوفّر لهم فرص الاندماج والانخراط في قضايا
المجتمع المختلفة؟!
وليتخيّل أحدكم معي وضع الأطفال أو الفتية أو الشّباب في
قرية ما مع ابتداء الإجازة الصيفيّة ( أو
حتّى في بقيّة أيام السّنة): كيف سيقضي هؤلاء أوقاتهم الطّويلة في ظلّ عدم وجود
حتّى (كشك) صغير لبيع الصّحف؟! وما الذي تتوقّعونه منهم أن يفعلوه طوال أيّام
الإجازة؟! وما البدائل التي سيقبلون عليها لشغل أوقات فراغهم؟! ولماذا لا يكون من
حقّ هؤلاء ارتياد مكتبة، أو المشاركة في معسكر عمل، أو حضور بعض ورش العمل التي
تناسب ميولهم واهتماماتهم، أو تنظيم رحلات داخليّة أو خارجيّة يتعرّفون من خلالها
على ما يحيط بهم من مجتمعات؟! بل وماذا لو أتى من يحاول القيام بالدور البديل للحكومة
في هذا الجانب!! أولا يمكن أن نتوقّع انجذاب شريحة من هؤلاء للأفكار البديلة التي
ستقدّم في ظلّ تعطّشهم لأيّ برنامج فكري يمكن أن يملأ عليهم أوقات فراغهم!!
وقد يقول قائل: ولكن هناك بالفعل أنشطة متنوّعة تقيمها
الجهات المسئولة عن الشّباب كبرامج "صيف الرياضة"، وتنظيم عدد من الملتقيات، ومعسكرات شباب الأندية، والرّحلات
الشّبابيّة، عدا الفعاليّات التي تقيمها بعض المؤسّسات الحكوميّة والخاصة، وكلّها
تخاطب الصّغار والشباب وتوفّر لهم مناخاً مناسباً يتمكّنون من خلاله من ممارسة
أنشطتهم المتنوّعة، وقضاء وقت فراغهم!!
مع
تقديري لكل هذه الأنشطة إلا أنّها تبقى أنشطة فصليّة أو موسميّة، كما أنّه وبحسب
خبرتي المتواضعة في المشاركات السّابقة بها، فإن كثير من الأسماء المشاركة هي
ذاتها، عدا أنّ معظم هذه الأنشطة تنفّذ في العاصمة ومراكز المحافظات وبالتّالي
فإنّ الاستفادة منها لا تكون بالشّكل المطلوب، ولا تخاطب شباب القرى والولايات
البعيدة إلا فيما ندر.
إنّ وجود مراكز ثقافيّة دائمة جنباً إلى جنب مع المدرسة
والمسجد والمركز الصّحّي وغيرها من المؤسّسات الأخرى من شأنه أن يحقّق كثيراً من
الأمور الإيجابيّة التي ستعود بالنّفع على الفرد والمجتمع لعلّ من بينها على سبيل
المثال لا الحصر: توفير مناخ فكري واجتماعي مناسب لشرائح مجتمعيّة مهمّة لقضاء
أوقات فراغهم واستغلال طاقاتهم، وتنشيط الحركة الثّقافيّة، وإذكاء روح البحث والابتكار،
وبروز أدوار ثقافيّة مهمّة لبعض الفنون كالمسرح، والفنون التشكيليّة، والتّصوير
بأنواعه، والمساهمة في تنمية القرى من خلال الدّراسات الميدانيّة، والبحوث التي
تناقش قضايا تهم المجتمع المحلّي كقضايا المرأة والطّفل والتّنمية والانتاج
وغيرها، وأنشطة العمل التّطوّعي، والمحافظة على كثير من مفردات الثقافة العمانية المحلية
التي تعاني صراعاً محموماً مع محاولات التغريب أو الإزالة، بالرغم من أن هذه المفردات
تعد جزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع كأغاني الطفولة الجميلة، وحكايات الجدات والأمهات،
والألعاب الشعبية، والفنون العمانيّة المغنّاة، وغيرها وذلك من خلال الأنشطة التي
ستقوم بها هذه المراكز للحفاظ على هذا الموروث.
لا يهم من سيحمل على عاتقه عبء انشاء هذه المراكز والمؤسّسات:
هل هي الحكومة من خلال خططها السّنويّة أو الخمسيّة الخاصّة بمجال الثقافة، أم هي
المجالس البلديّة التي ينبغي أن يقع على عاتقها تطوير مجتمعاتها المحلّيّة كونها
الأقرب والأدرى باحتياجاتها، أم المجتمع من خلال فرقه الخيريّة وتبرّعات بعض
المحسنين التي ينبغي أن تصب في أعمال أكثر أهمّيّة وجدوى، أم القطاع الخاص من خلال
صناديقه الموجّهة لتنمية المجتمع، أم المؤسّسات الثقافيّة الإقليميّة والدوليّة
التي نحرص على أن نكون من أوائل الدّول الملتزمة بتسديد اشتراكها بينما تذهب
المشاريع المنفّذة لدول أخرى!!المهم أن نشعر بالفعل بأهمّيّة وجود مثل هذه المراكز
كونها حق مكتسب لهذه الفئة العمريّة، وكونها كذلك قد تكون أحد مصادر الأمان
للمجتمع كذلك.
إنّ
الاهتمام بالثقافة ينبغي ألا يقل عن اهتمامنا بقطاعات أخرى نوليها كثيراً من
الرعاية والاهتمام، ذلك أنّ بناء الأوطان لا يأت فقط بحجم منشآتها، أو بمقدار
دخلها، بل يأت كذلك بمدى قدرة الدولة على بناء عقول أفرادها، في ظل تحدّيات ثقافية
هائلة تتعرض لها المجتمعات حالياً، مستهدفة تغيير واقعها وهويّتها الثقافية،
ومحاولةً جرّها نحو العولمة والتغريب الفكري.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.