الأربعاء، 3 يونيو 2015

غيض من ..إزكي (2)


وكأن إزكي تأبى إلا أن تدهشني وتذهلني، بل وتراكم حسرتي في الوقت ذاته!! وكأنّها لسان حالها يقول: ما الذي أخرجك من منزلك لتأتي إلى هنا، وإلى أماكن لن يخلّف رؤيتك لما تبقّى من ملامحها سوى الحسرة والألم! لماذا لا تكتفي كالآخرين باحتساء فنجان قهوة غريبة في مقهى غربيّ شكلاً ومضموناً بأحد المجمّعات التجاريّة الحديثة بدلاً من تألّمك الدّائم على ضياع ما خلّفه أبناء بلدك من تراث عريق هنا وهناك! فبعد كلّ ما رأيته في حارة (اليمن) من عمارة فريدة، ودقّة تخطيط معماريّ، وبعد أن اعتقدت أنّني لن أرى أروع ممّا رأيت ها هي (النّزار) تشارك أختها اليمانيّة في رسم مساحات واسعة من الانبهار على محيّاي، ولأكتشف أنّها لا تقلّ إعجاباً ودهشة عن جارتها السّابقة.

ندخل الحارة من أحد أبوابها لنتجوّل في حاراتها الصّغيرة كالشّعبانيّة، والجنور، وبني حسين، والشّميسي حارة آل الرّقيشي الذين ظهر منهم سلسلة من العلماء لا يسع المقام لذكرهم، فيتضاعف إعجابي لرؤية بيوتها الضخمة بطوابقها العالية التي تدلّ على أصالة ضاربة في عمق التّاريخ، وكعادة كلّ الحارات العمانيّة لا تخلو (النّزار) من المجالس العامّة التي ارتبطت بعدد من أرباب الفكر والأدب والسّياسة، ولا من المساجد التي يعود بعضها إلى تواريخ هجريّة متقدّمة، ولا من أماكن الانشطة الاقتصاديّة المتنوّعة من مزارع وحقول، وتراكيب حلوى، ومعامل نسج وصبغ وغيرها من الأنشطة بحيث تبدو وكأنّها مدينة متكاملة.

المُوَسْوِس الذي بداخلي يعاود الصّراخ: إذا كان لدينا كل هذا التخطيط المعماريّ المحكم، وكلّ هذه الأنماط من العمارة الجميلة فلماذا نستعين بالآخر في تصميم بيوتنا؟! ولماذا لا تدرّس أقسام الهندسة المدنيّة والمعماريّة لدينا نماذج من هذه الأعمال، ولماذا لا يستعان بمن تبقّى من أولئك البنّائين ليقدّموا خلاصة تجربة العماني مع فنّ العمارة؟! ألا تكفي كلّ تلك البيوت والقلاع والحصون التي بقيت لقرون عديدة شاهدة عن دقّة البنّاء العماني، وجودة صنعه!!

ولأنّها شاهدة على أحداث كثيرة في التاريخ العمانيّ، ولأنّها صاحبة فضل على حركة العلم والدّعوة والتدوين في السّلطنة، كان لابدّ لحارات إزكي أن تنجب أسماء عديدة نبغت في مجال الفكر بأنواعه، لذا فقد أسهمت (النّزار) في هذه المسيرة من خلال سلسلة من العلماء من أمثال موسى بن أبي جابر، وموسى بن علي، والفضل بن علي موسى بن موسى، والمنير بن النيّر وأولاد الحواري محمد وفضل والازهر، وعمر بن محمد، وسرحان الازكوي، وعامر بن بشير المحروقي، وعامر بن سليمان، وأبو زيد الرّيامي، وعامر بن محمد البرومي، وسلسلة ستطول حتماً لو شرعت في سرد حلقاتها. يا لعلمائك يا إزكي! يا لتاريخك يا إزكي!

خلال جولتي تلك أقف على باب ذهبيّ ضخم وضع في مدخل إحدى البوّابات، حقّاً أذهلتني ضخامة حجمه، وبراعة نقشه. يقال إنّ من شيّده نجار يدعى الصّحيلي عام (1120)هجري في زمن الإمام قيد الأرض سيف بن سلطان اليعربي، وقد نقشت على فردتيه أبيات شعريّة وددت لو كتبتها لولا ضيق المساحة. يذهلني العمانيّ القديم أينما ارتحلت في أرجاء هذا الوطن، وفي كلّ ولاية أزورها أقف مندهشاً أمام أعماله المختلفة التي قد يعجز جيل اليوم عن الإتيان بها. نظرة متأمّلة لطريقة شقّ أحد الأفلاج، أو تصميم أحد المحاريب، أو كتابة أحد المؤلّفات كافية لتملأ روحك بالدّهشة الممتزجة بالإعجاب والتقدير والترحّم على روح أولئك الرّجال.

أغادر الحارة هابطاً درجات حجريّة تؤدّي بنا إلى مجرى وادي حلفين الذي بنيت الحارة على ضفافه، والذي قد يعدّ الأطول بين أودية عمان قاطبة بمجراه الذي يبدأ من سفوح الجبل الأخضر إلى مياه بحر العرب حيث يصبّ، من هنا يمكن أن ترى الحارة شامخة ببيوتها العالية، وعمارتها المميّزة، نمشي خطوات قليلة وسط الوادي لنتوقّف عند لوحة إرشاديّة سوداء اللون ليشير ناصر إلى فتحة قريبة بها قائلاً: هذا هو كهف (جرنان) الذي كنت تسأل عنه طوال جولتك! إذاً هذا هو الكهف الذي لطالما سمعت عنه وودت دخوله وسبر أغواره وأسراره!  كنت أعتقد أنّه في أعماق الجبال البعيدة لا أسفل حارة النّزار!

كثيرة هي الأساطير المتداولة حول هذا الكهف، لعلّ من أشهرها أنّ أهل المنطقة كانوا يعبدون صنماً على هيئة عجل ذهبيّ يدعى "جرنان" ثم تمّ إخفاؤه داخل الكهف بعد دخول أهل المنطقة الإسلام، ويقال كذلك إن الولاية كانت تسمّى بجرنان في تلك الفترة قبل أن يزكّوا بأنفسهم بدخولهم الإسلام، وتأخذ الولاية اسمها الحالي "إزكي"!

أقف قريباً من مدخل الكهف حيث أحيط بسياج معدنيّ منعاً لدخوله مستذكراً بعض ما قرأته حوله، يقال إنّه يصعب الدخول اليه إلا بشقّ الأنفس بحيث لا يستطيع الإنسان دخوله إلا زاحفاً على بطنه، ويقال كذلك إنّ به عدّة طرق متشعّبة يؤدّي أحدها إلى مكان العجل، وقرأت أيضاً قصصاً عديدة عن أناس حاولوا الدّخول وكشف أسراره ولكنّهم لم يفلحوا في محاولاتهم. تذكّرني كلّ تلك القصص والأقاويل (باللابيرنث) أو المتاهة التي وردت في أساطير الإغريق، وكيف أنّهم حبسوا بها وحشاً يدعى (المينوتور) وهو مزيج من انسان ووحش، وكانوا يقدّمون له في كلّ عام سبعة فتيان أقوياء وسبع فتيات عذارى إلى أن قضى عليه البطل الإغريقيّ (ثيديوس) وخلّص أهل كريت من هذا الكابوس.

ولأنّنا في إزكي فلا يمكن أن تستقيم الزّيارة دون المرور على أحد أبرز معالم الولاية وشعارها، ودون أن نبلّل الجوف بارتشاف قطرات من مائه العذب الذي ظل لقرون طويلة عنوان الحياة في هذا المكان، والذي ظلّ كذلك صامداً مقاوماً برغم كلّ محاولات الغازي الأجنبي لتخريبه وكبسه! عن (الملكي) أتحدث، الفلج الذي يعدّ من أقدم الأفلاج العمانيّة، ودليل من ضمن أدلّة كثيرة على عراقة هذه الولاية، والذي أدرجته منظّمة اليونسكو في قائمة التّراث العالمي، وهو يتفرّع إلى قسمين: أحدهما يروي النّزار، وآخر يسقي اليمن، ويقال إنّ من شدة تدفق مياه هذا الفلج وغزارة جريانه فإنّ سقيه كان يصل إلى أدم!!

تقول كتب التّاريخ العماني إنّ محمّد بن (بور) حاول أن يخرّب الفلج بعد أن دخل عمان إثر انقسام سكّانها على أساس طائفي، وبعد إن استعان أحد الفريقين به كي ينصرهم على الفريق الآخر الذي يشاركهم الوطن والهويّة، فكان أصحاب ابن بور يدفنونه وهو يغلبهم، فأشارت عليهم راعية غنم بأن يستخدموا الصّوف والشجر في سدّ مجاريه، فاستولوا على خرافها كي يسدوا بصوفها فتحاته، فكان جزاؤها "جزاء سنّمار"!!

كانت آخر جولاتنا الإزكويّة في إمطي، حيث أحفاد مالك بن فهم القائد العربيّ الكبير الذي أذلّ الفرس وهزمهم في يوم سّلوت أحد أيّام العرب الثلاثة ضدّ الفرس، والتي تقع في جهة الشّمال من إزكي أسفل سفح الجبل الأخضر العظيم. سمعت عن هذه القرية سابقاً من خلال قراءات متفرّقة، وعرفت عنها أكثر من خلال طلابي الذين قدّموا لي تقريراً سياحيّاً عنها وعن فلجها الجميل. كنت ساعة عرضهم للتقرير المصوّر أتخيّل نفسي على ضفّة ذلك الفلج مسترخياً تحت ظِلّ شجرة وارفة تحيط به، متناولاً بعض حبّات من الرّطب، ومرتشفاً لفنجان قهوة سوداء من تلك التي يجيد سكّان المناطق الداخليّة في عمان صنعها حتى كأنّها أصبحت علامة تجاريّة تسجّل باسمهم! تحقّق الحلم، ولكن لم تحضر القهوة!

أستريح قليلاً في السّبلة السعفيّة المجاورة لالتقاط بعض الصّور التذكاريّة كشاهد على الزّيارة موجّهاً بصري نحو مدخل الحارة الأثريّة(عين السّواد)، التي ما زلت متحسّراً كلّ الحسرة كوني لم أتعمّق في داخلها، محاولاً اكتشاف ما تبقّى من كنوز أثريّة حوتها. أخشى أن حسرتي كانت لتتضاعف لو كنت قد تجوّلت بها ورأيت مظاهر الإهمال والتصدّع بادية على بعض آثارها دون أدنى اهتمام!

انتهت جولتي السريعة في الولاية، ولكن لم تنته بعد قصص الإثارة والتّشويق، فمازالت إزكي تحوي كنوزاً أخرى لم يسعفني الوقت لرؤيتها، وما زالت هناك قرى وحارات عديدة لا تقلّ أهميّة ومكانة تاريخيّة بجوامعها وأفلاجها وحصونها وأبوابها وأسوارها وأبراجها، بل وبعظمة ما صنعته يد الأنسان العمانيّ الذي وجد بها كقاروت، وقلعة العوامر، والقريتين، وشافع، والحميضيين، وزكيت، ومغيوث، وسدي ، وسيما ومقزّح اللتين اشتهرتا في المثل العمانيّ " سيما خت مقزّح"، والأولى كان لي منها أصدقاء أعتزّ بصداقتهم ومعرفتهم من سلالة العالم والقاضي والأديب الكبير الشيخ سيف بن حمد بن شيخان الأغبري، وحارة (الرّحى) التي قال فيها الشّاعر :

ويا طلول بحارات الرّحى اندرست.. رغم الصمود بوجه الريح والمطر.

 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.