الثلاثاء، 25 يونيو 2013

باغي يسكن

( بـاغي يسكــن)

أعرفه منذ سنوات عدّه، شاب طموح له مشاريه العملية والفكرية التي يرغب في تحقيقها، اتصل بي طالباً مشورتي: تعرف أنني انتقلت إلى مسقط بعد أن وجدت نفسي وميولي في وظيفة جديدة، ولذلك بعت بيتي الذي أملكه في البلد أملاً في شراء قطعة أرضٍ مناسبة في أطراف العاصمة، وبناء منزل متواضع يكفل لأولادي حق التمتع بمباهج العاصمة وخدماتها (المميزة) دامت هذه الخدمات مقتصرة عليها لوحدها، ولكن يا فرحة ما تمت، فبعد أشهر من البحث والتقصي كانت النتيجة أن أقل سعر لقطعة أرض في أطراف العاصمة البعيدة حيث الوديان والوهاد، وحيث لا ماء ولا خدمات ولا جار أو ونيس، لا يقل عن آلافٍ عشر فما فوق، بينما لا يقل قيمة كرتون اسمنتي صغير يحتوي على ثلاث غرف عن سبعين من الآلاف. ما الحل؟

قلت له : بسيطة، قدّم على أرض سكنية كبقيّة المواطنين الذين تتساوى معهم في الحقوق والواجبات.
أجاب: لم أنتظر هذه النصيحة وقدّمت كلّ أوراقي بمجرد انتقالي إلى وظيفتي الجديدة، وطلبت منّي أوراق أخرى تثبت اقامتي في العاصمة، وكنت مستبشراً خيراً بعدما أعطيت وصلاً ذهبياً جميلاً عليه أربعة أرقام للاتصال، وظلّ هذا الوصل يزيّن درج مكتبي لمدة ستّة أشهر كاملة. وبعد محاولات اتصال أشبه بمحاولات (ابن فرناس) في الطيران قال لي أحدهم بأن طلبي قد رفض لأني استلمت أرضاَ قبل سنوات عشر في بقعة نائية لم تصلها الخدمات حتّى الآن. مازالت تراودني أسئلة حائرة من قبيل: لماذا طلبوا مني بقيّة الأوراق وأعطوني وصلاً مادام طلبي مرفوض من الأساس، ولماذا لم يتصلوا بي طوال تلك المدّة ما داموا لا يردّون على أحد من الأساس، ولماذا تتزيّن اعلانات الصحف كل يوم بأسماء أشخاص مستحقين لقطع سكنية وتجارية وصناعية مع معرفتي الشخصية بحالة بعضهم التي لا تختلف عني.

قلت له: فلتقدّم على طلب قرض إسكاني من بنك الإسكان فهو يسعى إلى دعم الحركة العمرانية في البلاد من خلال إتاحة  الفرصة للمواطن لامتلاك  المسكن الصحي ليعيش حياة كريمة.
قال: فعلتها والله واتصلت، بعد محاولات عسيرة في المرّة الأولى كان الرد بأن عليّ أن أنتظر لمدّة سنتين كأقل مدّة، وبعد محاولات أكثر عسراّ في المرة التالية ردّ عليّ آخر بأنّ أقل مدّة لانتظار الدور هي ثلاث سنوات، وعندما أخبرته بردّ زميله قبل أسبوع قال لي ضاحكاً: وقد تصبح أربعاً لو تأخرت.

قلت له: هناك بنوك إسلامية تقدم خدمات تمويل لشراء المنازل، فلتجرّب أن تذهب إلى أحدهم.
 أجاب: لم أكذب خبراً واتصلت بكافة تلك البنوك. كانت محاولات فهمي لما يقوله موظفي الخدمة لديهم أشبه بمحاولات تعلمي للغة سكان الأسكيمو. ما فهمته منهم أن العملية لا تعدو تلاعباً في الألفاظ والمصطلحات، وأن الفوائد هي ذاتها، كل الاختلاف في أن الأولى بلا حجاب. لو كانت هذه البنوك صادقة لأوقفت قروضها الرّبويّة الأخرى، ولو كانت جادّة لموّلت مشاريع البناء كذلك، ولو كانت راغبة في تقديم المساعدة الحقيقية لما قصرت نسبة التمويل على 80%فقط.

قلت له: إذاً فلتجرّب أن تأخذ قرضاً تجارياً فهو أسرع في الإنجاز.
رد عليّ: لي تجربة مريرة معه، أخذت قرضاً لبناء منزلي السابق وظللت أدفع مبلغاً وقدره لمدة خمس سنوات، وفي النهاية اكتشفت أني ما زلت أسدّد في الفوائد فقط. هل هناك مأساة أكثر ألماً من ذلك.

قلت له: إذاً عليك بالجمعيات الأهلية كما يفعل كثير من الشباب فهي أفضل الحلول.
أجاب: فعلتها وبحثت عمًن يشاركني فوجدت أن كل واحد فيهم يريد أن يكون دوره في الاستلام متقدماً. اعذرهم فلكل ظروفه التي لا تقل عن ظروفي.

قلت له: لماذا لا تفكر في شراء شقّة مناسبة وستجد كثيراً من العروض المغرية، ولن تعد بحاجة إلى شراء أرض أو بيت جاهز.
ردّ عليّ: أخذت بنصيحتك وبحثت في كل الاعلانات، ولكن المضحك المبكي أن معظم هذه الشقق هي أقرب إلى علب السردين من ناحية الحجم، ولا تكاد تكفي لفردين، فما بالك بعائلة كاملة، أما الأسعار فذاك موّالٌ آخر.

قلت له: لا حلّ سوى أن تبحث عن موظفة تتزوجها كي تشتركوا معاً في جمعية أو قسط بنكي كما يفعل البعض.
قال: ولكني أرى المرأة أسمى وأرقى من أن أنظر إليها كمورد مالي، ولا يمكن أن نهين مشاعرنا لمجرد الرغبة في توفيره.

والحل يا صديقي، ماذا أفعل الآن، هل أتنازل عن أحلامي وطموحاتي وأعود إلى بلدتي حاملاً خيبة أمل كبيرة، هل أظل رهين شقق الأجار لمجرد عدم قدرتي على امتلاك منزل يأويني وأولادي بقية العمر، هل أترك وظيفتي وأقف على قارعة طريق أتسوّل كي تحنّ علي الوزارة وتعتبرني من الفئات المحتاجة؟ هل أغامر بديني ومستقبلي وآخذ قرضاً ربوياً يحتاج إلى سنوات طويلة قد لا يكفيها ما تبقى لي من سنوات خدمة أن تفي بسدادها، ولا ما سيأتي من صالحات أعمال أن تمحي ذنوبها.

ماذا أفعل، لا أعرف أحداّ يمكن لي أن أتملّقه كي يحدّد لي موعداّ أقدّم فيه التماسي، أو أن يتشفّع لي عند أحد المسئولين، أو أن يكلّم لي موظفاّ قادراّ على إيجاد الحلول السحرية، كي يتم استثنائي والموافقة على طلبي بحجة أني مواطن صالح أستحق المساعدة كما هو الحال مع بقية المحظوظين.  

قل لي يا صديقي : متى ستتفتّق عقلية مستشاري وخبراء وباحثي الوزارة عن مشاريع إسكانية قادمة يمكن أن تحلّ كثيراً من مشاكل المواطن في هذا المجال؟ ألا يمكن أن ننتقل من مرحلة تخطيط الأراضي ومنحها، وتشييد المنازل لبعض الفئات المحتاجة؟ ألا ترى معي أن أعمالاً كهذه لم تعد تناسب المرحلة الحالية، وأن جهات أخرى كالمجالس البلدية يمكن أن تقوم بهذا الدور؟ ألا يمكن أن نسمع عن مشاريع إسكان شعبية تقوم على أساس توفير شقق بمساحات مختلفة ويتم تأجيرها أو بيعها على المواطنين بأسعار مناسبة؟  ألا يمكن ان تقيم الوزارة الموقّرة مشروعٌ إسكاني وطني يقوم على أساس الشراكة المجتمعية حيث تقوم بتوفير الأرض وكامل الخدمات المتعلقة بها، والمساهمة في بناء الوحدة السكنية بنسبة معينة، ويمكن لرجال الأعمال وبعض الشركات الكبرى المشاركة في هذا المشروع من خلال المساهمة في رأس مال هذا المشروع، أو تقديم بعض مواد البناء، أو المساهمة في عملية (تشطيب) هذه المساكن وتأثيثها. ألا يمكن كذلك إشراك المؤسسات الحكومية الأخرى عامة، والمؤسسات الاستثمارية المختلفة كصناديق التقاعد مثلاً أو التأمينات الاجتماعية، أو غيرها في الاستثمار في قطاع الإسكان، وإنشاء المجمعات الإسكانية ، وبيعها بأسعار مناسبة مقابل قيام الحكومة بتقديم التسهيلات المختلفة لهذه المؤسسات.

والحل يا صديقي. لقد هرمت.
الحل.. لا حل لدي، عد إلى بلدتك أو.. احرق نفسك بجاز.
د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 18 يونيو 2013

لا تــرموه

" لا ترموه "

عندما دعاني أحد الأصدقاء لحضور مناسبة اجتماعية خاصّة، هالني وقتها حجم الطعام المقدّم، والذي تفوق كمياته عدد المدعوين وحاجتهم إليه، وهالني أكثر ما علمته من صاحب الدعوة أن ما سيتبقى منه سوف يرمى لأن الوقت متأخر، ولأنه لا يوجد من المدعوين من هو بحاجة إليه.

 تذكرت وقتها عشرات المناسبات الاجتماعية والرسمية المتشابهة التي يهدر فيها  كثير من الطعام نتيجة سلوكنا وعاداتنا، ورغبتنا في الحفاظ على موروثاتنا في الكرم، ورغبتنا كذلك في التميز عن الآخرين في هذا المجال، وتذكرت أيضاً أن هناك من هو بحاجة إلى هذا الطعام المهدر، ولا تسمح لهم كرامتهم بتسوّله.

تخيلت وقتها كذلك لو كانت لدينا مجموعات شبابية، أو مؤسسات مجتمعية يديرها عدد من الناشطين الاجتماعيين، لديها قائمة بعدد من الأسر والعائلات الفقيرة والمحتاجة في المدينة أو القرية التي تقع فيها، ولها نشاط إعلامي يسهم في إيصال فكرة المؤسّسة الخيرية إلى كافة أطياف المجتمع، وتقوم هذه المجموعة أو المؤسسة  بجمع الأغذية غير المستغلة والفائضة من المصادر المختلفة كالفنادق والمطاعم والمناسبات الاجتماعية المختلفة، أو حتى من الأشخاص العاديين، بحيث يكون هناك عنوان معيّن لها يستطيع الفرد أو الجهة الاتصال بمندوبها لكي يأتي لاستلام الفائض من الطعام لإعادة تجهيزه بطرق صحية وتوزيعه على الأسر الفقيرة والمحتاجة.

وبالمناسبة ففكرة كهذه ليست بجديدة على المستوى العالمي،  فقد قام  الهولندي "جون فان هينجل" بتأسيس بنك "سانت ميرى" للطعام عندما كان يقوم منذ عام 1965 بارتياد صالات الطعام الفخمة وجمع ما يتبقى من الضيوف،  ثم يقوم بعدها بالاتصال بمخازن الأغذية ليحثهم على التبرع بالمواد الغذائية التي اقترب موعد نهاية صلاحيتها لكي يقوم بتوزيعها على الفقراء بدلاً من بقائها في المخازن وفسادها، وتطورت الفكرة التي ولدت كفكرة شخصية إلى إنشاء مؤسسة خيرية كبيرة، أصبح لها مجلس إدارة وأعضاء وتمويل خاص، وبدأت تلك الفكرة تنتشر في عدد من دول العالم، فتم تنفيذها في الهند وكوريا والولايات المتحدة، ومصر، والسعودية، وغيرها من الدول.

        وقد يستهجن البعض منا الفكرة باعتبار أننا مجتمع إسلامي عرف بالتماسك والتكافل والتقارب، و لا ينبغي عليه أن يستورد أفكاراً من مجتمعات أخرى ليطبقها، ومع كل التقدير لهذا الرأي،  إلا أنه ينبغي علينا أن نعترف أننا بدأنا نتخلى عن كثير من الروابط الاجتماعية التي كان مجتمعنا يتميز بها، ولم يعد التكافل ملموساً كما كان في الماضي، وأصبح الكثير منا منشغلاً بهمومه اليومية، وأصبحت العلاقات الاجتماعية معقدة، ومساحة التواصل الاجتماعي لدينا  محدودة، فباستثناء الأعياد، وشهر رمضان، وبعض المناسبات التي تخص أشخاصاً تربطهم بنا صلات قربي أو صداقة وطيدة، فإن كثير منّا قد لا يكاد يتذكر جاره، فما بالكم بالأشخاص الآخرين، لذا فالحاجة ملحّة إلى تفعيل وسائل أكثر تنوعاً في سبيل إعادة  شيء من التكافل للمجتمع.

ويمكن للمؤسسة أن تستقبل التبرعات من فاعلي الخير من خلال حساباتها المصرفيّة كي يمكن استغلالها في  توفير مواد غذائية متنوعة، وإيصالها لتلك الأسر المحتاجة من خلال دراسات استطلاعية ومسحية مسبقة، كما يمكن للمؤسسة أن تتوسع مستقبلاً في تنويع خدماتها، والاستفادة من التجارب الخارجية لمؤسسات مشابهة، وكذلك الاستفادة من الأفكار التطويرية للمهتمين بهذه القضايا في المجتمع المحلي، كي تغدو أكثر قابلية للتطوير، وأكثر قدرة على تحقيق أهدافها المنشودة.

      إننا من خلال هذه الفكرة  وغيرها من الأفكار المشابهة سنتمكن من تحقيق العديد من الأهداف لعل من أهمها الشعور بمعاناة الآخرين، والتفكير في حياة الفقراء والمحتاجين، وبالتالي الدعوة إلى تغيير بعض جوانب الثقافة الاستهلاكية السلبية، والحرص على عدم التبذير والإسراف، وكذلك بث روح التكافل في المجتمع من خلال إحساس المساهمين بأهمية مساعدة الآخرين، واعتبارهم شركاء في المجتمع، وجزء أساسي فيه، ترسيخاً  لمبدأ التكافل في الإسلام والذي حثّنا عليه ديننا الحنيف ورسولنا الكريم في أكثر من موطن، ونشر ثقافة العمل التطوعي، وذلك من خلال استثمار طاقات الشباب وطلاب المدارس، وإشراكهم في تنفيذ برامج هذه المؤسسات، وبالتالي غرس ثقافة المواطنة وأهمية الإحساس بالآخر، كذلك فإننا قد نضمن وصول المساعدات الغذائية إلى مستحقيها بطريقة تضمن لهم كرامتهم وتتوافق مع خصوصية مجتمعنا العماني، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الحرب على الجوع والفقر، هي الحرب الشرعية الوحيدة  التي يجب أن نعترف بها حالياً.

                                                    د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



الثلاثاء، 11 يونيو 2013

الفروق السبعة

(الفروق السبعة)

كعادتي عندما كنت في سنّه، يهوى ابني قراءة مجلات الأطفال، ويجد متعة كبيرة في حل مسابقاتها المختلفة أملاً في الفوز بجائزة قد لا تأتي مستقبلاً، وإشغالاً لوقت فراغ ممل لم تستطع الجهات المسئولة من ملئه برغم (الشو) الإعلامي الكبير، والتصريحات الكلامية الكثيرة عن الأنشطة والفعاليات الشبابية التي تقام هنا وهناك.

في طريقنا إلى جعلان في إحدى العطل، وبينما كنت منشغلاً بالقيادة سألني وهو يحاول الإجابة على إحدى المسابقات المرتبطة بمعرفة الفروق بين صورتين بالمجلة: أبي. هل هناك فروقاً سبعة بين مسقط وجعلان؟

قلت له بابتسامة يغلّفها الألم والأسى: ستصل بنفسك إلى الإجابة قريباً دون معاونة أحد، ولكن ما دمت تنتظر الإجابة فخذ معك بعض هذه الفروق:
في مسقط يا بني تتنوع أماكن الترفيه وقضاء وقت الفراغ ما بين ردهات الفنادق الفاخرة، والمقاهي المتنوعة، والمكتبات العامّة والخاصة، ومراكز الشباب، وقاعات السينما، وأنشطة جمعيات المرأة، والمجمّعات التجارية الفخمة، بينما لا يجد الشباب في جعلان من متنفس سوى بعض الملاعب الرملية، وبضعة مقاهي من الدرجة العاشرة، أو قطع عشرات الكيلو مترات من أجل ظل شجرة (غاف) بعيدة، أو شاطئ رملي لعبت الرياح بتكوينه الطبيعي. أما المكتبة، وقاعات المطالعة، والمركز الشبابي، والمرسم، والمسرح، والسينما، ومعارض الكتاب، فهي مصطلحات يبدو أن المسئولين عن العمل البلدي بحاجة إلى سنوات ضوئية لاستيعابها قبل البدء بتنفيذها على أرض الواقع، وإلى ذلك الحين فمقاعد المقاهي والمطاعم وأرصفة الشوارع كاملة العدد بروادها من شباب الولاية.

وبينما تحتفل شركات الاتصالات بكل فخر واعتزاز بتدشين خدمات الجيل الرابع من الإنترنت الفائق السرعة المتنقل في مسقط، فإن الشباب في جعلان لا زالوا يحلمون بالجيل الأول من هذه الخدمات، والمحظوظ هو من يستطيع فتح (ولا أقول تصفح) موقع ما خلال ربع ساعة من قيامه بالضغط على الصفحة، أما فتح مواقع الملتيميديا فهي من الرفاهية التي لن تمكّنك أحلامك من تحقيقها هناك. ولا تسألني عن مبالغ الاشتراكات الشهرية التي تدفع دون جدوى، بل لا تفكر مجرد التفكير في استرداد تلك المبالغ، أما الخط الساحلي للولاية والذي يضم عشرات القرى والتجمعات السكانية التي يتراوح عدد سكانها ما بين (2000 – 5000 ) نسمة، فتنعدم فيه خدمة الهاتف الثابت (عدا نيابة الأشخرة)، وشبكة الإنترنت برغم أهميته الاقتصادية القصوى.

وبينما لا توجد بجعلان أية حديقة أو متنزه بعد أن تم إغلاق الحديقة الوحيدة بها، والتي كانت تعد من عجائب الدنيا بحوشها الصغير المفروش بالحصى و(الكنكري) وبضعة ألعاب مكسورة (بالذمّة فيه حديقة تفرش بالحصى والحجارة)، فإن عاملات المنازل والعمالة الآسيوية والعائلات الوافدة يجدون في حدائق مسقط ومتنزهاتها التي تغطي كافة الأحياء الراقية، والتي تمتلئ بهم طوال أيام الأسبوع متنفساً يقضون فيه ساعات جميلة بعد عناء أيام من العمل أو الدراسة.
 
وبينما لا تهدأ حركة تعبيد الطرق على أحسن المواصفات والمقاييس العالمية في مسقط، فإن الوضع في جعلان مختلف تماماً، فهي تتحول في الصيف مثلاّ إلى مقاطعة صينية بسبب الازدحام المروري الهائل بفعل كثافة عدد السكان، وعدم تناسب الشارع الضيّق الذي يقطع قلب الولاية مع تلك الكثافة، وعادي جداً أن ترى أربع سيارات يرتدن نفس الحارة في وقت واحد، ولا تنس أن تحمل معك في كل مرة تستخدم فيها هذا الشارع لأدوية الضغط ومهدئات الأعصاب، والأفضل من كل هذا أن تمارس رياضة المشي عند رغبتك في قضاء مشاويرك التسوّقية.

أما الطريق المتجه من (سيح العلا) حتى مدخل نيابة الأشخرة فيقترح البعض تأجيره على إحدى الشركات العالمية المتخصصة في مسابقات الإثارة المختلفة، وستكون صفقة رابحة بكل المقاييس لها، فكل الظروف مهيأة لذلك، من مصابيح إنارة لا تعمل ليلاً، ومن تقاطعات مريعة، ومجاري أودية مختلفة، وتراكم للكثبان الرملية على امتداد الطريق، وحيوانات سائبة تعبر الطريق ليلاً ونهاراً، بينما الطريق الآخر الواصل بين مركز الولاية وأماكن التجمعات الريفية في وادي سال وما حولها من المناطق فيبدو أنه رصف على غير رغبة، فهو رقيق المشاعر لدرجة أن أية نسمة هواء، أو زخـﱠــة مطر بسيطة، كافية لأن تقلبه رأساً على عقب.

وبينما تحوّلت شواطئ مسقط إلى متنزهات ترتادها كافة فئات المجتمع، بأرصفتها الجميلة، ومواقف السيارات المنظّمة، وبأكشاك الشاي والعصائر المتنوعة، فإن نظيراتها في جعلان تعاني من عشوائية لا يمكن وصفها، فباستثناء بعض مظلات إسمنتية صغيرة متآكلة الجدران، تضطرك الرياح المحملة بالأتربة إلى أن تستنجد بها، وقد تعود أدراجك في حال لم تلق مظلة خالية، فلا خدمات أخرى يمكن أن تغري سائحاً (عاقلاً) بالتوجه إليها برغم عشرات الدواوين الشعرية التي يمكن أن تقال في وصف جمال تلك الشواطئ وروعتها.

 وبينما يرابط عمال شركات النظافة والمقاولات في شوارع مسقط لتصريف المياه من الشوارع حتى قبل هطول المطر، وتصليح أي عطل، فإن أية زخّة مطر في جعلان كافية لأن تقلب حياة السكان إلى جحيم، حيث يعقبها انقطاع في البث الإذاعي إلى حين أمد، وتتكون تجمعات البرك والطين في الشوارع الرئيسية والفرعية، وتمتلئ تلك الشوارع بالحفر والتشققات، بينما تتحول الحارات إلى (نجاتيف) مشوّه لمدينة البندقية، بحيث يبدو المشهد أشبه بلوحه سريالية قبيحة رسمها طفل في أول أيامه بالروضة، ولا تحدثني عن الصرف الصحي فمصطلح كهذا قد يجعلني أستغرق في نوبة ضحك قد لا أفوق منها.

في مسقط تحظى البيئة باهتمام كبير في ظل عمليات تشجير وتنظيف وعزل للمخلفات، أما جعلان فــالطبيعة الساحرة لوديانها الجميلة تهدّدها العزب العشوائية، والانتشار الكثيف شجرة المسكيت (الغويفة) وهي شجرة طفيلية دخيلة على البيئة العمانية وتهدد الحياة الفطرية بها، في ظل تجاهل بيئي عجيب، بينما يعدّ (المردم) الذي تجاوزت مساحته عدة كيلو مترات ولا يبعد سوى أمتار قليلة عن أقرب مجمع سكني، بكل ما يحتويه من مواد مضرة بالبيئة من إطارات محروقة وأخرى مكدسة، وحيوانات نافقة، وبقايا مواد بناء، ومخلفات مصانع تعليب الأسماك، ومواد بلاستيكية وزجاجية غير قابلة للتحلل، وآلاف من أكياس القمامة السوداء الملقاة وغيرها، حكاية أسطورية تفوق الخيال، ولو قرأها وزير البيئة الياباني فإنها ستكون كافية لكي يقدّم استقالته، هذا إن لم يقدم على الانتحار.

هي ليست فروقاً سبعة يا بنيّ، بل هي أكثر من ذلك بكثير، وما تراه في جعلان ستراه في كثير من الولايات الأخرى ما دام (بعض) المسئولين يختصرون عمان والعالم بأسره في مسقط، ومادامت مسقط جميلة فعمان كلّها جميلة، وعاشت الأمة العربية.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


الاثنين، 3 يونيو 2013

يحدث كل يوم

يحدث كل يوم

كان صباحاً أغبر ليس له صاحب عندما وقعت عيناي على تلك الوريقة الصفراء والتي تحوي إيصالاً بمعاملة أكملت الثمانية أشهر في رفوف إحدى الوزارات الخدمية. كان الايصال يحوي البيانات الخاصة بالطلب، وفي أسفله كتبت العبارة الآتية: "للمتابعة (يرجى) الاتصال على الأرقام الأربعة التالية".

يا الله. أربعة أرقام دفعة واحدة ورجاء باتصال؟ ما هذا الكرم الحاتمي والحرص الكبير على تسهيل أمور المواطن وخدمته. إذاً لماذا تلك الموضوعات والمقالات السوداء التي نقرأها كل يوم هنا وهناك مندّدة بسياسة الوزارة وسوء تعامل (بعض) موظفيها.

في تمام الساعة العاشرة بدأت أولى اتصالاتي بالأرقام الموجودة. أتصل على الأول فلا أحد يجيب، أحاول في الثاني، يليه الثالث والرابع، ونفس الأمر يتكرر. أعيد الكرّة من جديد ولا فائدة، أجرّب للمرة الثالثة ولا مجيب.

يساورني الشك في تلفوني، أجرّب الاتصال بهاتفي النقّال فيرن وأسمع صوتي واضحاً. شيطاني الذي بداخلي يقول لي: ربما كان الموظفين مشغولين بالصلاة. ولكن موعدها مازال بعيداً ونحن مازلنا في العاشرة. إذا ربما ذهبوا لتناول الإفطار، اعذرهم وتحمّلهم قليلاً، الغائب عذره معه.

وما الحل يا إبليسي الخبيث؟ فلتجرب أن تتصل بأرقام أخرى، ما رأيك أن تدخل موقع الوزارة الالكتروني، فقد تجد رداً على استفساراتك، ويغنيك عن الاتصال وإزعاج الموظفين.

فكرة طيبة، ثم إن المواقع الالكترونية وجدت لتسهيل المعاملات، أولسنا نتحدث عن عصر الحكومة الإلكترونية، هكذا قلت لنفسي وأنا أفتح موقع الوزارة الإلكتروني. الموقع جميل، ومنظّم بشكل جيد، وتتصدره صورة (معاليه) بابتسامته العريضة وهو يتسلم جائزة الإجادة في الخدمات الحكومية الالكترونية.

باحثاً عن (خانة) أو وصلة أضع بها رقم الطلب أو أية بيانات أخرى تتعلق بي فلا أجد. ما الحل إذاً. هناك وصلة خاصة بدليل الهاتف، فلأفتحها فلربما وجدت من يجيب على طلبي.

أفتح الصفحة فإذا بكل أرقام مسئولي وموظفي الوزارة منسدلة أمامي. يا للهناء. إذا ستحل مشكلتي بعد أول اتصال. ولكن بمن سأبدأ، فلأبدأ بدائرة خدمات المراجعين فقد تكون هي الجهة المخوّلة بالرد على استفسارات مواطن مثلي. أتصل بالأرقام الخمسة الخاصة بالدائرة ونفس الأمر يتكرر، لا مجيب. أعاود الاتصال مرة ثانية وثالثة ولا فائدة. لا يهم، فلأجرب الاتصال بدائرة التنسيق فهواتفهم الستة قد تغنيني عن البقية. ولكن ما هذا، أيضاً لا أحد يرد. لا بأس سأتصل بمكتب رئيس مكتب الوزير فالموظفين في مثل هذه المكاتب غالباً ما يكونون ودودين لطيفين مجاملين بغض النظر عما سيحدث بعد ذلك لطلبك، أيضاً لا مجيب. أجرب الاتصال بمكتب معاليه وسعادته وبقية المكاتب من شئون قانونية وعلاقات عامة ونقليات وغيرها ولا فائدة. ما هذا يا جماعة. هل موظفي الوزارة في إجازة رسمية وأنا لا أدري. هل اليوم عطلة رسمية. ولكن زملائي في مكاتبهم. ماذا يحدث. وزارة بأكملها لا أحد فيها يرد على هاتف مكتبه ولو عن طريق الخطأ؟

 متسلحاً بما تبقى لي من صبر أيوب، أعاود الاتصال بالأرقام الأربعة الأولى الموجودة بالإيصال، وأيضاً لا فائدة، يدخل عليّ زميلي طالباً مني إنجاز عمل معيّن فيجدني في حالة هيستيرية سيئة، قالعاً عمامتي، فاتحاً جيب دشداشتي، رافعاً أكمامي، وأنا أضغط على أرقام الهاتف بشكل عصبي، ورأسي وألف سيف ألا أخرج من مكتبي قبل أن يرد عليّ أحدهم.

أعود إلى الأرقام الموجودة على موقع الوزارة ولا رد. الله، أخيراً وبعد جهد جهيد يرد علي أحدهم. مساكين لقد ظلمتهم. ألو، كيف حالك أخوي، ممكن استفسار بسيط؟ يرد علي الهاتف " أرباب سوري هزا ستور مافي أوفيس". إذا " جاءت حليمة تفرح ملقتش مطرح".

أجرّب أرقاماً أخرى فيرد علي أحدهم هذه المرة. من صوته يبدو أن حديث التعيين والخبرة، أحكي له عما عانيته، فيتأسف لما حدث، ثم يؤكد عليّ بألا أحاول، فلن يرد عليّ أحد مهما فعلت. سألته إن كان حديث التعيين، فرد بالإيجاب متعجباً كيف عرفت. يا زميلي ربما لن ترد على هذا الهاتف بعد سنة من الآن.

وقت الدوام قارب على الانتهاء وأنا ما زلت في محاولاتي المستميتة، قبل الثانية والنصف بدقائق يرد عليّ أحدهم بصوت خافت وهو يسألني عمّا أريد. أخبره عن معاناتي في التواصل معهم، فيرد عليّ: " أخوي حنوه ما مجبرين نرد ع كل متصل. بو عدنا من الشغل يسد، من الصبح وحنا نرد ع مكالماتكم"، بعيداً عن "حنوه" ودلالتها اللغوية، أجيبه: ولكنكم يا سيدي وضعتم أربعة أرقام تسد عين الشمس وكتبتم (يرجى الاتصال)، وهي صيغة رجاء، فلماذا تلحون علينا بالاتصال ما دمتم لا ترغبون في الرد، ثم إن الخطوط كانت ترن على مدار ثلاث ساعات متواصلة قضيتها في الاتصال، فكيف كنتم مشغولين بالرد على المكالمات .

متجاهلاً الرد على هذه النقطة يطلب رقم الطلب ثم يقول بعدها بثواني: طلبك مرفوض منذ ستة أشهر، لماذا أهملت طلبك ولم تتصل للاستفسار عنه إلا اليوم؟

" يا مصبر الوحش ع الجحش" أقولها في سري. ولكن يا أخي الفاضل أنت قبل قليل كنت تقول لي نحن لسنا مجبرين على الرد على كل الاتصالات، فكيف تطلب مني الاتصال، وأيضاً لم تعطونني موعداً محدداً للانتهاء من المعاملة كي أتصل في حينها، ثم إن ما أعرفه أن هناك دوائر خاصة بخدمات المراجعين في كل مؤسسة حكومية مهمتها الرد على استفسارات المواطنين، والتواصل معهم في الموضوعات التي تخصهم، وكان من البديهي أن تتصلوا بي وتخبروني برفض معاملتي.

ثم كيف لي أن أعرف الموعد بالتحديد، هل كان عليّ أن أوشوش الودع لكي أعرف تاريخ رفضكم للطلب، أم أذهب إلى كاهن من كهّان اليمن لأعرف لماذا رفض موضوعي، أم أتعلم قراءة الفنجان وضرب الودع، أم أستعين بالصبر والصلاة. ماذا أفعل بالضبط؟

والحل. ماذا أفعل الآن. كثير ممن أعرفهم تمت الموافقة على طلباتهم، فلماذا يرفض طلبي؟ جرّب أن تكتب التماساً وتطلب مقابلة أحد المسئولين فقد يتفهم ظروفك ويوافق على طلبك ويستثنيك.

ولماذا تشجّعوننا على التسوّل والاستجداء، وما الذي ستضيفه المقابلة من مبررات قانونية لقبول الطلب، إن كانت معاملتي مرفوضة من الأساس فلماذا قبلتموها بداية، ولماذا طلبتم مني أوراقاً ومستندات إضافية، ولماذا ألجأ للالتماس ما دامت لا تنطبق عليها الشروط.

وحدي ما أعرف. إذاً من الذي يعرف.

د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com