الثلاثاء، 18 يونيو 2013

لا تــرموه

" لا ترموه "

عندما دعاني أحد الأصدقاء لحضور مناسبة اجتماعية خاصّة، هالني وقتها حجم الطعام المقدّم، والذي تفوق كمياته عدد المدعوين وحاجتهم إليه، وهالني أكثر ما علمته من صاحب الدعوة أن ما سيتبقى منه سوف يرمى لأن الوقت متأخر، ولأنه لا يوجد من المدعوين من هو بحاجة إليه.

 تذكرت وقتها عشرات المناسبات الاجتماعية والرسمية المتشابهة التي يهدر فيها  كثير من الطعام نتيجة سلوكنا وعاداتنا، ورغبتنا في الحفاظ على موروثاتنا في الكرم، ورغبتنا كذلك في التميز عن الآخرين في هذا المجال، وتذكرت أيضاً أن هناك من هو بحاجة إلى هذا الطعام المهدر، ولا تسمح لهم كرامتهم بتسوّله.

تخيلت وقتها كذلك لو كانت لدينا مجموعات شبابية، أو مؤسسات مجتمعية يديرها عدد من الناشطين الاجتماعيين، لديها قائمة بعدد من الأسر والعائلات الفقيرة والمحتاجة في المدينة أو القرية التي تقع فيها، ولها نشاط إعلامي يسهم في إيصال فكرة المؤسّسة الخيرية إلى كافة أطياف المجتمع، وتقوم هذه المجموعة أو المؤسسة  بجمع الأغذية غير المستغلة والفائضة من المصادر المختلفة كالفنادق والمطاعم والمناسبات الاجتماعية المختلفة، أو حتى من الأشخاص العاديين، بحيث يكون هناك عنوان معيّن لها يستطيع الفرد أو الجهة الاتصال بمندوبها لكي يأتي لاستلام الفائض من الطعام لإعادة تجهيزه بطرق صحية وتوزيعه على الأسر الفقيرة والمحتاجة.

وبالمناسبة ففكرة كهذه ليست بجديدة على المستوى العالمي،  فقد قام  الهولندي "جون فان هينجل" بتأسيس بنك "سانت ميرى" للطعام عندما كان يقوم منذ عام 1965 بارتياد صالات الطعام الفخمة وجمع ما يتبقى من الضيوف،  ثم يقوم بعدها بالاتصال بمخازن الأغذية ليحثهم على التبرع بالمواد الغذائية التي اقترب موعد نهاية صلاحيتها لكي يقوم بتوزيعها على الفقراء بدلاً من بقائها في المخازن وفسادها، وتطورت الفكرة التي ولدت كفكرة شخصية إلى إنشاء مؤسسة خيرية كبيرة، أصبح لها مجلس إدارة وأعضاء وتمويل خاص، وبدأت تلك الفكرة تنتشر في عدد من دول العالم، فتم تنفيذها في الهند وكوريا والولايات المتحدة، ومصر، والسعودية، وغيرها من الدول.

        وقد يستهجن البعض منا الفكرة باعتبار أننا مجتمع إسلامي عرف بالتماسك والتكافل والتقارب، و لا ينبغي عليه أن يستورد أفكاراً من مجتمعات أخرى ليطبقها، ومع كل التقدير لهذا الرأي،  إلا أنه ينبغي علينا أن نعترف أننا بدأنا نتخلى عن كثير من الروابط الاجتماعية التي كان مجتمعنا يتميز بها، ولم يعد التكافل ملموساً كما كان في الماضي، وأصبح الكثير منا منشغلاً بهمومه اليومية، وأصبحت العلاقات الاجتماعية معقدة، ومساحة التواصل الاجتماعي لدينا  محدودة، فباستثناء الأعياد، وشهر رمضان، وبعض المناسبات التي تخص أشخاصاً تربطهم بنا صلات قربي أو صداقة وطيدة، فإن كثير منّا قد لا يكاد يتذكر جاره، فما بالكم بالأشخاص الآخرين، لذا فالحاجة ملحّة إلى تفعيل وسائل أكثر تنوعاً في سبيل إعادة  شيء من التكافل للمجتمع.

ويمكن للمؤسسة أن تستقبل التبرعات من فاعلي الخير من خلال حساباتها المصرفيّة كي يمكن استغلالها في  توفير مواد غذائية متنوعة، وإيصالها لتلك الأسر المحتاجة من خلال دراسات استطلاعية ومسحية مسبقة، كما يمكن للمؤسسة أن تتوسع مستقبلاً في تنويع خدماتها، والاستفادة من التجارب الخارجية لمؤسسات مشابهة، وكذلك الاستفادة من الأفكار التطويرية للمهتمين بهذه القضايا في المجتمع المحلي، كي تغدو أكثر قابلية للتطوير، وأكثر قدرة على تحقيق أهدافها المنشودة.

      إننا من خلال هذه الفكرة  وغيرها من الأفكار المشابهة سنتمكن من تحقيق العديد من الأهداف لعل من أهمها الشعور بمعاناة الآخرين، والتفكير في حياة الفقراء والمحتاجين، وبالتالي الدعوة إلى تغيير بعض جوانب الثقافة الاستهلاكية السلبية، والحرص على عدم التبذير والإسراف، وكذلك بث روح التكافل في المجتمع من خلال إحساس المساهمين بأهمية مساعدة الآخرين، واعتبارهم شركاء في المجتمع، وجزء أساسي فيه، ترسيخاً  لمبدأ التكافل في الإسلام والذي حثّنا عليه ديننا الحنيف ورسولنا الكريم في أكثر من موطن، ونشر ثقافة العمل التطوعي، وذلك من خلال استثمار طاقات الشباب وطلاب المدارس، وإشراكهم في تنفيذ برامج هذه المؤسسات، وبالتالي غرس ثقافة المواطنة وأهمية الإحساس بالآخر، كذلك فإننا قد نضمن وصول المساعدات الغذائية إلى مستحقيها بطريقة تضمن لهم كرامتهم وتتوافق مع خصوصية مجتمعنا العماني، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الحرب على الجوع والفقر، هي الحرب الشرعية الوحيدة  التي يجب أن نعترف بها حالياً.

                                                    د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.