الثلاثاء، 11 يونيو 2013

الفروق السبعة

(الفروق السبعة)

كعادتي عندما كنت في سنّه، يهوى ابني قراءة مجلات الأطفال، ويجد متعة كبيرة في حل مسابقاتها المختلفة أملاً في الفوز بجائزة قد لا تأتي مستقبلاً، وإشغالاً لوقت فراغ ممل لم تستطع الجهات المسئولة من ملئه برغم (الشو) الإعلامي الكبير، والتصريحات الكلامية الكثيرة عن الأنشطة والفعاليات الشبابية التي تقام هنا وهناك.

في طريقنا إلى جعلان في إحدى العطل، وبينما كنت منشغلاً بالقيادة سألني وهو يحاول الإجابة على إحدى المسابقات المرتبطة بمعرفة الفروق بين صورتين بالمجلة: أبي. هل هناك فروقاً سبعة بين مسقط وجعلان؟

قلت له بابتسامة يغلّفها الألم والأسى: ستصل بنفسك إلى الإجابة قريباً دون معاونة أحد، ولكن ما دمت تنتظر الإجابة فخذ معك بعض هذه الفروق:
في مسقط يا بني تتنوع أماكن الترفيه وقضاء وقت الفراغ ما بين ردهات الفنادق الفاخرة، والمقاهي المتنوعة، والمكتبات العامّة والخاصة، ومراكز الشباب، وقاعات السينما، وأنشطة جمعيات المرأة، والمجمّعات التجارية الفخمة، بينما لا يجد الشباب في جعلان من متنفس سوى بعض الملاعب الرملية، وبضعة مقاهي من الدرجة العاشرة، أو قطع عشرات الكيلو مترات من أجل ظل شجرة (غاف) بعيدة، أو شاطئ رملي لعبت الرياح بتكوينه الطبيعي. أما المكتبة، وقاعات المطالعة، والمركز الشبابي، والمرسم، والمسرح، والسينما، ومعارض الكتاب، فهي مصطلحات يبدو أن المسئولين عن العمل البلدي بحاجة إلى سنوات ضوئية لاستيعابها قبل البدء بتنفيذها على أرض الواقع، وإلى ذلك الحين فمقاعد المقاهي والمطاعم وأرصفة الشوارع كاملة العدد بروادها من شباب الولاية.

وبينما تحتفل شركات الاتصالات بكل فخر واعتزاز بتدشين خدمات الجيل الرابع من الإنترنت الفائق السرعة المتنقل في مسقط، فإن الشباب في جعلان لا زالوا يحلمون بالجيل الأول من هذه الخدمات، والمحظوظ هو من يستطيع فتح (ولا أقول تصفح) موقع ما خلال ربع ساعة من قيامه بالضغط على الصفحة، أما فتح مواقع الملتيميديا فهي من الرفاهية التي لن تمكّنك أحلامك من تحقيقها هناك. ولا تسألني عن مبالغ الاشتراكات الشهرية التي تدفع دون جدوى، بل لا تفكر مجرد التفكير في استرداد تلك المبالغ، أما الخط الساحلي للولاية والذي يضم عشرات القرى والتجمعات السكانية التي يتراوح عدد سكانها ما بين (2000 – 5000 ) نسمة، فتنعدم فيه خدمة الهاتف الثابت (عدا نيابة الأشخرة)، وشبكة الإنترنت برغم أهميته الاقتصادية القصوى.

وبينما لا توجد بجعلان أية حديقة أو متنزه بعد أن تم إغلاق الحديقة الوحيدة بها، والتي كانت تعد من عجائب الدنيا بحوشها الصغير المفروش بالحصى و(الكنكري) وبضعة ألعاب مكسورة (بالذمّة فيه حديقة تفرش بالحصى والحجارة)، فإن عاملات المنازل والعمالة الآسيوية والعائلات الوافدة يجدون في حدائق مسقط ومتنزهاتها التي تغطي كافة الأحياء الراقية، والتي تمتلئ بهم طوال أيام الأسبوع متنفساً يقضون فيه ساعات جميلة بعد عناء أيام من العمل أو الدراسة.
 
وبينما لا تهدأ حركة تعبيد الطرق على أحسن المواصفات والمقاييس العالمية في مسقط، فإن الوضع في جعلان مختلف تماماً، فهي تتحول في الصيف مثلاّ إلى مقاطعة صينية بسبب الازدحام المروري الهائل بفعل كثافة عدد السكان، وعدم تناسب الشارع الضيّق الذي يقطع قلب الولاية مع تلك الكثافة، وعادي جداً أن ترى أربع سيارات يرتدن نفس الحارة في وقت واحد، ولا تنس أن تحمل معك في كل مرة تستخدم فيها هذا الشارع لأدوية الضغط ومهدئات الأعصاب، والأفضل من كل هذا أن تمارس رياضة المشي عند رغبتك في قضاء مشاويرك التسوّقية.

أما الطريق المتجه من (سيح العلا) حتى مدخل نيابة الأشخرة فيقترح البعض تأجيره على إحدى الشركات العالمية المتخصصة في مسابقات الإثارة المختلفة، وستكون صفقة رابحة بكل المقاييس لها، فكل الظروف مهيأة لذلك، من مصابيح إنارة لا تعمل ليلاً، ومن تقاطعات مريعة، ومجاري أودية مختلفة، وتراكم للكثبان الرملية على امتداد الطريق، وحيوانات سائبة تعبر الطريق ليلاً ونهاراً، بينما الطريق الآخر الواصل بين مركز الولاية وأماكن التجمعات الريفية في وادي سال وما حولها من المناطق فيبدو أنه رصف على غير رغبة، فهو رقيق المشاعر لدرجة أن أية نسمة هواء، أو زخـﱠــة مطر بسيطة، كافية لأن تقلبه رأساً على عقب.

وبينما تحوّلت شواطئ مسقط إلى متنزهات ترتادها كافة فئات المجتمع، بأرصفتها الجميلة، ومواقف السيارات المنظّمة، وبأكشاك الشاي والعصائر المتنوعة، فإن نظيراتها في جعلان تعاني من عشوائية لا يمكن وصفها، فباستثناء بعض مظلات إسمنتية صغيرة متآكلة الجدران، تضطرك الرياح المحملة بالأتربة إلى أن تستنجد بها، وقد تعود أدراجك في حال لم تلق مظلة خالية، فلا خدمات أخرى يمكن أن تغري سائحاً (عاقلاً) بالتوجه إليها برغم عشرات الدواوين الشعرية التي يمكن أن تقال في وصف جمال تلك الشواطئ وروعتها.

 وبينما يرابط عمال شركات النظافة والمقاولات في شوارع مسقط لتصريف المياه من الشوارع حتى قبل هطول المطر، وتصليح أي عطل، فإن أية زخّة مطر في جعلان كافية لأن تقلب حياة السكان إلى جحيم، حيث يعقبها انقطاع في البث الإذاعي إلى حين أمد، وتتكون تجمعات البرك والطين في الشوارع الرئيسية والفرعية، وتمتلئ تلك الشوارع بالحفر والتشققات، بينما تتحول الحارات إلى (نجاتيف) مشوّه لمدينة البندقية، بحيث يبدو المشهد أشبه بلوحه سريالية قبيحة رسمها طفل في أول أيامه بالروضة، ولا تحدثني عن الصرف الصحي فمصطلح كهذا قد يجعلني أستغرق في نوبة ضحك قد لا أفوق منها.

في مسقط تحظى البيئة باهتمام كبير في ظل عمليات تشجير وتنظيف وعزل للمخلفات، أما جعلان فــالطبيعة الساحرة لوديانها الجميلة تهدّدها العزب العشوائية، والانتشار الكثيف شجرة المسكيت (الغويفة) وهي شجرة طفيلية دخيلة على البيئة العمانية وتهدد الحياة الفطرية بها، في ظل تجاهل بيئي عجيب، بينما يعدّ (المردم) الذي تجاوزت مساحته عدة كيلو مترات ولا يبعد سوى أمتار قليلة عن أقرب مجمع سكني، بكل ما يحتويه من مواد مضرة بالبيئة من إطارات محروقة وأخرى مكدسة، وحيوانات نافقة، وبقايا مواد بناء، ومخلفات مصانع تعليب الأسماك، ومواد بلاستيكية وزجاجية غير قابلة للتحلل، وآلاف من أكياس القمامة السوداء الملقاة وغيرها، حكاية أسطورية تفوق الخيال، ولو قرأها وزير البيئة الياباني فإنها ستكون كافية لكي يقدّم استقالته، هذا إن لم يقدم على الانتحار.

هي ليست فروقاً سبعة يا بنيّ، بل هي أكثر من ذلك بكثير، وما تراه في جعلان ستراه في كثير من الولايات الأخرى ما دام (بعض) المسئولين يختصرون عمان والعالم بأسره في مسقط، ومادامت مسقط جميلة فعمان كلّها جميلة، وعاشت الأمة العربية.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.