الأربعاء، 28 يناير 2015

مشاهد وتساؤلات 20


(1)

أتيحت لي الفرصة لحضور فعاليات الندوة الوطنية للمؤشرات الاجتماعية "استراتيجيات البحث العلمي وبناء السياسات"، والتي نظّمها مجلس البحث العلمي ممثلاً في برنامج المرصد الاجتماعي، والتي تناولت عدداً من الموضوعات التي تتصل بالتغيّرات الاجتماعية في السلطنة، كالتداعيات والتحديات، والسعة البحثية في العلوم الاجتماعية في الوطن العربي، وتحديات رصد التغير الاجتماعي باستخدام المؤشرات الاجتماعية، وعرض لبعض التّجارب الدّوليّة في ذات المجال.

ما لفت انتباهي خلال النّدوة هي الدّراسات والبيانات والمؤشّرات الاحصائيّة المهمّة التي تتناول قضايا اجتماعيّة وصحّيّة وتربويّة واقتصاديّة مختلفة تتعلّق بالسلطنة سواء أكانت بدعم من مجلس البحث العلمي، أو المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، أو من الوزارات المتخصّصة كالتربية والتعليم، والصحّة، والتنمية الاجتماعية، وغيرها.

السّؤال المهم: أين نتائج ومؤشّرات تلك الدّراسات عن صانعي القرار، وواضعي الخطط والاستراتيجيات لدينا!! أتمنّى ألا نهتم بالتّنظير وحده دون التّطبيق!

 

(2)

نصّت المادة (39) من قانون الطفل العماني الصّادر بالمرسوم السلطاني رقم 22/2014 على أن "تكفل الدولة بكل السبل المتاحة إشباع حاجات الطفل الثقافية في شتى مجالاتها من أدب، وفنون، ومعرفة، وتراث إنساني، وتقدم علمي حديث، وربطها بقيم المجتمع، وتنشئ الدولة في سبيل ذلك مكتبات وأندية خاصة للطفل في كل محافظات السلطنة بهدف تنمية قدرات الطفل الفكرية، والاجتماعية، والنفسية، والثقافية".

ترى كم مركز ثقافي، ونادي، ومكتبة خاصة بالطفل موجودة لدينا بالسلطنة!!

(3)

عند مخالفة شخص غير رابط لحزام الأمان على سرعة30كم وسط شارع مزدحم دوماً بالسّيّارات، أو وسط حارة سكنيّة عدد كاسرات السرعة في الشارع الذي يخترقها أكثر من عدد سّكان الحارة ذاتها، فأيّهما أجدى أثراً: مخالفته وتغريمه دون نقاش؛ أم نصحه بابتسامة مع إهداءه كتيّبا توعويّاً يتعلّق بقواعد السلامة المروريّة! وهل المخالفات المروريّة المتعلّقة بربط حزام الأمان في مواقف كهذه لها أثر في تقليل حوادث السّير مثلاً!!

(4)

شخصيّاً أعدّ المؤرّخ المرحوم سيف بن حمود البطاشي شيخ المؤرّخين بالسلطنة، وذلك لجهوده

 (5)

سعدت خلال عطلة نهاية الأسبوع الفائت بقضاء ليلة رائعة في أحد المخيمات السياحيّة بفلج المشايخ، تلك الواحة الجميلة الواقعة على أطراف الرمال الذهبيّة التي تحيط بولايات جعلان، وذلك بصحبة نخبة من شباب الوطن الذين جمعتني بهم إحدى المجموعات الوطنيّة الجادّة في برنامج التواصل الشهير "الواتساب"، وكانت فرصة جميلة للتعرّف عن قرب، وتبادل أطراف الحوار حول كثير من القضايا المجتمعيّة وجهاً لوجه بعيداً عن ذلك العالم الافتراضي الذي جمعنا لفترة طويلة.

ما يميّز المخيّم روعة المكان، وجمال تصميمه المستوحى من طبيعة المكان ولكن بلمسات راقية لا يجيدها إلا من كان محبّاً لهذا المجال، ووقوف صاحبه العمانيّ على كلّ صغيرة وكبيرة بحيث تجده أمامك بمجرّد التفكير في السؤال عن خدمة معيّنة، وكذلك توافر الخدمات المتنوّعة به، بحيث يضمن للزائر أن يقضي وقتاً جميلاً بين أحضان الطبيعة، وأن يعيش ليلة شرقيّة بكافّة طقوسها وتفاصيلها، وكل ذلك بسعر رمزي يقلّ عن سعر غرفة ضيّقة كئيبة بإحدى الشقق الفندقيّة ذات النّجمة الواحدة في أماكن أخرى!!

عدا لقائي بالشباب وتعرّفي بمن لم أكن أعرفه منهم، فإنّ الأمر الذي أثلج صدري هو اصرار الشابّ العمانيّ صاحب المخيّم على المضيّ قدماً في ما كان قد خطّط له، ففي آخر زيارة لي لهذا المخيّم قبل حوالي ثلاث سنوات من الآن، لم يكن المخيّم بالشكل الحالي من حيث توافر الخدمات، والمرافق، وكان صاحبه يعاني من مشاكل اداريّة روتينيّة بحتة كانت كفيلة (بتطفيشه) من مواصلة مشواره في مجال العمل السّياحيّ كما حدث لغيره، وكان يتكبّد الكثير من المال من أجل أن يظلّ مشروعه صامداً، وأذكر أنّني كتبت حينها مقالاً عن (السياحة التي نريد)، عرّجت من خلاله على مشكلته ومشكلة الآخرين، واقترحت بعض الحلول لحلّها.

صاحب مخيّم (بدو العرب) هو نموذج رائع لكثير من الشّباب العماني الذي أدرك أنّ في هذا الوطن كثيراً من الفرص التي هي بحاجة إلى صبر وتحمّل وإرادة، وأنّ اقتصاده لن يقوم سوى بسواعد أبناءه لا غيرهم مهما كانت التحدّيات، والمغريات، و(الكوميشنات).

 

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

 

الأربعاء، 21 يناير 2015

مشـاهـد وتساؤلات19

(1)
هطلت الأمطار فامتلأت الشوارع بالمياه، وغرقت مسقط في "شبر ماء". ليست المرة الأولى التي ينزل فيها المطر، وليست كذلك المرّة الأولى التي تمتلئ فيها الشوارع والأزقّة والحارات بالمياه وتجمعات البرك، مما يفقد الكثيرين حلاوة الاستمتاع برحمة السماء، بل يصل الأمر إلى حجز البعض في بيوتهم أو في الشوارع بسبب ارتفاع منسوب المياه، وتطغى موضوعات التذمّر والنقد الساخر على حديث النّاس في وسائل التّواصل المختلفة!

إذا كان هذا الأمر دائم الحدوث في مدينة كبيرة ومهمّة كمسقط، فماذا عن كثير من الولايات والقرى الأقل إمكانات!! هناك دول أكثر تنوّعاً وصعوبة في تضاريسها، ومع ذلك فالمطر يهطل بدون أن يسبّب أي ارتباك مجتمعي لأن الحلول قد وضعت بعد أوّل ملاحظة فنّيّة أو بيئيّة تمّت مواجهتها. يبدو أننا سنتحدث كثيراً عن إدارة الأزمة. أتمنى أن تكون هذه القضية من أولويّات المجالس البلدية.

(2)
تبذل الحكومة جهوداً كبيرة، ومبالغ طائلة في سبيل إنشاء المشاريع الخدمية المختلفة من مدارس ومراكز صحية وشوارع وغيرها، ولكن سوء التخطيط يقلّل أحياناً من قيمة تلك الجهود، ويكلّف الدولة مبالغ وجهود أخرى لمعالجة الأخطاء الناتجة عن ذلك.

الأمطار التي تشهدها السلطنة في الآونة الأخيرة، وقبلها الأنواء المناخية، كشفت عن جوانب من سوء التخطيط، بعد تأثّر عدد من المنشآت الحكومية بتأثيرات تلك الظروف المناخية، وذلك بسبب إقامتها في أماكن غير مناسبة.

لا أعلم لم يصرّ البعض على إقامة المشاريع في أماكن يعرف الصغار قبل الكبار من سكّان المكان بأنها غير صالحة لذلك!! من المهم دراسة واقع المنطقة الجغرافي دراسة مستفيضة، والتواصل مع الأهالي القاطنين للمكان، قبل التفكير في إنشاء أي مبنى خدمي.

(3)
لا يمر يوم أفتح فيه صحيفة محليّة أو موقع تواصل الكترونيّ دون أن أطالع خبراً أو صوراً لبعضهم وهم يستعدّون للسّفر إلى دول مختلفة لتمثيل السلطنة في محافل فكريّة أو اجتماعيّة أو اقتصاديّة مختلفة!
الفكرة في حدّ ذاتها مهمّة ومطلوبة للتعرّف على انجازات الآخرين وأين وصلوا، برغم أنّنا لم نفلح حتّى الآن في تطبيق الكثير من الأفكار الجميلة والبسيطة التي طبّقها الآخرون، والتي لا تتكلّف سوى الرغبة والإرادة الحقيقية، وقليل من المال.

اعتراضي على بعض هذه الرّحلات والزيارات هي في مدى الاستفادة الحقيقيّة منها، واتّخاذها فرصة لدى البعض لتغيير الجو أكثر من رغبة الاستفادة، فعادي أن ترى أحدهم يتنقّل من دولة لأخرى، ولغرض أو بدونه، فتجده تارة في ندوة تتحدّث عن التاريخ، ثم تطالع صورته بعد أقل من أسبوع في مؤتمر عن الاحتباس الحراري، وبعدها ببضعة أيّام تسمع عن مشاركته في مؤتمر يناقش تقنية المعلومات! لمجرّد علاقته الوطيدة ببعض المسئولين الذين لا يلقون أيّ اعتبار للمبالغ التي سيتم هدرها على مشاركة أمثال هؤلاء لأنّ ماليّة الدّولة هي من ستتكفّل بالمصاريف لا هم!

الأمر الآخر المتعلّق بهذه الزيارات والمشاركات وبالأخصّ في الجوانب الفكريّة هي فرض أسماء بعينها في معظم هذه المشاركات، فمن بين كل عشرة فعاليات خارجيّة ستجد أسماء بعينها قد تتكرّر في ثمان منها على الأقل وكأن الزيارة لن تتم مالم يشارك فيها هؤلاء! بل وأحياناً قد تتكرّر الزيارة سنويّاً إلى نفس الدولة ولنفس الجهة الرّاعية بمشاركة نفس الأشخاص دون أن يكلّف أحدهم نفسه أن يتساءل حول آلية ترشيح هؤلاء أنفسهم في كلّ مرّة، وكأنّ البلد قد عدمت من العقول والمواهب التي يمكن أن تمثّل البلد عدا هؤلاء !!

 أتفهّم أن تكون المشاركة بهدف تقديم ورقة عمل معيّنة، أو عرض نتاج فكريّ قام به الشخص، ولكن أن تكون مشاركتهم شرفيّة لمجرّد أنّهم لابد أن يشاركوا، أو لمجرّد (تربيطات) هنا وهناك، أو لأنّ المسئول لا يعيه أساساً موضوع المصاريف المهدرة، فهذا هو الأمر الذي يثير استغرابي واستغراب آخرين كثر!

ما يؤلمك أنّ (بعض) هؤلاء هم الأكثر حديثاً عن الوطنيّة، بينما الوطنيّة الحقيقيّة لا تعني بتاتاً تطبيق مبدأ (من أين تؤكل الكتف)، ولا تعني أيضاً المثل القائل "إذا هبّت رياحك فاغتنمها"!

لو استغلت أموال الرحلات السياحية المسمّاة بزيارات التعرف على تجارب الدول الأخرى في دعم المشاريع الصغيرة للشباب والمنتجين لكانت أكثر جدوى!  فشراء مكائن خياطة, أو بضعة رؤوس من مواشي التربية، أو بعض مناحل العسل، أو قوارب صيد قد لا يكلّف ثمن رحلة سياحية لبعض (المحاسيب) بدعوى التعرف على تجارب الدول الأخرى!!

 (4)
في الوقت الذي يخصّص فيه إعلامنا المرئي والمسموع والمقروء والالكترونيّ مساحات مختلفة للتعبير عن الشكاوى والملاحظات والمطالبات المجتمعية المختلفة، والتي يغالي (البعض) فيها لدرجة شعورك وأنت تطالع تلك الشكاوى والمطالبات بأن الصورة المرسومة عن واقع الخدمات والمنجزات هي صورة قاتمة يسودها القصور، فهل يمكن أن نرى برنامجاً معاكساً يستعرض الجوانب الايجابية التي نلمسها كل يوم في حياتنا كالإشادة بخدمة حكومية معينة، أو استحسان تصرّف مسئول ما، أو الحديث عن سلوك حياتي جميل قام به شخص أو مجموعة ما، أو تثمين إقامة مشروع مجتمعي أو حكومي من شأنه أن يخدم شريحة مهمة من المجتمع...ألخ!

بدون المناقشة الجدية والهادفة لمشاكلنا وقضايانا المختلفة لن نستطع التوصّل إلى حلول ناجعة لها، وعلينا ألا ندقّق النظر في النصف الفارغ من الكأس فقط، فكما نحتاج إلى النقد الهادف؛  نحتاج كذلك إلى نشر ثقافة التفاؤل من خلال ذكر الممارسات الإيجابية كي لا نصبغ حياتنا باللون الأسود وحده.
د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 14 يناير 2015

مـائـة ألف!!


تقول القصّة إن صبيّاً يابانيّاً قتل على يد زميله في الصّف الدّراسي لخلافات بينهما، حيث طعنه بسكّين، ثمّ قام بسحبه إلى أقرب مقلب قمامة. على إثر هذه الحادثة شكّلت لجنة عليا برئاسة رئيس الوزراء الياباني لدراسة المشكلة وتقصّي أسباب ما حدث، ضماناً لعدم تكرارها، وتوصّلوا إلى قرارات مهمّة بخصوص تعديل المناهج الدراسيّة، وبرامج إعداد المعلّمين، والبرامج الإعلاميّة الموجّهة للناشئة، ومواعيد العمل والاجازات الخاصّة بالموظّفين، حيث اعتبروا أن كلّ ذلك قد أثّر سلباً على قيام الصبيّ بفعلته، فلربّما لو جد منهجاً دراسيّاً يخاطب ذاته ويغرس فيه القيم الأخلاقيّة المطلوبة، ومعلّماً يوجّهه ويتفهّم ظروفه النّفسيّة والعاطفيّة والأسريّة، وأباً لا تشغله مواعيد العمل المضغوطة عن الجلوس معه، لما فعل ما فعله.

تذكّرت هذه القصّة وأنا أطالع الخبر (المتكرّر) حول ضبط الهيئة العامّة لحماية المستهلك لعدد من العمالة الوافدة بولاية السيب يقومون بتخزين وإعداد أطعمة ووجبات من مواد وسلع منتهية الصلاحية في إحدى الشقق والمنازل تجاوز عدها 100 ألف وحدة من السلع الغذائيّة المختلفة، ومن ثمّ إعادة توزيعها على مطعم ومقهى في الخوض والمعبيلة الجنوبية.

المغزى من القصّة أنّنا ما زلنا لا نحسن التّعامل مع الأزمات أو القضايا المختلفة التي نواجهها، لدرجة أنّ الأمر يكاد يتكرّر معنا بذات الصورة في كلّ مرة، ويقتصر تعاملنا معها على النتيجة لا السبب، فكم من مرّة انخفض فيها سعر النفط إلى الحضيض، أو انقطعت خدمات الكهرباء أو المياه لأسباب فنّيّة، دون أن نضع حلولاً جذريّة لا تنهي بانتهاء المشكلة وقتيّاً، بل وكم من مرّة تكرّر الخبر السّابق لدرجة أنّه يكاد أن يشعر المتابع اليوميّ لأخبار وسائل الإعلام المحلّية بالاستغراب ما لم يجد خبراً صباحيّاً عن ضبطية مشابهة هنا أو هناك!!   

أعود إلى خبر الضبطيّة ولعلّي بمن قام بها يخاطبون أنفسهم وهم يستعدّون نفسيّاً لشراء تلك السلع المنتهية قائلين: "ما داموا سيأكلون دون أن يسألوا عن كنه ما اشتروه أو أكلوه فالأمر مضمون"، وذات العبارة قالها الآخرون الذين وفّروا لهم هذه السّلع وهم يفكّرون في دخول العالم ذاته، وآخرون سبقوهم في دحول نفس العالم، عالم الرّبح السريع القائم على (الدّوس) على القيم وحياة النّاس والأرض التي احتضنتهم ووفّرت لهم فرص العيش الشّريف، بأكبر حذاء أسود يمكن أن ينتعلوه!

لا أقصد من مقالي هذا تهييج الرّأي العام، ولا صنع هالة إعلاميّة معيّنة، ولن أوجّه كلامي هذه المرّة للحكومة برغم عتبي وانتقادي لكثير من الاجراءات الإداريّة والقانونيّة التي سهّلت لأمثال هؤلاء التمرّغ في نعيم هذا الوطن على حساب أبنائه، بل سأوجّهه هذه المرّة لكم أنتم معشر المستهلكين. نعم أنتم من تعينون هؤلاء على التّمادي فيما يقومون به، وبأيديكم كذلك منعهم من الاستمرار في ما يفعلونه بحقّكم.

فليسأل كلّ واحد منكم نفسه: ألم أقف في طابور طويل عريض بداية أو نهاية كلّ شهر لشراء (الرّاشن) الذي يكلّفني في كل مرّة مبلغاً قد يوازي ربع أو ثلث أو نصف ما أتقاضاه من راتب!! ألم تصطفّ أمامي عربة أو اثنتان محمّلتان بكلّ ما لذّ وطاب من السّلع الغذائيّة المتنوعة! ألم تكتظّ ثلاجتي والمخزن الملحق بالمطبخ من الأغراض التي تمّ شرائها! ثمّ ألا يوجد في البيت ربّة بيت، وعاملة منزل عانيت الكثير مادّيّاً وبيروقراطيّاً من أجل جلبها لمعاونة ربّة البيت في أعمال المنزل اليوميّة! ما دمت قد فعلت كلّ هذا وأكثر فلماذا ارتياد المطاعم بسبب أو بدونه! وما دمت حريصاً على ارتيادها لمليون سبب حقيقيّ أو واه فلماذا لا أفكّر ولو لثانية قبل اختيار المطعم الذي سأشتري طعامي منه! وما دمت قد وصلت إلى المطعم أو المقهى فلماذا لا أكلّف نفسي عناء النزول وتأمل حالته وحالة العاملين به! لماذا لا أتخيّل ولو للحظة أنّ من يعمل في كثير من هذه المطاعم والمقاهي هم في الأساس ليسوا متخصّصين في هذا العمل، ولا يحملون شهادات تخوّلهم العمل كطهاة، وأنّ معظمهم أتوا من بيئات أقلّ نظافة من بيئتنا!

ثمّ لماذا لا يرتبط ذهابي إلى المطاعم بمناسبات اجتماعيّة أو عمليّة معيّنة، كأخذ الأسرة أو بعض الأصدقاء المقرّبين مرّة أو اثنتين كلّ شهر لتناول وجبة ما في مطعم يمتاز بالرّقيّ والنظافة، أو اصطحاب الموظّفين أو زملاء العمل في غداء عمل مثلاً، على الأقل سأشعر بقيمة المناسبة والمكان، ونوعيّة الأكل الذي سأتناوله، وسأشعر بنوع من الأمان لمعرفتي باشتراطات الجودة المتعلّقة بالمكان ذاته، وقيمة ما سأدفعه قد تكون أقلّ من المبالغ التي أدفعها يوميّاً في أماكن أقل جودة وخدمة وامكانات واشتراطات صحّيّة وبيئية. 

ثمّ إنّي أستغرب من شبابنا لتركهم الحبل على الغارب لأمثال هؤلاء للسيطرة على قطاع حيوي يمسّ صحّتنا وسلامتنا، ويعبّر عن جزء من هويّتنا وثقافتنا. ما أعلمه أنّ مهنة الطّهي ليست من المهن المستحيلة التي هي بحاجة لإمكانات خارقة تستدعي مجيء هؤلاء الوافدين وسيطرتهم على (كارها)، فنحن كمجتمع ما زلنا نتذكّر إلى سنوات قريبة مضت الطّهاة العمانيّون الذين كانوا يقومون بتجهيز الولائم المختلفة في المناسبات الاجتماعية العديدة التي يزخر بها مجتمعنا، ونحن أنفسنا من يعدّ أحسن الوجبات في رحلاتنا الخلويّة، فهل من المستحيل أن يقوم بعض شبابنا بافتتاح مطابخ أو مطاعم أو مقاهي أو حتّى أكشاك بسيطة لتقديم الوجبات العمانيّة التي تكاد أن تنقرض بعد أن حلّ محلّها وجبات فرضت علينا، وأحدثت تغييراً في ذائقتنا الغذائيّة والفكريّة!  وهل اعداد الشّاي، أو الخبز العماني بأنواعه، أو الثّريد، أو القبولي، أو غيرها من المأكولات المتنوّعة التي امتاز والتي ساهمت في تشكيل هويّتنا يعدّ من الأمور المستحيلة، أم أن الكسل، وثقافة (العيب)، وانتظار الوظيفة (الميري) أسباب تبعدنا عن هذا الخيار!!

 لماذا لا تخوضوا المجال ذاته! ما الذي يمنع أن تجرّبوا سواء كنتم هواة طبخ، أو أصحاب أعمال! نعم قد تواجهون صعوبات جمّة في البداية، وقد لا تجدون الدّعم التّشريعيّ الكامل، وسيحاول اللوبي المسيطر على هذا القطاع منعكم بكافّة السبل المشروعة وغير المشروعة، ولكنّكم ستستطيعون بشيء من الإصرار والتّحدّي تجاوز كل هذه العقبات والمعوّقات، وتأكّدوا أن المجتمع سيساندكم وسيقف خلفكم، لأنّه سيعود إلى مطبخه الرئيسي الذي يكاد أن ينقرض، ولأنّه سيضمن أن يجد طعاماً غير ضار، وغير مخلوط بمواد مغشوشة أو منتهية، لتيقّنه أن ابن بلده لن يرضى أن يحقّق مكاسبه على حساب أبناء جلدته الآخرين مهما كلّفه الأمر، ثم أن أمراً كهذا سيشجّع السائح الذي أتى للبحث عن مفردات ثقافتنا المتنوّعة، أن يرتاد هذه المطاعم وأن يتحدّث عنها وأن يربطها بثقافتنا كما نتحدّث نحن كل يوم عن ذكرياتنا في مطاعم شهيرة ارتدناها وأصبحنا نربطها ببلدان عديدة، بل إنّها قد تكون أحياناً سبباً لتكرار زيارتنا لهذه الدّولة أو تلك.

ختاماً، أنتم أكبر من أن تأكلوا طعاماً بنكهة السمّ، وأرقى من أن تشربوا شاياً مخلوطاً بريحة الجوارب، وأعلى شأناً من أن يستغفلكم من لا ضمير لديه لمجرّد رغبته في اختصار سنوات سفره على حساب.. حياتكم!

الثلاثاء، 6 يناير 2015

معاليك.. وعدك متى!!


قال لي: أفكّر في بيع بيتي الجديد والعودة إلى بيت العائلة مكتفياً بملحق صغير هناك يأويني وعائلتي. أجبته: ولكنّ منزلك الجديد لم يكمل السّنة منذ انتقالك إليه، وهو مشيّد في أهدأ أحياء جعلان، فما الذي حدث وجعلك ترغب في الانتقال منه بهذه السرعة! هل اكتشفت به عيوباً فنيّة، أم أنّ سعر البيوت في المنطقة قد ارتفع وتودّ بيعه! ردّ عليّ: لا هذا ولا ذاك، كلّ ما في الأمر أنّنا لم نعد نستطع العيش وسط الظروف البيئيّة التي تحيط بنا، فالحشرات، والهواء المختلط برائحة الدّخان، والروائح الكريهة الأخرى، والديدان التي بدأت تخرج من التربة، وحالات الرّبو التي بدأت تتفشّى بين أطفالنا كلّها أمور تجبرني على ذلك، والفضل في ذلك يعود إلى المردم المجاور، والمصنع القريب!!

أذكر أنّني قبل حوالي ثلاث سنوات من الآن كتبت هنا مقالاً بعنوان " كارثة بيئيّة"، أوضحت فيه كثيراً من النقاط المتعلّقة بوضع جعلان بني بو علي البيئي، وأذكر أنّ مسئوليّ الوزارة تواصلوا معي يومها ووعدوني بمعالجة الموضوع، وبشّروني بقرب افتتاح المردم المركزي بالكامل خلال ستّة أشهر، أي بحلول شهر يونيو 2012. وبرغم مرور كل هذه السنوات إلا أنّ الأمور ما زالت على حالها، ويبدو أن الشّهر في الوزارة المعنيّة يعادل سنة في توقيتنا المعروف، يعني على سكّان الولاية أن ينتظروا ثلاث سنوات قادمة على أمل أن يتحقّق الوعد. المشكلة لو كان الشهر لديهم يعادل قرناً، هذا يعني أنّهم لن يكونوا بحاجة إلى نقل المردم بعد ستّة قرون من الآن، لأنّه ببساطة.. لن يتبقّى أيّاً من السكّان على قيد الحياة!!

المشكلة، أو الطّامّة، أو المصيبة، أو الداهية، أو البليّة (ولتختر من المصطلحات السّابقة ما يناسبك) أنّنا لا نتحدّث عن فعل مستتر يمارس في حلك الظّلام، ولا نناقش قضيّة تتعلّق بفئة دون غيرها. نحن نتحدّث عن ممارسات عامّة تضرّ بالبيئة التي يشترك فيها الجميع، ويراها الأعمى قبل البصير، ويسمع أصواتها الأصمّ قبل صحيح السّمع، ويشمّ تأثيراتها مرضى الزّكام الدّائم قبل غيرهم، فلماذا هذا الصمت المطبق على مدى سنوات متوالية! المواطن يراها ويضرب كفّاً بكفّ ويقول: لقد بحّ صوتي وأنا أطالب بإزالة هذه الظّواهر المشوّهة للبيئة، ولم أترك مكاناً لم ألجأ اليه. والمشايخ والأعيان وأعضاء المجالس البرلمانيّة والبلديّة يقولون إنّ صلاحيّاتنا محدودة، وسبق لنا وأوصلنا شكاوي المواطنين، ورفعنا بعض المقترحات دون أيّة ردود!

وماذا عن الموظّفين العاملين بالإدارات الحكوميّة المتعلّقة بالبيئة والعمل البلدي بالولاية!! ألا يرون هذه الظواهر البيئيّة وهم في طريقهم إلى مكاتبهم كلّ صباح! ألا تصلهم روائحها الكريهة مع كلّ نسمة تهبّ على مناطق سكنهم! ألم يلمحوها عند ذهابهم عصراً إلى الصناعيّة لتغيير إطار، أو شرب كوب من الكرك! وإذا كانوا قد رأوها فماذا كانت ردّة فعلهم! هل حرّروا المخالفات لمن يقوم بإلقاء تلك المخلّفات! هل راقبوا المكان وقاموا بعمل جولات تفتيشيّة مفاجئة! هل جهّزوا تقارير فنّيّة متكاملة ورفعوها لمسئوليهم في المديريّة أو الوزارة! وإذا لم يقوموا بكلّ هذا فما الجدوى من إنشاء إدارات تستنزف أموالاً تدفع على هيئة رواتب وحوافز وقيمة إيجارات ومصروفات نثرية ومتكررة...ألخ، مادام أن الغرض والهدف من إنشاء تلك الإدارات لم يتحقّق! أنا لا أتحدّث عن بضعة وريقات مرميّة هنا، أو عدد من الأكياس متناثرة هناك ويمكن وقتها أن نجادل ونقول أنّها تصرّفات فرديّة لا يمكن الحدّ منها بسهولة، أو وضع رقابة لصيقة على من يقوم بها. أنا أتحدّث عن تصرفات (مهولة). أتحدّث عن ممارسات تحدث بشكل يومي وعلى مدى سنوات، وتحت وضح النّهار، وبدون أن يجد أصحابها من يقول لهم : توقفوااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا.

أتحدّث عن مساحات كبيرة تجاوزت عدة كيلو مترات أشبه ما تكون بمقلب قمامة كبير يمكن أن تجد فيه كلّ ما يضر بالبيئة، من إطارات محروقة وأخرى مكدّسة، وحيوانات نافقة، وبقايا مواد بناء، ومخلّفات مصانع تعليب الأسماك، ومواد بلاستيكية وزجاجية غير قابلة للتحلل، وآلاف من أكياس القمامة السوداء الملقاة على امتداد تلك المساحات، والتي تناثرت محتوياتها في كل أرجاء المكان، وغيرها من المخلفات الأخرى.

أتحدّث عن مستنقعات أشبه ما تكون بالبحيرات الرّاكدة التي تحيط بها غابات من الذّباب والحشرات المختلفة نتيجة قيام عربات الصّرف بتفريغ حمولتها فيها دون مبالاة بما يخلّفه ذلك من أضرار بصحّة وسلامة بني البشر!

أتحدّث عن سحّابة كثيفة من الدخان الأسود تنتشر على امتداد المكان، بكل ما تحمله من مخاطر تحتاج إلى صفحات عدة للحديث عن أضرارها الخطيرة على البيئة والناس والكائنات الحية الأخرى، الأمر الذي يجعلني أتساءل: هل هو مردم أم محرقة؟

ولن أبالغ إذا قلت أن جزء كبير من مساحة مركز الولاية قد تحوّلت إلى مرادم، فالأمر لم يعد مقتصراً على المردم الرئيسي ولا على مصنع الأسماك الذي عجزت كل المساحات الهائلة في جعلان والتي تكفي لإقامة دول بكاملها من استيعابه، بل إنّ الأمر قد تعدّاهما إلى أماكن عديدة، كالصّناعيّة التي كنت أتعرّض فيها إلى الإغماء وظللت لمدّة يومين لا عمل لي سوى شرب السوائل المختلفة من ماء وعصائر بأنواعها لأنّني ارتكبت حماقة كبرى عندما اعتقدت ساذجاً أنّني يمكن أن أمارس رياضة المشي في البقعة الخالية التي تجاور الصناعيّة أملاً في نسمات الكوس التي اشتهرت بها الولاية، ثم اكتشفت أنّني أمشي وسط أطنان من بقايا السّمك الفاسد، والإطارات، والطّابوق، والأكياس وأشياء أخرى لا أعرف كنهها.

المؤلم أنّ كلّ تلك الأماكن لا تبعد سوى بضع مئات من الأمتار عن المخطّطات السكنيّة القريبة، وعن الشّوارع الرئيسة، الأمر الذي يجعلني أتساءل بدهشة ممزوجة بالألم: ألم تراعى جوانب الصّحّة والسلامة عند تخطيط تلك الأماكن وتوزيعها على المواطنين! أوليست هناك أيّة أهمية أو قيمة لهذا المواطن القاطن في المنطقة المحيطة؟

مرّة أخرى أذكّر معالي الوزير بوعده السابق، ومرّة أخرى أدعوه لزيارة الولاية والوقوف على الأمر بنفسه، وألا يعتمد على التقارير الفنّيّة التي سترفع له حول أنّ كلّ شيء تمام، وأنا متأكد أنّ معاليه سيفاجأ بكثير من الأمور التي تستدعي إعمال المحاسبية خلال المرحلة القادمة ، فما هذا المكان سوى أنموذجاً لحالات مشابهة تراكمت نتيجة اللامبالاة ، وضعف المحاسبية، وقلة الوعي بأهميّة البيئة.

ومرّة عاشرة أعيدها "المواطنون لا يريدون حدائق أو متنزّهات، أو مهرجانات ثقافية وفكرية، أو مكتبات عامّة، أو تخطيطاً جمالياً لأحيائهم السكنية، أو ترميماً واستفادة مما تبقى من شواهد تاريخية عريقة، فهذه الأفكار هي فوق مستوى تفكير (بعض) المسئولين عن العمل البلدي بالولايات، وتطبيقها قاصر على العاصمة والمدن الكبرى، ولكنهم على الأقل يريدون لبيئتهم أن تبقى نظيفة، ولأبنائهم أن ينشئوا في بيئة صحّيّة  لا تستنزف صحّتهم وجهدهم وأموالهم، وألا تشوّه هذه البيئة بفعل ممارسات وظيفية خاطئة ظلّت متراكمة لسنوات طويلة، دون أن يأتي من يحاول تصحيح المسار، فقد علّمنا قائد مسيرة نهضة هذا الوطن أن الإنسان العماني هو أهمّ ما في هذا الوطن، وهو الثروة الحقيقية له، والمعني بكل البرامج التنموية على امتداد سنوات النهضة المباركة، ومن الخطأ أن نشوّه مسيرة هذه النهضة المباركة ببعض التصرفات الغير مسئولة من قبل البعض نتيجة لغياب المحاسبية والمساءلة الوظيفية الحقيقية".