الأربعاء، 14 يناير 2015

مـائـة ألف!!


تقول القصّة إن صبيّاً يابانيّاً قتل على يد زميله في الصّف الدّراسي لخلافات بينهما، حيث طعنه بسكّين، ثمّ قام بسحبه إلى أقرب مقلب قمامة. على إثر هذه الحادثة شكّلت لجنة عليا برئاسة رئيس الوزراء الياباني لدراسة المشكلة وتقصّي أسباب ما حدث، ضماناً لعدم تكرارها، وتوصّلوا إلى قرارات مهمّة بخصوص تعديل المناهج الدراسيّة، وبرامج إعداد المعلّمين، والبرامج الإعلاميّة الموجّهة للناشئة، ومواعيد العمل والاجازات الخاصّة بالموظّفين، حيث اعتبروا أن كلّ ذلك قد أثّر سلباً على قيام الصبيّ بفعلته، فلربّما لو جد منهجاً دراسيّاً يخاطب ذاته ويغرس فيه القيم الأخلاقيّة المطلوبة، ومعلّماً يوجّهه ويتفهّم ظروفه النّفسيّة والعاطفيّة والأسريّة، وأباً لا تشغله مواعيد العمل المضغوطة عن الجلوس معه، لما فعل ما فعله.

تذكّرت هذه القصّة وأنا أطالع الخبر (المتكرّر) حول ضبط الهيئة العامّة لحماية المستهلك لعدد من العمالة الوافدة بولاية السيب يقومون بتخزين وإعداد أطعمة ووجبات من مواد وسلع منتهية الصلاحية في إحدى الشقق والمنازل تجاوز عدها 100 ألف وحدة من السلع الغذائيّة المختلفة، ومن ثمّ إعادة توزيعها على مطعم ومقهى في الخوض والمعبيلة الجنوبية.

المغزى من القصّة أنّنا ما زلنا لا نحسن التّعامل مع الأزمات أو القضايا المختلفة التي نواجهها، لدرجة أنّ الأمر يكاد يتكرّر معنا بذات الصورة في كلّ مرة، ويقتصر تعاملنا معها على النتيجة لا السبب، فكم من مرّة انخفض فيها سعر النفط إلى الحضيض، أو انقطعت خدمات الكهرباء أو المياه لأسباب فنّيّة، دون أن نضع حلولاً جذريّة لا تنهي بانتهاء المشكلة وقتيّاً، بل وكم من مرّة تكرّر الخبر السّابق لدرجة أنّه يكاد أن يشعر المتابع اليوميّ لأخبار وسائل الإعلام المحلّية بالاستغراب ما لم يجد خبراً صباحيّاً عن ضبطية مشابهة هنا أو هناك!!   

أعود إلى خبر الضبطيّة ولعلّي بمن قام بها يخاطبون أنفسهم وهم يستعدّون نفسيّاً لشراء تلك السلع المنتهية قائلين: "ما داموا سيأكلون دون أن يسألوا عن كنه ما اشتروه أو أكلوه فالأمر مضمون"، وذات العبارة قالها الآخرون الذين وفّروا لهم هذه السّلع وهم يفكّرون في دخول العالم ذاته، وآخرون سبقوهم في دحول نفس العالم، عالم الرّبح السريع القائم على (الدّوس) على القيم وحياة النّاس والأرض التي احتضنتهم ووفّرت لهم فرص العيش الشّريف، بأكبر حذاء أسود يمكن أن ينتعلوه!

لا أقصد من مقالي هذا تهييج الرّأي العام، ولا صنع هالة إعلاميّة معيّنة، ولن أوجّه كلامي هذه المرّة للحكومة برغم عتبي وانتقادي لكثير من الاجراءات الإداريّة والقانونيّة التي سهّلت لأمثال هؤلاء التمرّغ في نعيم هذا الوطن على حساب أبنائه، بل سأوجّهه هذه المرّة لكم أنتم معشر المستهلكين. نعم أنتم من تعينون هؤلاء على التّمادي فيما يقومون به، وبأيديكم كذلك منعهم من الاستمرار في ما يفعلونه بحقّكم.

فليسأل كلّ واحد منكم نفسه: ألم أقف في طابور طويل عريض بداية أو نهاية كلّ شهر لشراء (الرّاشن) الذي يكلّفني في كل مرّة مبلغاً قد يوازي ربع أو ثلث أو نصف ما أتقاضاه من راتب!! ألم تصطفّ أمامي عربة أو اثنتان محمّلتان بكلّ ما لذّ وطاب من السّلع الغذائيّة المتنوعة! ألم تكتظّ ثلاجتي والمخزن الملحق بالمطبخ من الأغراض التي تمّ شرائها! ثمّ ألا يوجد في البيت ربّة بيت، وعاملة منزل عانيت الكثير مادّيّاً وبيروقراطيّاً من أجل جلبها لمعاونة ربّة البيت في أعمال المنزل اليوميّة! ما دمت قد فعلت كلّ هذا وأكثر فلماذا ارتياد المطاعم بسبب أو بدونه! وما دمت حريصاً على ارتيادها لمليون سبب حقيقيّ أو واه فلماذا لا أفكّر ولو لثانية قبل اختيار المطعم الذي سأشتري طعامي منه! وما دمت قد وصلت إلى المطعم أو المقهى فلماذا لا أكلّف نفسي عناء النزول وتأمل حالته وحالة العاملين به! لماذا لا أتخيّل ولو للحظة أنّ من يعمل في كثير من هذه المطاعم والمقاهي هم في الأساس ليسوا متخصّصين في هذا العمل، ولا يحملون شهادات تخوّلهم العمل كطهاة، وأنّ معظمهم أتوا من بيئات أقلّ نظافة من بيئتنا!

ثمّ لماذا لا يرتبط ذهابي إلى المطاعم بمناسبات اجتماعيّة أو عمليّة معيّنة، كأخذ الأسرة أو بعض الأصدقاء المقرّبين مرّة أو اثنتين كلّ شهر لتناول وجبة ما في مطعم يمتاز بالرّقيّ والنظافة، أو اصطحاب الموظّفين أو زملاء العمل في غداء عمل مثلاً، على الأقل سأشعر بقيمة المناسبة والمكان، ونوعيّة الأكل الذي سأتناوله، وسأشعر بنوع من الأمان لمعرفتي باشتراطات الجودة المتعلّقة بالمكان ذاته، وقيمة ما سأدفعه قد تكون أقلّ من المبالغ التي أدفعها يوميّاً في أماكن أقل جودة وخدمة وامكانات واشتراطات صحّيّة وبيئية. 

ثمّ إنّي أستغرب من شبابنا لتركهم الحبل على الغارب لأمثال هؤلاء للسيطرة على قطاع حيوي يمسّ صحّتنا وسلامتنا، ويعبّر عن جزء من هويّتنا وثقافتنا. ما أعلمه أنّ مهنة الطّهي ليست من المهن المستحيلة التي هي بحاجة لإمكانات خارقة تستدعي مجيء هؤلاء الوافدين وسيطرتهم على (كارها)، فنحن كمجتمع ما زلنا نتذكّر إلى سنوات قريبة مضت الطّهاة العمانيّون الذين كانوا يقومون بتجهيز الولائم المختلفة في المناسبات الاجتماعية العديدة التي يزخر بها مجتمعنا، ونحن أنفسنا من يعدّ أحسن الوجبات في رحلاتنا الخلويّة، فهل من المستحيل أن يقوم بعض شبابنا بافتتاح مطابخ أو مطاعم أو مقاهي أو حتّى أكشاك بسيطة لتقديم الوجبات العمانيّة التي تكاد أن تنقرض بعد أن حلّ محلّها وجبات فرضت علينا، وأحدثت تغييراً في ذائقتنا الغذائيّة والفكريّة!  وهل اعداد الشّاي، أو الخبز العماني بأنواعه، أو الثّريد، أو القبولي، أو غيرها من المأكولات المتنوّعة التي امتاز والتي ساهمت في تشكيل هويّتنا يعدّ من الأمور المستحيلة، أم أن الكسل، وثقافة (العيب)، وانتظار الوظيفة (الميري) أسباب تبعدنا عن هذا الخيار!!

 لماذا لا تخوضوا المجال ذاته! ما الذي يمنع أن تجرّبوا سواء كنتم هواة طبخ، أو أصحاب أعمال! نعم قد تواجهون صعوبات جمّة في البداية، وقد لا تجدون الدّعم التّشريعيّ الكامل، وسيحاول اللوبي المسيطر على هذا القطاع منعكم بكافّة السبل المشروعة وغير المشروعة، ولكنّكم ستستطيعون بشيء من الإصرار والتّحدّي تجاوز كل هذه العقبات والمعوّقات، وتأكّدوا أن المجتمع سيساندكم وسيقف خلفكم، لأنّه سيعود إلى مطبخه الرئيسي الذي يكاد أن ينقرض، ولأنّه سيضمن أن يجد طعاماً غير ضار، وغير مخلوط بمواد مغشوشة أو منتهية، لتيقّنه أن ابن بلده لن يرضى أن يحقّق مكاسبه على حساب أبناء جلدته الآخرين مهما كلّفه الأمر، ثم أن أمراً كهذا سيشجّع السائح الذي أتى للبحث عن مفردات ثقافتنا المتنوّعة، أن يرتاد هذه المطاعم وأن يتحدّث عنها وأن يربطها بثقافتنا كما نتحدّث نحن كل يوم عن ذكرياتنا في مطاعم شهيرة ارتدناها وأصبحنا نربطها ببلدان عديدة، بل إنّها قد تكون أحياناً سبباً لتكرار زيارتنا لهذه الدّولة أو تلك.

ختاماً، أنتم أكبر من أن تأكلوا طعاماً بنكهة السمّ، وأرقى من أن تشربوا شاياً مخلوطاً بريحة الجوارب، وأعلى شأناً من أن يستغفلكم من لا ضمير لديه لمجرّد رغبته في اختصار سنوات سفره على حساب.. حياتكم!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.