الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

كي لا ننسى

"كي لا ننسى"

وعماننا الحبيبة تحتفل بعيدها الوطني بعد ثلاثة وأربعون عاماً مرت كغيمة تحمل الخير والرخاء، وما زال رذاذ نفحاتها يغمر أرجاء الوطن على اتساعه بفضل العلاقة الحميمية، والود المتبادل، والثقة  بين القائد وشعبه، تبوّأت من خلالها مكانة مرموقة على الخارطة الدولية، دولة عصرية حديثة  متوازنة السياسات، تنطلق من حضارة عريقة، وماض مجيد، واضعة نصب عينها المستقبل بكافة أبعاده. بعد كل ما تحقق لا يوجد لديّ كثير كلام أكتبه سوى أن نقف قليلاً لنتذكّر كيف كنّا في وقت من الأوقات، وكيف أصبحنا الآن. نقف لنثمّن حجم البذل والعطاء. نقف لنؤجّل انتقاداتنا ورؤانا وملاحظاتنا ولو ليوم واحد لنقول لهذا القائد الفذّ الكريم المصلح : إنّ ما بذلته في سبيل هذا الوطن أكبر من يعبّر عنه، وأعظم من أن يحتويه سفر. فقط سيبقى في القلوب وستبقون معه رمزاً و أباً وقائداً ومعلّماً وملهماً إنحزتم  للوطن والمواطن فانحاز لكم، أعطيتموه الشيء الكثير  فأخلص لكم.

هكذا كنّا سيّدي "..دولة تعيش في النصف الثاني من القرن العشرين بلا ماء ولا كهرباء، ولا شوارع  ولا مقاه، ولا حدائق ولا مواصلات"
وهكذا رأوها " ..خيّل إليّ من أوّل نظرة ألقيتها على البلاد أنّ هؤلاء الناس مجرّد أسرى طال بهم الزمن، وأن الداخل هنا مفقود والخارج مولود".

هكذا كان ينظرون إلينا "..وعمان قطعة من العالم القديم . دجل وترﱠهات وخزعبلات، وظلام فوق ظلام، وأناس طيبون يروحون ويغدون، و الوقت هو أرخص السلع في عمان. الأسنان تخلع بالدوبارة، والناس هناك يأكلون المكرونة بالسكر".

وهكذا كان حالنا "الناس مرضى في عمان، لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن. الناس جياع فقراء في عمان، لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء. الناس جهلاء في عمان ، لأنه لم تفتح مدرسة ليتعلموا فيها"

هكذا كانوا يتفاجؤون" ..فوجئت بأنّ كلّ شيء نادر وقليل في عمان، الماء والطعام والنقود. الشيء الوحيد الذي يوجد بوفرة هو الذقون، والشيء الآخر الذي يوجد بشكل أوفر من الذقون هو الأمراض السّرّيّة، فهي ترعى بين أفراد الشعب كحريق شبّ فجأة في غابة أصابها الجفاف منذ زمن طويل".

".. لم يكن في عمان إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى، فلا شوارع ولا مبانٍ حديثة ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل  أشبه ما تكون  بما يسمى حظر التجول".

هذا ما تعلّموه عن وطننا ".. أول شيء تعلمته في مسقط هو أن صحة الشعب ضعيفة، والشيء الثاني الأسوأ، هو أن السبب الأساسي لذلك هو الحالة الاقتصادية. إن الصحة هي سلعة يمكن شراؤها، ولكن لأن العمانيين لا يملكون الماء فهم لا يستطيعون شراء ذلك الشيء الثمين".

" .. كانت عمان مركزاً بغيضاً للملاريا، أما أمراض المعدة فالمسؤول عنها هو هذا العدد الكبير من الذباب. وينتشر الجذام في كل مكان، بينما يعد الجدري سوطاً مدمراً فيها،  وتنتشر كذلك أمراض العيون حيث يبلغ عدد العميان في عمان الآلاف.."

هكذا كانوا يصفوننا" .. كنا نرى عمالقة من ذوي اللحى السوداء أتوا من بلاد بعيدة عن مسقط، أقول كنا نراهم وقد أتوا زحفاً بسبب الملاريا التي افترستهم حيث أن مسقط كانت تعج بأسراب البعوض، ولم يستطع غريب أن يهرب من الإصابة بالحمى.."

وهكذا كانوا يقارنوننا" .. هناك حقيقة يجب ألا نغفلها، وهي أننا إذا وضعنا مستشفيات أمريكا في أعيننا فلن نستطيع القول بأن ما بمطرح يسمى مستشفى. في حقيقة الأمر ما لدينا هو منزل للعناية بالمرضى، لا يوجد راديو، ولا أسرة، ولا شيء آخر، فقط يوجد بالحجرة ركن واحد مملوء بكيس كبير للفحم، وكمية من أخشاب الوقود، وفراش فوق الأرض، ودائماً توجد الأواني وقدور القهوة، وأهل المريض يقومون بشراء أصناف الطعام، ويقومون أيضاً بعملية الطهي في نفس المكان".

هذه كانت مواردنا " .. أما موارد عمان فهمي شمسها وأمطارها وتربتها، فالشمس هناك تكفي مدينتين، بينما لا تكفي الأمطار مدينة واحدة. لهذا ينظر الزائر إلى عمان وهو مشفق عليها ويتساءل: لماذا يريد الناس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطيع أن يستخرج الحياة من هذه المنطقة المليئة بالجبال".

" .. وتعتبر الضرائب شيئاً جديداً في عمان، إذ يجب أن يزيد الدخل بعد أن انخفضت الرسوم الجمركية، ونتيجة لذلك رحل ملاك الحدائق إلى زنجبار، أو الهند، أو إلى أي مكان آخر حيث تقل الأعباء. هكذا كان المواطن العماني محاصراً حتى في قوت يومه..".

وهكذا كان يختزل الوطن ".. إن الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله..".

هكذا كانوا يتحسّرون على تاريخنا العريق الذي عاد لنا".. ولطمت على خدّي حزناً على المصير الذي انتهت إليه أرض عربية كانت درّة في تاج العروبة، وكانت حجر الأساس في صرح العروبة وإلى زمن طويل، فإلى هذه البلاد كان ينتمي أعظم حكام أفريقيا الشرقية، وإلى هذه البلاد كان ينتمي آخر الملوك العرب في الكونغو أو ما يعرف بزائير، وهو الملك (تيبو تيب)، وهذه البلاد نفسها هي التي فرضت إتاوة على السفن البريطانية خلال رحلتها من الهند وإليها، وهي التي حطّمت أسطول البرتغال في مياه الخليج.."

هكذا كنّا سيدي قبل مجيئكم، هكذا. أما الآن.. فتلك حكاية أخرى.


د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

الاثنين، 4 نوفمبر 2013

"إلى متى هذا التجاهل"


وكأنّنا كنّا (وسنظلّ) ننتظر الموت أن يغيّب رموزنا كي نعرفهم عن قرب، وكي نتذكّر أن هناك أعلاماً ساهموا في نهضة هذا البلد فكرياً وحضارياً واجتماعيّاً بل وفي مختلف المجالات. أقول هذا الكلام بعد أن طالعتنا الصّحافة المحليّة ورسائل (الواتساب) بخبر وفاة القاضي والعلّامة الجليل المغفور له بإذن الله الشيخ سعود بن سليمان الكندي، وهي ذات الصّحافة التي أهملت أو (تجاهلت) أخباره وأخبار أمثاله طوال فترة حياتهم العامرة بالمنجزات. 

وبرغم أنني أدّعي حبّ التاريخ، وبرغم أنّني درسته كتخصص جامعيّ، وبرغم أنّني أدرّسه حالياً كمقرّر دراسيّ، إلا أنني كنت لفترة طويلة أجهل معرفتي بسيرة الشيخ الجليل لولا ما قرأته مؤخراً في كتاب (النّمير) بأجزائه السّتّة من شذرات بسيطة عن حياته وحياة علماء آخرين طوتهم يد النّسيان، هذا وأنا أدّعي الاهتمام بدراسة التاريخ العماني، فما بالكم بالآخرين الكثر ممن أصبح اهتمامهم به كاهتمام كاتب المقال بالقراءة في البرمجة العصبية وما شابهها.

حتّى عندما جرّبت أن أسأل طلابي الذين أدرّسهم مادة الدّراسات العمانيّة في إحدى الكليات عن مدى معرفتهم بالفقيد المرحوم فوجئت بأنهم جميعاً (عدا واحد) لم يسمعوا عن الشيخ من قبل، ولا عن مشايخ آخرين عدّدت أسماء بعض منهم عليهم، وعندما وجّهت سؤالي لذلك الطالب حول سبب المعرفة، كان الجواب (الصّادم) أنّه قريب لأمّه. أي أنّ القرابة وحدها هي مصدر المعرفة. إذاً هم لا يختلفون في شيء عن أستاذهم وعن قطاع كبير من المجتمع في جهلهم برموز مجتمعهم.

يبدو لي – وقد يتّفق معي البعض- أنّ هناك مشكلة تتعلّق بالتقديم لسير هؤلاء الرموز والعلماء، وعدم تناول حياتهم التناول الإيجابي الذي يعرّف المجتمع بهم، ويجعله ينظر نظرة تقدير واهتمام لما قدّموه طوال مسيرة حياتهم الحافلة. يبدو لي كذلك أنّه لا تعمّد في هذا التجاهل من قبل المؤسّسات المعنيّة اعلاميّة كانت أم ثقافيّة أم تربويّة، قد نسميها لا مبالاة، ضيق أفق، أو حتّى الاعتقاد بأنّ ما قدّمه هؤلاء لا يتواكب ونظرتهم للثقافة والمثقّفين وما يجب أن يكونوا عليه في هذا العصر.

في المجتمعات الأخرى يتم تقديم هؤلاء الأعلام على أنهم رموز، بينما تتعامل معهم وسائل إعلامنا المحلية المختلفة، والجهات المسئولة عن الثقافة، باعتبارهم" أنتيكات" يمكن كتابة (بعض) السطور عنهم أحياناً في زاوية صحفيّة مظلمة، أو استضافتهم لدقائق بسيطة بمقابل مادي بسيط لا يتوازى مع ما يمتلكونه من خبرات، وبغير مقابل في كثير من الأحيان.

في المجتمعات الأخرى كذلك تخصّص لأمثال هؤلاء مساحات إعلامية يقدمون فيها عصارة فكرهم وتجربهم، ويعرضون رؤيتهم وتصوراتهم في المجالات التي برعوا فيها، بينما لدينا يقصر البعض مفهوم الثقافة على أصحاب الأشعار من قبيل " سقطت قطرة .. فتثاءبت سمكة"، أو على مفكّري "تأثير الوعي اللا محسوس في ا لغدة السيمبثاويّة"، أو على من يكتبون قصصهم على ورق "الكلينكس" باعتباره ثورة على الرجعيّة في الثقافة، أو على المقرّبين من نجوم السلطة والمجتمع. هؤلاء وأمثالهم وحدهم من يكرّموا، ووحدهم من يطوف العالم معرّفاً بالثقافة العمانيّة، ووحدهم من يمثّلوننا في المحافل الفكريّة، ووحدهم من نحتفي به ونقيم أمسيات التكريم والتأبين وغيرها من أمسيات( الشلليّة )التي أصبحت شعاراً لواقعنا الثقافيّ المعاصر .

أمّا أمثال الشيخ الكندي والبطاشي والخصيبي وقائمة أخرى تطول ممن تيبّست أطراف أصابعهم بسبب آلاف الأوراق التي نسخوها على ضوء زيت قنديل خافت ذهب بجزء كبير من بصرهم، فهم لا يعدون في نظر (البعض) منّا أكثر من مثقفين رجعيين لا يتواكبون والتطور الثقافي الهائل الذي يلزمك أحياناً أن تقوم ببعض التصرّفات (الحداثيّة) كإطالة الشعر، والتسكّع في بعض الحانات، والقراءة في كتب غير مفهومة لكتّاب غربيين وشرقيين، مع أنّ هذا لا يعني عدم وجود مثقفين حقيقيين فرضوا انفسهم على الساحة الأدبيّة بإمكاناتهم وجهدهم، وإن كان جزء منهم نالته يد التغييب لأنه لم ينضم للركب المسيطر على مفاصل الحياة الثقافية اعلامياً وتنظيميّاً، وبالتالي لن يرد اسمه كثيراً في قوائم السفر الثقافيّة، ولن يتحدث عن الكتاب الذي أعجبه، ولن يدخل كعضو محكّم في إحدى لجان التحكيم الأدبيّة . 

يتألّم أمثال الشيخ الكنديّ كثيراً عندما يسمعون عن رغبة بعض المؤسسات الثقافية والفنية في دول أخرى، في تقديم السير الذاتية لأمثالهم ،من خلال كتب مطبوعة، أو تحويلها لبرامج وثائقية أو فنية، تحفظ تاريخهم، وفي نفس الوقت تحقق أعلى المبيعات، باعتبارهم شاهداً على كثير من التجارب والأحداث المختلفة على مدى سنوات طويلة.
يتألمون وهم يرون أسماء نظرائهم في تلك الدول تطلق على الشوارع المهمّة والمؤسسات الثقافية، يتألّمون كذلك وهم يسمعون عن مناهج مدرسيّة، وجمعيّات فكريّة أهليّة تناولت سير أولئك النظراء، وقدمتهم للأجيال بما يليق بهم، بينما هم يشكون التجاهل، وكأن جهداً لم يبذل، وكأنّ إنجازاً لم يحقّق.

إن أمثال الشيخ سعود الكندي كثر في مجتمعنا العماني وفي مختلف المجالات، هم بحاجة فقط لمن يمنحهم شيئاً من الاهتمام والتقدير. لا يجب أن ننتظر الموت كي نتذكّرهم في كلّ مرّة. فهي دعوة للقائمين على الجهات المنوط بها أمر التربية والتعليم والثقافة والإعلام والعمل البلديّ، لتقديم سيرتهم العطرة، وانجازاتهم الفكريّة للجيل القادم بالشكل الذي يتناسب وعطاءهم، فما أحوج هذا الجيل إلى من يقدم لهم خلاصة خبرة هؤلاء وكفاحهم وتضحياتهم، علـﱠـهم يجدون فيها ما يعينهم على مواجهة كثير من التحديات، ويرون فيها القدوة الإيجابية، في زمن اختلطت فيه كثير من القيم بتحديات العولمة.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com