الاثنين، 4 نوفمبر 2013

"إلى متى هذا التجاهل"


وكأنّنا كنّا (وسنظلّ) ننتظر الموت أن يغيّب رموزنا كي نعرفهم عن قرب، وكي نتذكّر أن هناك أعلاماً ساهموا في نهضة هذا البلد فكرياً وحضارياً واجتماعيّاً بل وفي مختلف المجالات. أقول هذا الكلام بعد أن طالعتنا الصّحافة المحليّة ورسائل (الواتساب) بخبر وفاة القاضي والعلّامة الجليل المغفور له بإذن الله الشيخ سعود بن سليمان الكندي، وهي ذات الصّحافة التي أهملت أو (تجاهلت) أخباره وأخبار أمثاله طوال فترة حياتهم العامرة بالمنجزات. 

وبرغم أنني أدّعي حبّ التاريخ، وبرغم أنّني درسته كتخصص جامعيّ، وبرغم أنّني أدرّسه حالياً كمقرّر دراسيّ، إلا أنني كنت لفترة طويلة أجهل معرفتي بسيرة الشيخ الجليل لولا ما قرأته مؤخراً في كتاب (النّمير) بأجزائه السّتّة من شذرات بسيطة عن حياته وحياة علماء آخرين طوتهم يد النّسيان، هذا وأنا أدّعي الاهتمام بدراسة التاريخ العماني، فما بالكم بالآخرين الكثر ممن أصبح اهتمامهم به كاهتمام كاتب المقال بالقراءة في البرمجة العصبية وما شابهها.

حتّى عندما جرّبت أن أسأل طلابي الذين أدرّسهم مادة الدّراسات العمانيّة في إحدى الكليات عن مدى معرفتهم بالفقيد المرحوم فوجئت بأنهم جميعاً (عدا واحد) لم يسمعوا عن الشيخ من قبل، ولا عن مشايخ آخرين عدّدت أسماء بعض منهم عليهم، وعندما وجّهت سؤالي لذلك الطالب حول سبب المعرفة، كان الجواب (الصّادم) أنّه قريب لأمّه. أي أنّ القرابة وحدها هي مصدر المعرفة. إذاً هم لا يختلفون في شيء عن أستاذهم وعن قطاع كبير من المجتمع في جهلهم برموز مجتمعهم.

يبدو لي – وقد يتّفق معي البعض- أنّ هناك مشكلة تتعلّق بالتقديم لسير هؤلاء الرموز والعلماء، وعدم تناول حياتهم التناول الإيجابي الذي يعرّف المجتمع بهم، ويجعله ينظر نظرة تقدير واهتمام لما قدّموه طوال مسيرة حياتهم الحافلة. يبدو لي كذلك أنّه لا تعمّد في هذا التجاهل من قبل المؤسّسات المعنيّة اعلاميّة كانت أم ثقافيّة أم تربويّة، قد نسميها لا مبالاة، ضيق أفق، أو حتّى الاعتقاد بأنّ ما قدّمه هؤلاء لا يتواكب ونظرتهم للثقافة والمثقّفين وما يجب أن يكونوا عليه في هذا العصر.

في المجتمعات الأخرى يتم تقديم هؤلاء الأعلام على أنهم رموز، بينما تتعامل معهم وسائل إعلامنا المحلية المختلفة، والجهات المسئولة عن الثقافة، باعتبارهم" أنتيكات" يمكن كتابة (بعض) السطور عنهم أحياناً في زاوية صحفيّة مظلمة، أو استضافتهم لدقائق بسيطة بمقابل مادي بسيط لا يتوازى مع ما يمتلكونه من خبرات، وبغير مقابل في كثير من الأحيان.

في المجتمعات الأخرى كذلك تخصّص لأمثال هؤلاء مساحات إعلامية يقدمون فيها عصارة فكرهم وتجربهم، ويعرضون رؤيتهم وتصوراتهم في المجالات التي برعوا فيها، بينما لدينا يقصر البعض مفهوم الثقافة على أصحاب الأشعار من قبيل " سقطت قطرة .. فتثاءبت سمكة"، أو على مفكّري "تأثير الوعي اللا محسوس في ا لغدة السيمبثاويّة"، أو على من يكتبون قصصهم على ورق "الكلينكس" باعتباره ثورة على الرجعيّة في الثقافة، أو على المقرّبين من نجوم السلطة والمجتمع. هؤلاء وأمثالهم وحدهم من يكرّموا، ووحدهم من يطوف العالم معرّفاً بالثقافة العمانيّة، ووحدهم من يمثّلوننا في المحافل الفكريّة، ووحدهم من نحتفي به ونقيم أمسيات التكريم والتأبين وغيرها من أمسيات( الشلليّة )التي أصبحت شعاراً لواقعنا الثقافيّ المعاصر .

أمّا أمثال الشيخ الكندي والبطاشي والخصيبي وقائمة أخرى تطول ممن تيبّست أطراف أصابعهم بسبب آلاف الأوراق التي نسخوها على ضوء زيت قنديل خافت ذهب بجزء كبير من بصرهم، فهم لا يعدون في نظر (البعض) منّا أكثر من مثقفين رجعيين لا يتواكبون والتطور الثقافي الهائل الذي يلزمك أحياناً أن تقوم ببعض التصرّفات (الحداثيّة) كإطالة الشعر، والتسكّع في بعض الحانات، والقراءة في كتب غير مفهومة لكتّاب غربيين وشرقيين، مع أنّ هذا لا يعني عدم وجود مثقفين حقيقيين فرضوا انفسهم على الساحة الأدبيّة بإمكاناتهم وجهدهم، وإن كان جزء منهم نالته يد التغييب لأنه لم ينضم للركب المسيطر على مفاصل الحياة الثقافية اعلامياً وتنظيميّاً، وبالتالي لن يرد اسمه كثيراً في قوائم السفر الثقافيّة، ولن يتحدث عن الكتاب الذي أعجبه، ولن يدخل كعضو محكّم في إحدى لجان التحكيم الأدبيّة . 

يتألّم أمثال الشيخ الكنديّ كثيراً عندما يسمعون عن رغبة بعض المؤسسات الثقافية والفنية في دول أخرى، في تقديم السير الذاتية لأمثالهم ،من خلال كتب مطبوعة، أو تحويلها لبرامج وثائقية أو فنية، تحفظ تاريخهم، وفي نفس الوقت تحقق أعلى المبيعات، باعتبارهم شاهداً على كثير من التجارب والأحداث المختلفة على مدى سنوات طويلة.
يتألمون وهم يرون أسماء نظرائهم في تلك الدول تطلق على الشوارع المهمّة والمؤسسات الثقافية، يتألّمون كذلك وهم يسمعون عن مناهج مدرسيّة، وجمعيّات فكريّة أهليّة تناولت سير أولئك النظراء، وقدمتهم للأجيال بما يليق بهم، بينما هم يشكون التجاهل، وكأن جهداً لم يبذل، وكأنّ إنجازاً لم يحقّق.

إن أمثال الشيخ سعود الكندي كثر في مجتمعنا العماني وفي مختلف المجالات، هم بحاجة فقط لمن يمنحهم شيئاً من الاهتمام والتقدير. لا يجب أن ننتظر الموت كي نتذكّرهم في كلّ مرّة. فهي دعوة للقائمين على الجهات المنوط بها أمر التربية والتعليم والثقافة والإعلام والعمل البلديّ، لتقديم سيرتهم العطرة، وانجازاتهم الفكريّة للجيل القادم بالشكل الذي يتناسب وعطاءهم، فما أحوج هذا الجيل إلى من يقدم لهم خلاصة خبرة هؤلاء وكفاحهم وتضحياتهم، علـﱠـهم يجدون فيها ما يعينهم على مواجهة كثير من التحديات، ويرون فيها القدوة الإيجابية، في زمن اختلطت فيه كثير من القيم بتحديات العولمة.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.