الأحد، 25 مارس 2012

نحو معايير وطنية للتعليم


    يعيش العالم حالياً تحديات عديدة، حيث تتعرض المجتمعات المختلفة لتحولات عميقة وسريعة، وذلك بسبب المتغيرات العلمية والتكنولوجية المعاصرة المتسارعة، والتي انعكست على المجتمعات من خلال التغيرات الاقتصادية والاجتماعية سواء على المستويات المحلية أو الإقليمية أو العالمية المصاحبة.

   ولذلك أصبح على التربية عبء مواجهة هذه التحديات التي تشمل العالم كله، فلابد من مراجعة الواقع التربوي في مختلف دول العالم من أجل تطوير التعليم وتحديثه، لأن التربية تعتبر الأداة الفعالة في إحداث عملية التغيير الحقيقي داخل النفس الإنسانية، وإذا أراد الإنسان أن يتنبأ بدرجة معقولة من الصدق عن الصورة المستقبلية لأي مجتمع من المجتمعات، فلينظر إلى نظامه التربوي ومناهجه التعليمية، وسلوك طلابه.

     ومن المعلوم أن التحولات والتغيرات الدولية والمجتمعية المتلاحقة قد أدت إلى ظهور العديد من المفاهيم التي لم تألفها مجتمعاتنا العربية والإسلامية من قبل، كمفاهيم العولمة، والعالمية، والكونية، والكوكبة، وصراع الحضارات، وحوار الحضارات، والحداثة، وما بعد الحداثة، والهوية الثقافية، وعولمة الثقافة، والاختراق الثقافي، والخصوصية الثقافية، والتبعية الثقافية، والتربية الدولية، والسلام العالمي، والتطرف، والإرهاب الدولي، وغيرها من المفاهيم المختلفة، التي تدل على حدوث تغير كبير في المجتمع، وبالتالي صار من مسئوليات التعليم في بلادنا مواجهة تلك التغيرات والتطورات المجتمعية المترتبة على انعكاسات هذه المفاهيم على عملية التربية في ظل تحديات العولمة، وإفرازاتها المختلفة، وذلك من خلال عمليات التقويم والتطوير المستمرة للمناهج الدراسية المختلفة.

   وفي إطار مجتمع المعرفة ومتطلباته التربوية، وما اقتضاه من مفاهيم المعلوماتية وصناعة المعلومات Information making  ، والانفجار المعرفي، وتطور أبحاث المخ والذكاء من جهة، والانفتاح العالمي وما كرسته العولمة من جهة أخرى، أصبح من الضرورة بمكان الإسراع في منظومة حاكمة شاملة لعمليات التعليم والتعلم، تكون هي المنطلق والإستراتيجية والطموح ومقياس التقدير والحكم في آن واحد .

   وتتمثل هذه المنظومة فيما يعرف بالمعايير القومية للتعليم National Standards for Education، التي يعد الهدف وراء وضعها في أي مجتمع، هو السعي نحو تحقيق الجودة الشاملة للتعليم في هذا المجتمع قياساَ إلى المجتمعات المحيطة به، باعتبار المعايير القومية محددة لمستويات الجودة المنشودة في منظومة التعليم والتعلم بكل عناصرها، والتأكد من الاتجاهات الصحيحة والنواتج الفعلية التي تؤهل للعالمية والدولية .

       وفي ضوء التحديات العلمية والتكنولوجية التي مر بعضها سابقاً، تتحمل العملية التعليمية مسئولية إعداد كوادر المستقبل، لتقود المجتمع، في عالم يتطلب الجودة الشاملة في كل مناحي الحياة: مجتمع ينمو ويتقدم في ظل منافسة يفوز فيها الأقوى علماً ومعرفة، ويسود بامتلاكه أرقى أنواع التربية والتعليم.
       لذا بدأت الدول المتقدمة منذ ما يقرب العقدين في وضع توصيف دقيق، يحدد ما يجب أن يكون عليه كل مجال من مجالات العملية التعليمية، وتعتبر هذه العبارات الوصفية بمثابة المستويات المعيارية التي يسعى المسئولون في التعليم إلى الوصول إليها، لأنها محكات يقاس في ضوئها مستوى التقدم الذي تحققه أي أمة في التعليم.

        ومن هنا يتحدد مفهوم المعايير في التعليم بحسب تعريف الباحثة سهيلة الفتلاوي على أنها "محددات وضوابط يتم تحديدها بهدف الوصول إلى رؤية واضحة للمدخلات والمخرجات وتحقيق الأهداف المنشودة وصولاً للجودة الشاملة في التعليم".

     وللمعايير أهمية كبرى في العملية التعليمية، حيث أنها تسهم في رسم توقعات لطموحاتنا في التعليم، وتوجيه العمل التربوي في كافة مجالاته، وتوفير محكات موضوعية لقياس نجاحاتنا في مسيرة التعليم.

      وعلى هذا الأساس تصبح المعايير هي التقنية والأداة التي يمكن في ضوئها استحداث أنماط من التعليم والتعلم التي تتناسب مع احتياجات الحاضر والمستقبل، وهي التقنية التي تمكن من النظر إلى العملية التعليمية نظرة شمولية، تسمح بدراسة واقع التعليم دراسة كلية في أطر محددة، وتحقيقاً لأهداف محددة، وباستخدام أدوات محددة، مما يؤدي إلى سهولة رصد المشكلات التعليمية، وبالتالي العمل على تقديم الحلول والبدائل.   

     كما أن حركة المعايير أصبحت محور اهتمام المتخصصين في التربية والتعليم، ذلك أنها اقترنت بالبحث عن مسببات الجودة في التربية والتعليم، وقد بدأت في السنوات الأخيرة كثير من المؤسسات التعليمية تتجه إليها لتحقيق الموضوعية في حكمها على متعلميها، والكشف عن فجوات الأداء، والتوصل إلى نتائج منطقية تضمن توفر منتج متميز.

      ويمكن أن تساعد المعايير التربوية على تحسين التحصيل الدراسي للمتعلمين، حيث أنها تحدد ما يجب تدريسه تحديداً واضحاً، وتحدد ما يجب على المتعلمين أداؤه، وتحقق مفهوم المساءلة لدى القائمين على العملية التعليمية، وتوحد نتائج التعلم .

    وقد اهتمت العديد من الدول العربية والأجنبية بتطوير مناهجها في ضوء المعايير،ونذكر هنا تجربة الولايات المتحدة الأمريكية التي كان من أسباب ظهور حركة المعايير بها هو نشر تقرير " أمة في خطر" عام 1983، الذي كشف عن الضعف الذي أصاب القاعدة التعليمية في المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت، مما حتم القيام بتقويم ومراجعة كل جوانب العملية التعليمية، والتوصية بالاهتمام بمحتوى التعليم، والمستويات والتوقعات لأداء الطالب، كما أصدرت دولة الإمارات العربية المتحدة وثائق وطنية لعدد من المواد ركزت جميعها على معايير الأهداف العامة للمواد ، ومعايير التدريس، ومعايير توظيف الثقافة، ومعايير التقويم، والتنمية المهنية للمعلمين، ومعايير كتاب الطالب ودليل المعلم.

     وفي مصر جاء مشروع وزارة التربية والتعليم (2003) بعنوان" المعايير القومية للتعليم في مصر"، بهدف تحقيق الجودة الشاملة في التعليم في مصر، من خلال وضع المعايير والمؤشرات في خمسة مجالات رئيسة تمثل جوانب العملية التعليمية وهي المدرسة الفعالة الصديقة للمتعلم، والمعلم، والإدارة المتميزة، والمشاركة المجتمعية، والمنهج ونواتج التعلم.

     لذا فإن الوقت قد حان للتفكير في وجود معايير وطنية للتعليم يمكن أن تكون أساساً للتطوير المنشود في مجال التعليم في ظل دعوة صاحب الجلالة لتقييم التعليم، وفي ظل الدعوات المتكررة من قبل شرائح مجتمعية مختلفة لإعادة النظر في مخرجات العملية التعليمية الحالية، بحيث تشمل هذه المعايير كافة جوانب العملية التربوية من آلية اختيار وإعداد للكوادر الإدارية والفنية، ووثائق منهج تراعي الجودة الشاملة، ونواتج تعلم يتم قياسها وفق مدى تحقيقها للمعايير الموضوعة سلفاً وليس في ظل النسبة التي يحصل عليها الطالب، ووسائل وأساليب التقويم تكون أولويتها العمل على تحقيق التحسن المستمر في عمليتي التعليم والتعليم الموجه إلى تحقيق التحسن في قدرات ومهارات الطلاب.
      

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 14 مارس 2012

الرهان على العدالة

للأخ  الذي كال لي كل أنواع السباب لمجرد أنه لم تعجبه بعض آراءي


أقول له: هناك ملايين الطرق للحوار غير الأسلوب الذي اتبعته


عموما...أنا أراهن على القضاء العادل
وسأمتنع عن الكتابة حتى يتحقق ما أريد



الخميس، 8 مارس 2012

مواقف حياتية (24)

جريدة عمان - الخميس 8/3/2011

هذه مواقف حياتية نصادفها يومياً.. نعرضها ليس من باب النقد، ولكن من أجل أن تكون الرؤية أكثر جمالاً ووضوحاً.
(1)
في الوقت الذي يخصص فيه إعلامنا المرئي والمسموع والمقروء مساحات مختلفة للتعبير عن الشكاوى والملاحظات والمطالبات المجتمعية المختلفة، والتي يغالي (البعض) فيها لدرجة شعورك وأنت تطالع تلك الشكاوى والمطالبات بأن الصورة المرسومة عن واقع الخدمات والمنجزات هي صورة قاتمة يسودها القصور، فهل يمكن أن نرى برنامجاً معاكساً  يستعرض الجوانب الايجابية التي نلمسها كل يوم في حياتنا كالإشادة بخدمة حكومية معينة، أو استحسان تصرف مسئول ما، أو الحديث عن سلوك حياتي جميل قام به شخص أو مجموعة ما، أو تثمين إقامة مشروع مجتمعي أو حكومي من شأنه أن يخدم شريحة مهمة من المجتمع...ألخ.
بدون المناقشة الجدية والهادفة لمشاكلنا وقضايانا المختلفة فإننا لن نستطع التوصل إلى حلول ناجعة لها، ولكن علينا ألا نطيل النظر في النصف الفارغ من الكأس فقط.
 (2)
في الوقت الذي كان فيه مقدم البرنامج الإذاعي الصباحي (والذي أكن له كل التقدير) فرحاً بتفاعل البعض مع الحالة الإنسانية  لإحدى المتصلات التي تحدثت عن ظروفها الصعبة وعن عدم وجود مسكن مناسب لها ولعائلتها، فإن هذا الأمر أثار حزني وضيقي الشديد، فبالتأكيد لم تكن لهذه المرأة أن تتصل وتعرض لمشكلتها وحاجتها أمام مسمع من الكل لولا الحاجة الماسة، ولولا أنها سلكت كافة السبل الأخرى قبل أن تقدم على هذه الخطوة.
آلام الآخرين لا يمكن أن تكون مسرحاً نستعرض فيه تمسكنا بالقيم،ومدى حرصنا على التكافل الاجتماعي ، ولو كان هناك تكافل (حقيقي)،ومسئولية وظيفية من قبل الجهة التي يهمها الموضوع  لما رأينا هذه الحالة وأمثالها.
لماذا ننتظر وقوع المشكلة ثم نفكر في حلول عشوائية متسرعة لها؟
(3)
يتحفنا الصحفي النشط علي بن صالح  الحبسي بموضوعات صحفية جميلة كل أسبوع عن عدد من القرى والحارات والمنازل الأثرية، ينقلنا من خلالها إلى عوالم جميلة من  الإثارة مع تاريخ هذه الشواهد الذي عايش بعضنا متعة الحياة فيها في فترة زمنية سابقة، ومازال البعض يعيشها حتى الآن.
شخصياً أتمنى على زميلي العزيز أن يقوم بتجميع هذه المادة الصحفية  المهمة كي تكون تذكاراً في ظل الإهمال التي تلقاه كثير من هذه الشواهد، والخشية من فقدانها جميعاً ذات يوم، بحيث لا يجد الجيل القادم ما يتذكره عن بلده سوى أنه كان هنا في يوم ما شواهد تحكي عن تاريخ ضارب في العراقة والقدم، وأجيال ضحت كثيراً من أجل بناء هذا التاريخ.
آمل أن تصلني قريباً نسخة من موسوعة (الحارات العمانية القديمة) لمؤلفها علي بن صالح الحبسي، على أن تتولى وزارة التراث والثقافة أو وزارة الإعلام أو أية جهة أخرى يهمها تاريخ البلد، التكفل بكل ما يتعلق بعملية إخراج هذه الموسوعة إلى النور.
(4)
" إحباط محاولات تهريب 13 طناً من الأسماك  في المنافذ الحدودية  خلال شهري يناير وفبراير ".
عند قراءتي لهذا الخبر في عدد من الصحف المحلية تذكرت الكميات الكبيرة والمتنوعة من الأسماك التي كنت أراها في بعض مصانع شحن وتعليب الأسماك في بعض ولايات محافظة جنوب الشرقية التي تشتهر سواحلها بالإنتاج السمكي، والتي لم أكن أجد لها أ ثراً عند قيامي بالتوجه لأقرب سوق لبيع الأسماك في تلك الولايات.
تمت الإشارة  أكثر من مرة في مقالات سابقة لموضوع كهذا، وخطورته على الاقتصاد المحلي ، وعرض البعض في عدد من المنتديات الإلكترونية  لصور توضح عمليات بيع الأسماك العمانية في بعض الأسواق المجاورة.
المراقبة المستمرة، وعدم التهاون في تطبيق اللوائح المنظمة لعمليات حظر تصدير بعض أنواع الأسماك من شأنه أن يحد من هذه الظاهرة، علماً بأنها غير مقتصرة على قطاع الأسماك فقط، بل تتعداها لتشمل قطاعات أخرى كاللحوم العمانية التي يتم بيعها في الأسواق المجاورة لاستخدام عظامها كحساء لهجن السباق في الوقت التي لا يجد المواطن العماني هذه اللحوم، وإن وجدها فقد يقترض من أجل شرائها.
(5)
(أبو وردة ..والعالم في خطر). عبارة قرأتها على جانب إحدى السيارات الشبابية، وهي لا تختلف عن كثير من العبارات المشابهة التي يكتبها البعض على جدران البيوت، وجوانب السيارات، وواجهات بعض المباني.
ترى من هو الذي في خطر. هل هو "أبو وردة" الذي ربما لم يجد من يقول له إن لديه إمكانات وطاقات خلاقة يمكن أن يستغلها في جوانب أكثر أهمية ونفعاً وارتقاءً بشخصيته ، أم هو المجتمع الذي لم يستطع أن يقنع "أبو وردة" وأمثاله أن ما يقومون به من سلوك كهذا يتناقض مع مبادئ السلوك الذي ينبغي أن يتحلى بها الفرد، ويتعارض مع أساسيات المواطنة الحقة التي تحث على الحفاظ على نظافة البيئة المحلية وعدم تلويثها بعبارات كهذه.
يبقى  السؤال الذي مازال يشغلني ويرهق تفكيري وهو: ماذا يقصد أبو وردة بعبارته هذه؟ مجرد فضول لا أكثر.
(6)
في كل يوم أقرأ عن مبادرات ومشاريع تربوية واجتماعية واقتصادية مهمة تقوم بعض المدارس والمؤسسات المختلفة بتنفيذها، سواء كانت من بنات أفكار هذه المؤسسات والعاملين بها، أو استيحاءً من أفكار مشاريع  رائدة قامت جهات محلية أو خارجية بتنفيذها ولاقت نجاحاً كبيرا.
السؤال المهم هو لماذا لا تقوم إحدى الجهات بتجميع خلاصة هذه المشاريع وخطوات تنفيذها، ومن ثم يتم تعميمها كي يتم الاستفادة منها، خاصة وأن كثير من هذه المشاريع تسلط الضوء على قضايا مجتمعية مهمة وتعرض خطوات  قد يسهم تطبيقها في الحد من كثير من المشاكل التي يعاني منها المجتمع.
(7)
بعد معاناة قصيرة مع المرض، غيَب الموت الأديب والشاعر والتربوي  والراوية وجامع الفلكلور عبد القادر الجيلاني بعد رحلة عطاء قاربت الستين عاماً حفلت بكثير من الانجازات الجميلة على مختلف الأصعدة التربوية والكشفية والأدبية والمجتمعية.
عبد القادر بن محمد الجيلاني تَأبّطَ ذَاكِرتَهُ.. ورَحَل.
سقى الله قبرك رحمات وزخات من المطر والخشوع والطمأنينة أيها الرجل الكريم.
(8)
من أبيات للراحل عبد القادر بن محمد الجيلاني في قصيدته "وثيقة عهد":
زهر تضوع، فاح الطيب تاليــه 
                                   والطير غـرد لحن الورد يسجيه
ورد تـعطر بالأرجاء نفحتــه   
                                   شـدو البلابل معنى الحب يشجيه
والبحر يحكي من الأمواج ملحمةً  
                                   ذكـــر الربابنة الأفذاذ يطريه
كم أبحرت في شراع المجد مبحرة 
                                   سفائن الخير كل الخيـر تجبيـه
سل البحار عن الآباء وما صنعوا 
                                   قم حدِّث الابن عن موروث أهليه


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


الثلاثاء، 6 مارس 2012

عبد القادر الجيلاني تأبط ذاكرته.. ورحل


   جريدة الرؤية - الثلاثاء 6/3/2012

لمّا سُئِلتْ عنه، أجابتهم: تأبّطَ قلمًا ونزل ينوي أن يضع فوق كلِّ حكاية حرفًا، ملأ ذاكرته التراثية نثرًا وشعرًا وجمع من كل الفنون الجميلة التي تركتها هذه الأرض الطيبة أثرًا بعد أثر وحكايةً شرقيةً بعد حكاية، ظهر واختفى ثم وقف واستوقفْ وبكى أمامها يسألها أجابتهُ بما يسرُّه، وأجابها بما يُشتهى، فها أنت أيها السائر إلى طريق الخلود تضع رجلاً في السماء ورجلاً في ذاكرة البحر أيها البّحّار الشرقي يا جامع الدرّ والعقيق والمرجان الأحمر قد دوّنت جداريتك فوق أديم السماء.
* * *
 أبصرت عيناك الصغيرتان قريتك الفينيقية "صور" قبل ستين حجةً من الآن ونمت أغصان طفولتك بماء القرآن وعذب التلاوة والترتيل في تلك الكتاتيب الصغيرة على ممرات حارتنا القديمة، تنقّلتَ في الخليج شعرًا وشدوًا وطلبًا للعلم تارةً ولتاريخ الربابنة والنواخذة تاراتٍ أُخر وزرعت في كل رابيةٍ نخلة، بعدها صنعت من الأطفال أعمدةً طاولت بهم عناقيد النجوم وحُصيّات القمر، علّمتَ .. ربّيت جيلاً بعد جيل وأظهرت موهبةً وكشفت عن أخرى في محافل الأدب وخيام الشعر بين الفرزدق وجرير والحطيئة الشاعر العجوز، أسست أنديةً ليس كأندية قريش ولا كحلبات روما القديمة وبنيت صرحًا من صروح العلم قبّتهُ الأدب، كنت وما تزال من الآباء المؤسسين لهذا الوطن الجميل، فقد الوطن –في هذا الوقت- وطنًا يجمعك في حكايات وفنون شعبية وقصائد وتراثيات وحرفة وحيدة بل حرفيات، قلت –كما قيل لنا- أنك قلت شلّة مسبّع:
خاطف بدربي وشفت السولعي مــاشي
يوم قلت أيش الطلب ؟ قال: الطلب ماشي
عــدّى بدربــه ومرّ بسيره متـحاشي
* *
السيـــر فوق الأرض والأثر في قلبي !
هيّض فـؤادي وخلى الشـــوق يلعبي
لــولا الحيا والملامة فاتحته بحــبي
أخشى كـــلام الخَلْق واتحذّر الواشي
* * *
وها أنت تقول من فن "بن عبادي":
بديت بك خالقي يا عالمــــن باليقيـن
اهدي تحية وسلام مسا الخير يا الحاضرين
قال الفتى القادري ازقر بصوتي اللحــين
يا مولدات الهوى استلمن بنوك الخزيــن
تاهت بساتين "مخا" تثمر بخوخ وتيـــن
ميلي غصون الورد واتخضع الياسميــن
* * *
ترى كم من أجيال تعلمت أبجديات المعرفة على يديك، وكم من باحث قد وقف على بابك طالباً الإذن بأن ينهل من بعض معين معرفتك، وكم من إعلامي دفعته رحابة صدرك وغزارة ثقافتك المحلية كي تكون ضيفاً خفيفاً على برامجه التي تعنى بالموروث العماني والتي لا يجيد الحديث فيها سوى أمثالك، وكم من شاعر كان تأبطك ليده وتقديمك له على حساب ظهورك في الأمسيات المتعددة التي كنت تدعى إليها سبباً في بزوغ نجمه.

ترى هل يتذكرك الآن كل هؤلاء؟
وهل تتذكرك حواري صور والأشخرة وسمائل وغيرها من الحواضر العمانية التي تنقلت بينها طوعاً معلماً ومديراً، ملبياً نداء الوطن بالعودة للمساهمة في بناءه ، تاركاً مغريات كثيرة في وقت كانت العودة في نظر البعض أشبه بالجنون.
بل هل ستنساك كل الولايات وأنت الذي لم تترك قرية عمانية دون أن يكون لها نصيب من حضورك لفعالية من فعالياتها المختلفة.
* * *
ماذا سنكتب عنك يا أستاذنا، أعن شاعريتك الجميلة، أم مسيرتك في مجال التربية والتعليم، أم سنتطرق إلى الحديث عن دورك المهم في  تأسيس الحركة الكشفية في المحافظة، أم سنلخص دورك المهم في صقل مواهب المسرح المدرسي كونك أحد رواده، أم سنفتح خزائن دررك في مجال الفلكلور الشعبي وكل ما يتعلق به من فنون وعادات ومناسبات، أم عن عشرات المهرجانات الوطنية والتربوية التي لم يكن ليكتمل نجاحها بدون بصمتك.

أعذرنا أيها الرائع فمداركنا قاصرة عن تتبع سيرتك بكافة جوانب إبداعاتها، فهي أوسع من أن تلخص في بضعة سطور.
ترى هل سيأتي من يلملم هذه السيرة يوماً ما في سفر يبقى تذكاراً لأجيال قادمة علهم يقتبسون شيئاً من عطاء أمثالك ، وهل سيفكر أحدهم في إقامة أمسية تتناول جوانب من مسيرتك الحافلة ، وهل سيقترح آخر أن يتصدر اسمك قوائم التكريم في أحد مهرجاناتهم، وهل سنطالع في أحد ملاحقهم الصحفية شذرات من سيرتك.هل سيحدث كل ذلك أو بعضه؟
* * *

ألست أنت الذي أبيت إلا أن تقول "وثيقة عهد" تظل شاهدك الأخير على قبرك الداني من قلوب الناس كأنك ترثي نفسك قبل أن تموت "زهر تضوّع، فاح الطيب تاليه":
زهر تضوع، فاح الطيب تاليــه  **  والطير غـرد لحن الورد يسجيه
ورد تـعطر بالأرجاء نفحتــه    ** شـدو البلابل معنى الحب يشجيه
والبحر يحكي من الأمواج ملحمةً   ** ذكـــر الربابنة الأفذاذ يطريه
كم أبحرت في شراع المجد مبحرة  ** سفائن الخير كل الخيـر تجبيـه
سل البحار عن الآباء وما صنعوا  ** قم حدِّث الابن عن موروث أهليه
* * *
ولدت كهلاً  يا عبد القادر ورحلت شيخًا حكيمًا يا عبد القادر بن محمد الجيلاني.. لعقت المرَّ حتى تذيقنا العسل الحلو، سقى الله قبرك رحمات وزخات من المطر والخشوع والطمأنينة أيها الرجل الكريم.
  بقلم : د.محمد بن حمد العريمي و علي بن حمد الفارسي