الثلاثاء، 30 يونيو 2015

رمضان في ذاكرتي

أثناء إعدادها لبرنامجها الإذاعيّ الرمضانيّ "رمضان في ذاكرتهم" طلبت مني المذيعة المتألّقة نايلة بنت ناصر البلوشية أن أسرد شيئاً من ذكرياتي البسيطة مع الشهر الفضيل، ومع أنّني حاولت الاعتذار كون أنّ هناك من هم أقدر منّي على سرد ذكرياتهم إلا أنّ إصرارها كان أقوى، وهي ثقة أعتزّ بها من مذيعة مثقّفة بحجمها.

الحديث عن ذكريات رمضان بالنّسبة لي أمر قد يلامسه شيء من الحيرة في تحديد البداية والنهاية، ذلك أنّني قضيت رمضان في أكثر من بيئة تمتاز كلّ منها بعبق خاص قد يختلف قليلاً أو كثيراً عن الأخريات ابتداءً بالقرية وانتهاء بدولة مثل مصر، مروراً بالعاصمة وعدّة ولايات، ولكنّها في مجملها كانت ذكريات جميلة وأليمة وطريفة عايشتها في هذا الشهر كما عايشها غيري من أبناء جيلي ومن سبقه وتلاه ما زالت حاضرة في الوجدان ولا يمكن البوح بها جميعاً في هذه العجالة، ويمكنني القول إنني من الجيل الذي لحق على متعة رمضان الحقيقية بلمّته الجميلة، ولياليه الروحانيّة، وسهراته الرائعة، وبقيمة الإحساس بالآخر برغم المصاعب التي كانت تطرأ أحياناً لظروف مختلفة كالجو والامكانات وغيرها.

أنا من الجيل الذي كان يعتقد فعلاً أن رمضان شيء مقدّس لا يجوز فيه الكذب أو ترك الصلاة او سماع الأغاني، أو حتى بلع اللّعاب، وكان ارتيادنا للمسجد منذ الصباح الباكر وكل منّا يمسك بمصحفه خاصة لو صادف دخول الشهر وقت عطلة من الأمور التي لا يمكن نسيانها، وكثيراً ما كنّا نتحدى بعض بقدرة تحملنا على الاستمرارية في صيام اليوم. 

من الجيل الذي حظي بمتعة الافطار في الحارة مع النّساء والأطفال عندما كانت هذه العادة لا تزال باقية، وفي المسجد مع الكبار عندما كان الجميع يحرص على ذلك، والذي كان يتسابق مع أقرانه على من يصل بالافطار المرسل من منزله إلى المسجد أو إلى بيوت الجيران أولاً، وعلى من يقوم بتقديم القهوة للكبار بعد الانتهاء من أداء صلاة المغرب.

من الجيل الذي عايش شراء قوالب الثلج عندما لم تكن الثلاجات متوفرة كما هي اليوم، والذي كان يسدل الشراشف المبللة على جسده عندما كانت الكهرباء تنقطع أحيانا أو بسبب عدم تغطيتها لكافّة الأماكن وقتها، والذي كان ينتظر بلهفة قدوم الشّهر كي يتذوّق طعم الفيمتو، ويحلّي بلقمة القاضي في وقت لم يكن المجتمع قد عرف بعد الوصفات التلفزيونيّة الغريبة، والمأكولات الجاهزة كما هو الحال الآن! والذي طالما تلذّذ برائحة الكاستر وهي تفور في النار، واختلف مع أخيه الأكبر منه على من يظفر ببقاياها في القدر كي يتناولها وهي مازالت ساخنة، وما ألذّه من طعم.

من الجيل الذي تعلم الذهاب وهو طفل لأداء صلاة التراويح وكثيراً ما كان النوم يغالبه على رجل والدته، ثم حرص على أدائها مع الكبار عندما شبّ قليلاً، ولا بأس بأداء نصفها ثم استكمال الوقت المتبقي أمام باب المسجد أو في الساحة القريبة منه لممارسة بعض الألعاب الشعبيّة التي اندثرت أو كادت، والتي قد لا يعرف عنها بعض من أبناء الجيل الحالي الشيء الكثير. وقتها كانت طقوس الصلاة تمتد لقراءة القرآن والأدعية، وتختتم بصواني الفوالة ووجبات العشاء التي كان يحرص كل بيت على إرسالها للمسجد.

من الجيل الذي رافق صالح زعل وسعود الدرمكي في مسيرة دراميّة رمضانيّة طويلة منذ الشايب خلف في مسافر خانه مروراً بجحا وحماره وعايش زمانه (وتبقى الأرض),(اباء وأبناء),(جمعه في مهب الريح),(سعيد وسعيده),(قرائه في دفتر منسي)، وغيرها من الاعمال الدرامية الاذاعية والتلفزيونية التي مازالت حاضرة في الوجدان، وحفظ أسماء من أمثال صالح شويرد، والمرحوم سعد القبان، والاخوان ماهر ومهران البرواني، وأمينة موسى،  وجمعه هيكل، وطالب محمد، وأمينة عبد الرسول، وصالح محفوظ، وهادي السرحاني، وايمان محمد وغيرهم ممن أسهموا في خارطة الدراما العمانية، والذي اختفى بعضهم فجأة تاركاً تساؤلات مختلفة حول أسباب هذا الاختفاء!

من الجيل الذي ارعبه غانم الصالح كامل الأوصاف اللي يخوّف وما يخاف، والذي كره خالد العبيد أو علقم علقم مر ومدلقم في (مدينة الرياح)، والذي مازال يحفظ بعضاً من أغنية المقدمة لمسلسل (خالتي قماشه). الجيل الذي لم يفهم وقتها عمّ كانت تتحدث فوازير نيللي، والذي مازال يتذكر دور سعود الدرمكي ملك ليون، وصالح زعل في دور ابن عبّاد حاكم اشبيليه في (الشعر ديوان العرب) ذلك العمل الدرامي العماني الرائع الذي أتمنى أن يعاد عرضه مرّات ومرّات. الجيل الذي استمتع بمسلسلات خالدة من نوعيّة (الشهد والدموع)، و(ليالي الحلميّة)، و(أرابيسك)، و(أيام شامية)،و(الجوارح) وغيرها من المسلسلات الباقية أحداثها في الذاكرة عندما كان تلفزيون سلطنة عمان هو الوسيلة الإعلاميّة المرئيّة الوحيدة التي تتوجّه إليها الانظار قبل أن نبتلى بإسهال البرامج والمسلسلات كما هو الحال الآن.

من الجيل الذي عايش فوازير "حميد" أو الفنّان هاني القاضي وقتها، والجرّاح المعروف حاليّاً وتنقّل مع كاميرته بين ملامح عمانية جميلة، وكان يهتم بحلّ الفوازير المتنوّعة التي كانت تقدم في الاذاعة والتلفزيون، وأسئلة المسابقات المطروحة في الصحف المحلّيّة والتي أضافت الكثير من المعلومات المتنوّعة، أملاً في ظفر جائزة كانت تعدّ ثمينة بمقاييس تلك الأيّام.

أنا من الجيل الذي أسعده القدر بأن يعايش رمضان في لحظاته الجميلة الأخيرة وأن يلحق على شيء من ذلك الجمال وتلك الرّوحانيّة والصدق التي حظي بها قبل أن تجتاحه حمّى التناقضات التي نراها حاليّاً والتي طغت على كثير من الممارسات والسّلوكيّات بحيث لم يعد من روحانيّات الشهر ونقاءه سوى القليل، فحلّت المقاهي والدّورات الكرويّة محلّ المساجد، واستبدلت البرامج والمسلسلات الهادفة بأخرى لا همّ لها سوى لهف الجيوب والتّسابق على الاعلانات، وكادت البساطة في الشراء وإعداد الوجبات أن تختفي أمام هوس الشراء العبثي الذي أصبح سمة تميّز الشهر، وأصبح (الآي باد) و(التاب) بديلاً للألعاب الشعبيّة التي كان الأطفال يمارسونها كلّ ليلة حتّى تدركهم إغفاءة النوم، وأصبح الكثير يتحرّج من ذهابه للإفطار في المسجد، وقس على ذلك تناقضات أخرى في الملبس والإعلام وغيرها، فهل ستعود لهذا الشهر شيئاً من جماليّته وروحانيّته ونقاءه يوماً ما؟!!

 

مشاهد وتساؤلات (23)

(1)

اعتدنا خلال الفترة الأخيرة على انقطاع المياه عن بعض الولايات والأحياء حاملة معها العديد من الإشكاليّات المتعلّقة بآليّة الحصول على الماء في ظل التصرّفات السلبيّة من قبل (بعض) مورّدي المياه من أصحاب الناقلات رغبة منهم في استغلال الأزمة، مع ما يصاحب هذه الأزمات من تساؤلات تتعلق بأسباب تكرار هذه الإنقطاعات، وبآليّة إدارة الأزمة من قبل الجهات المعنيّة، وببرامج التخطيط العمراني.

وتساؤلي هو: لماذا لا تقوم الجهة المعنيّة بتوزيع عدد من الكوبونات على أصحاب منازل المنطقة المتأثرة بالانقطاع بعدد الأيام المتوقّع فيها انقطاع الخدمة، بحيث يتم القضاء على العشوائيّة في التعامل مع أصحاب هذه الناقلات، وضمان الحصول على الماء، وعدم التلاعب في الأسعار، بحيث تكون المنفعة متبادلة بين الطّرفين، فيضمن المواطن حصوله على الماء بذات القيمة التي سيحصل عليها جاره، ودون القيام بالبحث عمّن سيجلب له الماء بأسعار قد لا تتناسب وظروفه الماليّة، وفي نفس الوقت لن يلجأ صاحب النّاقلة إلى محاولة رفع السعر لأن قيمة الكوبونات ستكون موحّدة ومناسبة كذلك للظرف الاستثنائي.

(2)

في عاصمة إحدى الدّول الخليجيّة لم تتجاوز فاتورة جلوسنا نحن الأربعة على أحد المقاهي الراقية العشرة ريالات، وفي فرانكفورت بألمانيا التي تصنّف ضمن إحدى أغلى الدول في العالم كانت قيمة الغرفة التي حجزها أحد الأصدقاء في الفندق ذو الأربع نجوم حوالي خمسة وأربعين ريالاً وهو قريب من القيمة التي دفعها صديق آخر في أحد فنادق نيودلهي الراقية، علماً بأنّ أصحاب تلك المنشآت السياحية في تلك الدول يدفعون ضرائب باهضة، ويحصلون على الطاقة بسعر يختلف عمّا يحصل عليه المواطن العادي، وعلماً بأن طاقم العمل في تلك المنشآت يمتاز بالحرفيّة العالية وبحصوله على شهادات ودورات متخصّصة.

وفي عمان تبلغ قيمة الجلوس على العديد من المطاعم التي يصنّفها أصحابها على أنّها من فئة الخمسة نجوم علماً بأنها غير ذلك وتنقصها العديد من الخدمات أضعاف قيمتها في الدول الأخرى، ويتجاوز سعر بعض الغرف الفندقيّة حاجز المائة ريال، بل انها تصل إلى حوالي ألف ريال في الليلة الواحدة قيمة اسئجار بعض الفلل التابعة لأحد الفنادق التي تملكها الدولة في ظل تساؤلات حول قيمة الإيجار السنوي لبعض الأراضي والمنشئات المملوكة أساساً للدولة، وقيمة الضرائب التي تدفعها هذه المنشآت، وقيمة الطّاقة التي يحصلون عليها، ومستوى تأهيل العاملين في كثير من تلك المنشآت!

(3)

إذا ما تحدّثنا عن كثير من الأغنياء والموسرين ورجال الأعمال الذين فتحت لهم الأبواب المشرعة نحو تكوين ثرواتهم، سواء بالجهد الشخصي لدى البعض، أو بممارسة الاحتكار لدى البعض الآخر، أو باستغلال الفرص الوظيفية أو المكانة الاجتماعية أو القرب من مراكز صنع القرار لدى فئة أخرى من هؤلاء، وإذا ما استثنينا البعض فأين البقيّة من المبادرات الإنسانية الخيرية، وما مدى مساهماتهم (الحقيقية) في هذا المجال، وهل هناك تحقيق فعلي لمبدأ الشراكة المجتمعية  الفعالة؟!

ولنطرح السؤال بشكل آخر: كم عدد الجمعيات الخيرية التي يتبناها الأغنياء لدينا، وكم مركز طبي متخصص تم التكفل بتجهيزه من قبلهم، وكم مركز أيتام تمت رعايته، وكم أسرة معوزة تمت كفالتها، وكم مقعد دراسي جامعي تم توفيره، وكم بعثة تعليمية تم إرسالها، وكم صاحب ابتكار أو موهبة تم تبنيه، وكم مكتبة عامة تم انشائها، وكم شارع تم سفلتته، وكم من هؤلاء من يفتح بابه للناس فيستقبلهم ويستمع إلى مطالبهم ويسعى إلى تذليل الصعاب التي يعانونها في سبيل توفير الحياة الكريمة لأسرهم، أو فك أزمة يعانون منها؟!

تخيلوا كيف سيصبح حال بلدنا لو تبرع أحدنا بكفالة يتيم، وقام الآخر ببناء مسكن لمعوز، وتكفل الثالث بمقعد دراسي لمعاق، وقام الرابع بشراء جهاز طبي يحتاجه مستشفى مدينته، وتبنى الخامس تنفيذ مشروع حيوي عجزت ميزانية البلدية عن تنفيذه، وغيرها من المشاريع المماثلة؟!!

 

 

(4)

عند اطّلاعي على المشاريع المدعومة من قبل بعض برامج الدّعم الحكومي للأنشطة التجاريّة الصغيرة والمتوسّطة لفت انتباهي سيطرة مشاريع بعينها على الدعم المقدّم كمشاريع تصفيف الشعر والتجميل، وتنظيم وتصوير حفلات الأعراس والمناسبات، وتغليف الهدايا، وتفصيل العباءات، وتنسيق الزّهور، وتحضير العطور!!

ومع تقديري لكل تلك المشاريع إلا أنّني أعتقد أن هناك مشاريع أخرى (حقيقيّة) بحاجة إلى جزء من هذا الدعم خاصّة وأنّ أصحاب المشاريع السّابقة قادرون على الترويج لمشاريعهم وضمان الحصول على العائد المناسب خاصّة في ظلّ التغيير الحاصل في أنماط الحياة المجتمعيّة، ورغبة البعض في مواكبة التحدّث والتمدّن.

ماذا لو ركزت مثل هذه البرامج على حقيقة هامة وهي أنه في كل قرية من قرى عمان توجد أسر منتجة، بحاجة إلى من يقف معها ويوجّهها، ويطوّر من قدرتها، ويسوق إنتاجها بشكل واقعي بحيث يجعل منهم مشاركين في عمليّة التنمية، ويضمن تمسّكهم بحرفهم، وعدم تحوّلهم إلى عالة على المجتمع، وكذلك الحفاظ على المجتمع الذي يعيشون فيه بكل ارثه الثقافيّ والحضاريّ والاجتماعيّ ؟

أقول ماذا لو؟!!

(5)

برأيي أن شهر رمضان هو بمثابة محطّة توقّف لمسافر في طريق طويل، يقف لكي يراجع خارطة طريقه، إن كان في الاتجاه الصحيح أم لا، بمعنى أنّنا في خضم أمواج حياتنا المتلاحقة نحتاج إلى فترة توقّف نراجع فيها كثيراّ من سلوكيّاتنا الدّينيّة والاجتماعية والاقتصادية والصحيّة وغيرها، ونحاول تعديل بعض هذه السلوكيّات بحيث تتعدّل بوصلة مسارنا، ونطمئن أننا في المسار الصحيح.

أليس كذلك، أم أنّ لسلوكيّات البعض في هذا الشّهر الفضيل رأي آخر؟!

الأربعاء، 17 يونيو 2015

مشاهد وتساؤلات (22)


(1)

وأنا أتصفّح كتاب "ذاكرة عمان" الصّادر عن مؤسّسة عمان للصحافة والنّشر، والذي يوثّق لتاريخ الصّحافة العمانيّة عبر الفترة من 1970-2001 من خلال أربع مراحل مهمّة، لفت انتباهي عدد من الأسماء الصحفيّة التي ساهمت في صنع هذه المسيرة خلال مراحل التأسيس المختلفة أمثال أمين أبو الشّعر، وسليمان القضاة، وأحمد بن سالم آل جمعة،  ومحمّد ناجي عمايره، وحمود بن سالم السيابي، وسعيد بن سالم النعماني، وسعود السالمي، ومسلّم الجعفري وأسماء أخرى عديدة لا يتّسع المقال لسردها بعضهم ما زال يعيش بيننا، وبعضهم انتقل إلى رحمة الله.

والسّؤال المهم : أين هذه الأسماء من عمليّات التوثيق والتكريم تجاه ما قدّموه لمسيرة الصحافة العمانيّة؟! وهل نالوا من التّكريم ما يستحقّون تجاه تلك الجهود؟! وهل يمكن أن نرى مسابقة أو ندوة أو قاعة صحفيّة تحمل اسم أحدهم؟

تساؤلي لا يحمل الاستنكار بقدر ما يحمل التّذكير بجهودهم مع ثقتي الكبيرة بحرص الجهات المعنيّة على أمر كهذا، كما أنّه لا يوجّه لمؤسّسة بعينها بل هو أمر يعني المؤسّسات الصحفيّة، وجمعيّة الصحفيّين، وكلّيّات الإعلام، والباحثين كذلك.

(2)

من بين الأسئلة التي لم أجد إجابة شافية أو مقنعة لها حتّى الآن رغم قيامي بطرحه على العديد من المختصّين ممّن يعنيهم الأمر هو نسبة 3% التي يدفعها المواطن كرسوم لبعض الخدمات الإسكانيّة كشراء أرض أو منزل خاصّة إذا كان الهدف من شراء هذه الأرض أو المنزل هو الاستقرار الأسري وليس لغرض الاستثمار!

لا مشكلة لديّ في دفع رسوم إداريّة معقولة مقابل بعض الخدمات التي تقدّمها الجهة المعنيّة بمجال الإسكان والتي لا تشكّل عبئاً كبيراً على كاهل المواطن، ولكن المشكلة تكمن في قيمة الرّسوم العالية التي ترتبط بالحصول على عقار ما مقابل مبلغ كبير، وبالتالي ترتفع قيمة النسبة المقررة عليه، فلنتخيّل أنّ مواطناً ما أراد أن يشتري أرضاً أو منزلاً جاهزاً يأويه وأسرته في مسقط أو إحدى المدن الكبرى في ظلّ ارتفاع مبالغ الإيجارات للشقق والمنازل، ولنفترض أنّ هذا المواطن قام بأخذ قرض بنكيّ لا تقلّ قيمته عن سبعين أو ثمانين أو مائة ألف ريال مقابل الحصول على الأرض أو المنزل الجاهز في ظلّ غلاء المعروض واضطراره للسكن في تلك المدن لظروف مختلفة، فمن أين سيأتي بمبلغ الرّسوم التي سيدفعها للوزارة المعنيّة للحصول على تلك الأرض أو المنزل خاصّة وأنّ القرض الذي سيحصل عليه سيذهب مقابل قيمة الحصول على العقار فقط وليس لأغراض أخرى، فهل سيتحمّل ارهاقاً مادّيّاً آخر لا يقل عن ألفين أو ثلاثة آلاف ريال كي يدفعها مقابل تلك الرسوم؟! ناهيك عن المبالغ الأخرى التي سيدفعها مقابل رسوم الوساطة العقاريّة للمكتب الوسيط، أو لتأثيث المنزل الجديد!!

أوليست الجهة المعنيّة بالاسكان هي جهة حكوميّة ينبغي أن تقدّم التسهيلات التي تجعل المواطن يحصل على منزله بطرق أكثر سهولة ويسراً من خلال برامج كثيرة سبق لنا طرحها عشرات المرات؟ وهل تقدّم هذه الجهة للمواطن خيارات أخرى تجعله يبتعد قدر الإمكان عن اقتراض المبالغ الكبيرة من أجل الحصول على منزل أو قطعة أرض خاصّة عند انتقاله للسكنى في مدينة أخرى لظروف العمل مثلاً؟ بل أوليس بطء بعض الخدمات مثل القروض الميسّرة، أو عدم وجود برامج اسكان مرنة ومحافظ اسكانيّة وطرح وحدات سكنيّة للتملّك من ضمن الأسباب التي تؤدّي إلى ارتفاع أسعار العقارات لدينا؟! ثم ألا يمكن أن نفترض أن تلك الأرض أو ذلك المنزل الذي يرغب المواطن في شرائه قد تم دفع الرسوم الإسكانيّة المقرّرة عليه مسبقاً إذا ما علمنا أن بعض الأراضي والمنازل قد تنتقل ملكيّتها بين أكثر من مشتري وفي كل مرة يتم دفع الرسوم المتعلّقة بها!! أوليست بعض الأراضي والبيوت تقع ضمن مخططّات لا تتوافر بها بعض الخدمات المهمّة التي من أجلها ندفع الرّسوم كخدمات المياه والصّرف الصّحّي وغيرها؟!

هل الأمر يتعلّق بتشريعات قديمة آن الأوان لإعادة النظر فيها، أم أننا بحاجة لإعادة النظر في قطاع الإسكان الحكومي بشكل عام بحيث يتحاوز أدواره الحاليّة إلى أدوار أكثر واقعيّة وملائمة لحياة الناس، وبحيث لا ينحصر في تخطيط وتوزيع الأراضي السكنيّة وهي المهمّة التي ينبغي أن تقوم بها المجالس البلديّة في المحافظات!!

(3)

وسط الجدل الدائر حول مجلس الشّورى ووضعه وأدواره المجتمعيّة وخلال محاولتي استقراء بعض الأمور المتعلّقة به، ونظرة المجتمع إليه فإنّ من بين النّقاط التي تلفت انتباهي الخلط الدائم لدى شريحة مجتمعيّة كبيرة بين أدوار مجلس الشّورى وأدوار المجالس البلديّة، وهو خلط يقع فيه كذلك كثير من المترشّحين أنفسهم لهذا المجلس، بحيث تحمل برامجهم الانتخابيّة أعمالاً ومشروعات هي من صميم أعمال المجالس البلديّة.

ما زلت أحلم بمترشّحين ينادون ببرامج انتخابيّة واضحة ومحدّدة يمكن تنفيذها وقياسها بدلاً من البرامج الوهميّة الفضفاضة التي يتم وضعها إما بسبب جهل لأدوار المجلس الحقيقيّة، أو لدغدغة مشاعر الكتل الانتخابيّة للحصول على أصواتهم.

ماذا لو تبنّى أحدهم قضيّة التراث المادّي بالسلطنة من حيث المحافظة عليه والاستفادة منه من خلال مراجعة التشريعات الحاليّة، واقتراح تشريعات جديدة تهدف إلى الحفاظ عليه واستغلاله الاستغلال الأمثل، وماذا لو تبنّى آخر قضيّة التعليم، وركّز برنامج ثالث على الاسكان، ورابع لقضايا الشباب، وخامس للسياحة، وسادس، وهكذا بحيث تكون القضية المتبنّاة من قبلهم هي شغلهم الشاغل طوال مدة الدورة البرلمانيّة!!

للمجلس دورين مهمّين هما التشريع والرّقابة، وبدون مراجعة التشريعات الحاليّة المتعلّقة بالخدمات المقدّمة للمجتمع ومحاولة اقتراح تشريعات أكثر حداثة وملائمة وبالتالي أكثر تسهيلاً لحياة الناس، وبدون القيام بأعمال الرقابة المطلوبة على أداء الحكومة في ظل الصلاحيّات المعطاة لهؤلاء الأعضاء والتي من بينها الحصول على نسخ من التقرير السنوي لجهاز الرقابة، ونسخ من مشاريع الوزارات الخدميّة، فلن يحقق المجلس اهدافه المرجوّة، ولن يشعر النّاس بأهميّة المجلس بالنّسبة لهم.

ولمن يخلط بين مفهومي الدولة والحكومة وبالتالي يعترض على (صراخ) بعض الأعضاء، أو (تجرأهم) على مناقشة بعض الوزراء، وهو طرح بدأ يكثر خلال هذه الأيام أقول له إن مصطلح الدولة أوسع من مصطلح الحكومة، فما الحكومة إلا سلطة ضمن ثلاث سلطات مستقلّة لا (تغوّل) لأحدها على الأخرى: تشريعيّة، وتنفيذيّة، وقضائيّة، فعضو الشورى، والوزير، والقاضي كل منهم يمثّل سلطة مستقلة، وتكامل أدوار هذه السلطات هو من يضمن انسيابيّة الأداء، وإذا كانت هناك من معايير خاطئة يراها البعض عند القيام بانتخاب أعضاء مجلس الشورى المناسبين فالأمر يتم علاجه بمزيد من التوعية والتّثقيف بأهمّيّة الاختيار المجتمعي المناسب لهؤلاء كي يقوموا بالأدوار المأمولة منهم مستقبلاً بعيداً عن متلازمتي المال والقبيلة.

سيأتي اليوم الذي نختار فيه البرنامج الانتخابي لا النّاخب، ولكنّ أمنية كذلك لن تتحقّق في غضون سنوات بسيطة بل ستكون محصّلة لسنوات كثيرة من الحوار والنقاش والجدل والتّجارب والممارسات والتثقيف والتوعية.     

الأحد، 14 يونيو 2015

(مركز ثقافي!!)

"أكد الدكتور عبد الواحد النبوي وزير الثقافة المصري أن الوزارة وضعت خطّة فعّالة لإنشاء بيوت ثقافة بالقرى المحرومة على مستوى الجمهورية باستثمارات تبلغ 100 مليون جنيه, وذلك للمساهمة في تنمية المواهب الثقافية"

خبر قرأته صبيحة هذا اليوم بأحد المواقع الإخباريّة يتناول توسعة خريطة النّشاط الثّقافي بمصر والتي تجاوزت أكثر من (550) موقعاً ثقافيّاً متنوعاً ما بين قصر وبيت وقصر طفل ومكتبة تغطّى جميع أنحاء الجمهورية، تهدف إلى المشاركة في رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي للجماهير في مجالات السينما والمسرح والموسيقى والفنون الشعبية والتشكيلية ونشاط الطفل وخدمات المكتبات في المحافظات وتشكل ملتقى للإبداع الأدبي والفنّي والنشاط الثقافي.

وأنا أقرأ الخبر السّابق جال بخاطري (استجداء) ابني وهو يخاطبني قائلاً: أبوي اشتري لي (آي باد) أو شلنا دبي، الإجازة طويلة وكلها ملل!! تذكّرت كذلك طفولتي التي كان أقصى نشاط هادف يمكن أن نمارسه هو مباريات كرة القدم الصّباحيّة والمسائيّة، أو شراء كتيّب يحتوي على بعض المسابقات الثّقافيّة، وباستثناء بعض الأعمال التي كنّا نقوم بها كمساعدة العائلة في أعمال الحصاد وقت القيض مثلاً، فإنّ بقيّة الأوقات كانت تذهب سدى في تجمّعات فارغة من المحتوى الفكريّ والثّقافيّ.

وللأسف، فبعد مرور سنوات عديدة على تلك الذّكريات إلا أنّ الواقع يكاد يكون هو ذاته        - أعني البنية التّحتيّة الثّقافيّة - إن لم يكن أسوأ، ففي ذلك الوقت كانت الأندية ( التي يقتصر وجودها على مراكز بعض الولايات) تقيم بعض الفعاليّات الثّقافيّة من معسكرات ومسابقات ثقافيّة وحفلات وطنيّة وغيرها، وكان الإقبال عليها كبيراً، إذ لم تكن توجد أنشطة سواها تستفرغ طاقات الفتية والشّباب تجاه ذواتهم ومجتمعهم. ورغم قلّة تلك الأنشطة إلا أنّه كان لها من الأثر الإيجابي ما لا يمكن نكرانه.

أمّا الآن فبالرّغم ممّا قد نقوله عن هذا النّوع من النّشاطات وكثرة الجهات المنظّمة حكوميّة أو مجتمعيّة إلا أنّ نطاق أثرها في تنمية الحياة الثقافيّة لدى الفرد والمجتمع لا يزال ضيّقاً، ولا شكّ أنّ هناك من الأسباب وراء ذلك ما هو معلوم لدى المعنيّين والمتابعين والمهتمّين.

ولعلّ أبرز تلك الأسباب يتمثّل في عدم صفاء الأجواء بين المنشغلين على النّشاطات الثقافيّة، وضعف الوفاء كذلك للرسالة الثقافيّة وفاءً مجرّداً لقيمة الثّقافة ومضمونها العام دونما تحزّب لتيّار وإقصاء لآخر، بما يشير إلى غياب الرّؤية الاستراتيجيّة لغايات الثقافة البانية للفرد والمجتمع.

وفي هذا السّياق لا زلت أسأل نفسي (والآخرين أحياناً) بعض الأسئلة التي لا أجد لها إجابة شافية أو وافية، والتي من بينها: لماذا لا تهتم الجهات المسئولة عن الثّقافة بتنمية المجتمع ثقافيّاً من خلال إنشاء مراكز وبيوت ثقافيّة يستطيع الشّباب من خلالها ممارسة أنشطتهم المختلفة، وصقل مواهبهم ومهاراتهم المتنوّعة؟! وأين هي المسارح، والمراسم، والأندية العلميّة، وقاعات المطالعة، والمكتبات عن قرانا وولاياتنا؟! وهل يعقل أن أزور قرية نائيّة في أقصى صعيد مصر لأجد بها مؤسّسة ثقافيّة متكاملة تدعى "قصر الثّقافة" ولا أجد مكتبة عامّة في أيّة ولاية من ولايات السّلطنة( عدا بضعة مكتبات تكفّل المجتمع بإنشائها)؟! وأين تكمن المشكلة بالضّبط: هل في الإمكانات، أم في اللامبالاة وعدم الإحساس بوجود ما يستدعي الاهتمام بهذا الجانب؟!  أولا ينصّ النّظام الأساسي للدولة في المادّة (13) على أن "ترعى الدولة التراث الوطني وتحافظ عليه، وتشجع العلوم والفنون والآداب والبحوث العلمية وتساعد على نشرها"!!

بل وكيف لنا أن نعالج بعض الإشكالات المتعلّقة بقضايا المواطنة والهويّة والعولمة، والتنشئة السياسية، وثقافة العمل والإنتاج، وثقافة العمل التطوعي، أو ثقافة الحقوق والواجبات، وغيرها من الثقافات في ظلّ عدم وجود حاضنات ثقافيّة وفكريّة توجّه هؤلاء الشّباب وتوفّر لهم فرص الاندماج والانخراط في قضايا المجتمع المختلفة؟!

وليتخيّل أحدكم معي وضع الأطفال أو الفتية أو الشّباب في قرية ما مع ابتداء الإجازة الصيفيّة  ( أو حتّى في بقيّة أيام السّنة): كيف سيقضي هؤلاء أوقاتهم الطّويلة في ظلّ عدم وجود حتّى (كشك) صغير لبيع الصّحف؟! وما الذي تتوقّعونه منهم أن يفعلوه طوال أيّام الإجازة؟! وما البدائل التي سيقبلون عليها لشغل أوقات فراغهم؟! ولماذا لا يكون من حقّ هؤلاء ارتياد مكتبة، أو المشاركة في معسكر عمل، أو حضور بعض ورش العمل التي تناسب ميولهم واهتماماتهم، أو تنظيم رحلات داخليّة أو خارجيّة يتعرّفون من خلالها على ما يحيط بهم من مجتمعات؟! بل وماذا لو أتى من يحاول القيام بالدور البديل للحكومة في هذا الجانب!! أولا يمكن أن نتوقّع انجذاب شريحة من هؤلاء للأفكار البديلة التي ستقدّم في ظلّ تعطّشهم لأيّ برنامج فكري يمكن أن يملأ عليهم أوقات فراغهم!!

وقد يقول قائل: ولكن هناك بالفعل أنشطة متنوّعة تقيمها الجهات المسئولة عن الشّباب كبرامج "صيف الرياضة"، وتنظيم عدد من الملتقيات، ومعسكرات شباب الأندية، والرّحلات الشّبابيّة، عدا الفعاليّات التي تقيمها بعض المؤسّسات الحكوميّة والخاصة، وكلّها تخاطب الصّغار والشباب وتوفّر لهم مناخاً مناسباً يتمكّنون من خلاله من ممارسة أنشطتهم المتنوّعة، وقضاء وقت فراغهم!!

مع تقديري لكل هذه الأنشطة إلا أنّها تبقى أنشطة فصليّة أو موسميّة، كما أنّه وبحسب خبرتي المتواضعة في المشاركات السّابقة بها، فإن كثير من الأسماء المشاركة هي ذاتها، عدا أنّ معظم هذه الأنشطة تنفّذ في العاصمة ومراكز المحافظات وبالتّالي فإنّ الاستفادة منها لا تكون بالشّكل المطلوب، ولا تخاطب شباب القرى والولايات البعيدة إلا فيما ندر.

إنّ وجود مراكز ثقافيّة دائمة جنباً إلى جنب مع المدرسة والمسجد والمركز الصّحّي وغيرها من المؤسّسات الأخرى من شأنه أن يحقّق كثيراً من الأمور الإيجابيّة التي ستعود بالنّفع على الفرد والمجتمع لعلّ من بينها على سبيل المثال لا الحصر: توفير مناخ فكري واجتماعي مناسب لشرائح مجتمعيّة مهمّة لقضاء أوقات فراغهم واستغلال طاقاتهم، وتنشيط الحركة الثّقافيّة، وإذكاء روح البحث والابتكار، وبروز أدوار ثقافيّة مهمّة لبعض الفنون كالمسرح، والفنون التشكيليّة، والتّصوير بأنواعه، والمساهمة في تنمية القرى من خلال الدّراسات الميدانيّة، والبحوث التي تناقش قضايا تهم المجتمع المحلّي كقضايا المرأة والطّفل والتّنمية والانتاج وغيرها، وأنشطة العمل التّطوّعي، والمحافظة على كثير من مفردات الثقافة العمانية المحلية التي تعاني صراعاً محموماً مع محاولات التغريب أو الإزالة، بالرغم من أن هذه المفردات تعد جزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع كأغاني الطفولة الجميلة، وحكايات الجدات والأمهات، والألعاب الشعبية، والفنون العمانيّة المغنّاة، وغيرها وذلك من خلال الأنشطة التي ستقوم بها هذه المراكز للحفاظ على هذا الموروث.

لا يهم من سيحمل على عاتقه عبء انشاء هذه المراكز والمؤسّسات: هل هي الحكومة من خلال خططها السّنويّة أو الخمسيّة الخاصّة بمجال الثقافة، أم هي المجالس البلديّة التي ينبغي أن يقع على عاتقها تطوير مجتمعاتها المحلّيّة كونها الأقرب والأدرى باحتياجاتها، أم المجتمع من خلال فرقه الخيريّة وتبرّعات بعض المحسنين التي ينبغي أن تصب في أعمال أكثر أهمّيّة وجدوى، أم القطاع الخاص من خلال صناديقه الموجّهة لتنمية المجتمع، أم المؤسّسات الثقافيّة الإقليميّة والدوليّة التي نحرص على أن نكون من أوائل الدّول الملتزمة بتسديد اشتراكها بينما تذهب المشاريع المنفّذة لدول أخرى!!المهم أن نشعر بالفعل بأهمّيّة وجود مثل هذه المراكز كونها حق مكتسب لهذه الفئة العمريّة، وكونها كذلك قد تكون أحد مصادر الأمان للمجتمع كذلك.

إنّ الاهتمام بالثقافة ينبغي ألا يقل عن اهتمامنا بقطاعات أخرى نوليها كثيراً من الرعاية والاهتمام، ذلك أنّ بناء الأوطان لا يأت فقط بحجم منشآتها، أو بمقدار دخلها، بل يأت كذلك بمدى قدرة الدولة على بناء عقول أفرادها، في ظل تحدّيات ثقافية هائلة تتعرض لها المجتمعات حالياً، مستهدفة تغيير واقعها وهويّتها الثقافية، ومحاولةً جرّها نحو العولمة والتغريب الفكري.

الأربعاء، 3 يونيو 2015

(وما أدراك ما العقبة)


ليعذرني القارئ الكريم إذا ما وجد في مقالي هذا شيئاً من الرّكاكة، أو اكتشف خطأً إملائيّاً هنا أو هناك، ذلك أنّني أكتبه تحت وطأة قهر وإرهاق شديد بعد أن قضيت أكثر من ساعة ونصف لقطع المسافة بين منزلي في العامرات ومقرّ عملي بالغبرة، وهي المسافة التي أقضيها في الأوقات العاديّة(التي أصبحت نادرة هذه الأيّام) في حواليّ عشرين دقيقة لا غير!!

الحكاية وما فيها أنّ أهالي العامرات صحوا ذات يوم ليجدوا أنّ طريق العامرات- بوشر مغلق جزئيّاً، الأمر الذي ساهم في إحداث نوع من الزّحمة غير الطّبيعيّة خاصّة عند توجّههم إلى أعمالهم في الصّباح الباكر، فاعتقدوا أنّ الأمر يتعلّق ببعض الإصلاحات الطّارئة البسيطة التي سيتم الانتهاء منها خلال يوم أو اثنين على الأكثر، ليكتشفوا بعد ذلك أنّ الأمر ليس كما كانوا يعتقدون أو يأملون، وأنّ الأمر قد يطول، مترقّبين بياناً أو اخطاراً، أو حتّى خبراً صحفيّاً يتضمّن معلومات تتعلّق بالمشروع، ومدّته، ومراحل العمل به قد تخرجهم من حالة (الحيص بيص) التي وقعوا فيها، ولكن دون أيّة جدوى، برغم عشرات الاتّصالات والاستفسارات والتّغريدات التي اتّسم بعضها بالحنق والغضب، وبعضها الآخر بالسّخريّة المفرطة، وأصبح ساكن العامرات يضبط مؤشّر الإذاعة في تمام السّاعة السابعة من صباح كلّ يوم على إذاعة الشّباب علّه يجد معلومة تفيده بخصوص ما يحدث، فيفاجأ بأنّ معظم الرّدود من نوعيّة: سينتهي المشروع بانتهاء الشّركة المنفّذة من أعمالها!! كلام جميل وفي قمّة الشفافيّة والوضوح، ولكن متى ستنتهي الشّركة من أعمالها؟! لا أحد يعلم.

المهم وبعد مرور اثني عشر يوماً على بدء العمل بالمشروع تكرّمت الجهة المشرفة فأصدرت بياناً على صفحتها بالتويتر تعلن فيه أنّه " وبالإشارة إلى ما يتم تناوله عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المختلفة حول التّحويلة المروريّة على طريق بوشر- العامرات......"، أي أنّ هذه الجهة لم تكن لتتكرّم بإصدار هذا البيان لولا ما لاحظوه من مطالبات وشكاوى وتغريدات وتساؤلات حول ما يحدث! وكأنّ عمل مؤتمر صحفي، أو تصريح إعلامي، أو إصدار بيان سابق لفترة التنفيذ لوضع سكّان الولاية في الصّورة على الأقل هو من قبيل الأمور المحرّمة شرعاً أو المستحيلة!!

يمضي البيان بعد ذلك ليؤكّد أن أعمال المشروع ستستمر على طول مسار الطريق للاتجاهين، وستصاحبه العديد من التحويلات المروريّة بإغلاق مسار أو مسارين أو إغلاق كامل للطريق وفق البرنامج الإنشائي للمشروع إلى النصف الثاني من 2016، مع  دعوة مستخدمي الطّريق إلى التعاون لما فيه المصلحة العامّة!!

يعني بالعربي أنّ المشروع أمامه أكثر من سنة كاملة، وأنّه سيستمر على نفس الوضع بل قد يغلق كاملاً في بعض الأحيان! كلام جميل ولكن: ما الحلول البديلة التي فكّرت فيها الجهة المشرفة على تنفيذ المشروع لتخفيف الاحتقان والازدحام الذي سيترتّب على استمرار العمل به خلال الفترة القادمة، وما نوع التّعاون المطلوب من المواطن القيام به؟!

وقد يقول قائل: ولكن المشروع مهم وضروري، وعلى المواطن أن يستحمل ويقدّر أهمّيّة مثل هذه المشروعات لأنّها توجّه لصالحه ومن أجله! كلام رائع ومنطقي ومقبول ولكن تعالوا نتخيّل الواقع الحقيقي للمكان فالعامرات هي بمثابة عنق الزّجاجة للعاصمة، أي أنّها المعبر الذي يربط ولايات محافظة جنوب الشرقيّة، وعدد من ولايات محافظة شمال الشرقيّة ومسقط، وكذلك القرى المجاورة لها بالعاصمة، واستخدام الطرق التي تمرّ بها لا يقتصر على سكّانها فقط، كما أنّ هناك منفذين يربطها ببقيّة ولايات محافظة مسقط: الأول طريق العامرات- وادي عديّ، والآخر العامرات- بوشر، وحيث أنّ الأوّل يمرّ بمرحلة تأهيل من خلال مشاريع الجسور والإنشاءات المرتبطة به، الأمر الذي يجعل حركة السّير به بطيئة، فبالتالي يتبقّى المنفذ الآخر الذي يستخدمه قطاع كبير من سكّان الولاية خاصّة للذاهبين إلى ولايات بوشر، والسّيب، وما حولهما، لذا فإنّ أيّ تعطّل في مسار هذا المنفذ قد يؤدّي إلى تكدّس واختناق مروري رهيب، وضغط على المنفذ الآخر، إذاً فمن الخطأ القيام بأية إصلاحات أو إنشاءات فيه قبل الانتهاء من مشروع تقاطع جسور المحجّ، والذي كانت الجهة المشرفة عليه قد وعدت بالانتهاء منه في منتصف هذا العام، ويبدو أن أمامنا فترة طويلة قادمة قبل جاهزيته الكاملة!

وقد يسألني آخر: ماذا ستفعل لو كنت مكان الجهة المشرفة على المشروع؟ الأمر أبسط من ذلك بكثير، فما سأفعله هو الآتي: سأجتمع مع كلّ من خبراء الطّرق والانشاءات سواء الموجودين بالوزارة أو في كلّيات الهندسة المختلفة بالسّلطنة، وكذلك مع المسئولين عن العمل البلدي والتنفيذي بالولاية سواء كانوا ممثّلين لمكتب سعادة الوالي، أو أعضاء المجلس البلدي، أو مسئولي فرع البلديّة فأهل مكّة أدرى بشعابها، وسأناقش معهم كافّة الجوانب السلبيّة والايجابيّة المتعلّقة بالمشروع، وسأطلب منهم إبداء حلول ومقترحات بديلة للحدّ من التأثيرات السلبيّة التي يمكن أن تترتّب على تنفيذه، وسأحرص قدر الإمكان على الأخذ بالمقترحات التي تقلّل من تلك التأثيرات حتّى لو تطلّب الأمر زيادة مدّة تنفيذ المشروع، أو تأجيله لبعض الوقت، أو القيام به في غير أوقات الذروة، بعدها سأقوم بإصدار بيان صحفي مرئي ومسموع ومقروء يتناول التعريف بالمشروع، ومبرّراته، ومراحل إنجازه، والمسارات البديلة المقترحة كي يقف النّاس على طبيعة الوضع، وكي يتأقلموا مع الحلول البديلة. أمّا أن يتمّ البدء في تنفيذ المشروع هكذا فجأة دون (إحم ولا دستور)، ودون أن يعرف أحداً ما الذي يحدث، ومتى سينتهي كلّ هذا، فهو أمر أراه يحمل في طيّاته شيئاً من اللامبالاة بقاطني هذه الولاية، وتهميشاً لأدوار بعض الجهات التي يعنيها الأمر.

ليتخيّل أحدكم أن يخرج من بيته صباحاً فيتفاجأ بأنّ كل المسارات مغلقة أثر الاكتظاظ الشّديد للمركبات في الشّوارع الرئيسيّة والفرعيّة، وبدلاً من أن يصل إلى عمله في موعده المعتاد فإنّه يتأخّر كلّ يوم لمدّة قد تزيد أو تقصر عن ساعة كاملة، فأيّ طاقة بقيت لهذا الموظّف كي يبذلها في عمله، وبأي نفسيّة سيقابل زملائه ومراجعيه! وليتخيّل أحدكم أنّه ثمّة من يعاني من مرض مزمن، أو آلام في الرّجل أو الظّهر وهو يقضي كلّ صباح مدّة طويلة على مقعد القيادة! وليتخيل كذلك حجم التأثيرات المحتملة على المركبات من ارتفاع في درجات الحرارة، ومن تأثّر للفرامل، وغيرها، أي أنّ هناك تأثيرات اقتصاديّة واجتماعيّة قد يقع عبئها على عاتق الحكومة والمواطن متمثّلة في فاتورة الأدوية المختلفة، وفاتورة شراء قطع الغيار وإصلاح المركبات، فضلاً عن انخفاض انتاجيّة الموظّف نتيجة تأخره عن عمله، وحالة التجهّم والكآبة التي قد تصاحب البعض، مع ارتفاع في معدّلات الاصابة ببعض الأمراض كالضغط والسّكري وتصلّب الشّرايين وغيرها!!  

إنّ الأمر أصبح بمثابة الكابوس الجاثم على أنفاسك، فبدلاً من أن تفكّر في ماذا ستفعل غداً، وما الجديد الذي ستنجزه، أصبح كلّ همّك هو ستتمكّن من القيام مبكّراً (جدّاً) لترشّ وجهك ببعض الماء، وتلبس ملابسك على عجل كي تلحق بعملك، تاركاً إفطارك المنزلي ورؤية أولادك على المائدة! بل لن تستغربوا إن حكيت لكم عمّا حدث لي ذات ليلة عندما صحوت مفزوعاً في حوالي السّاعة الواحدة ليلاً لألبس ملابسي الرّسميّة اعتقاداً منّي بأنّ الفجر قد حان!! ولن أحدّثكم عن وصولي المبكّر جدّاً لمؤسّستي في بعض الأيّام حتّى قبل أن يصل عمّال النّظافة، وكلّ ذلك خوفاً ممّا سيحدث لي لو تأخرت  بضع دقائق عن السّادسة صباحاً!

برأيي أنّ القضيّة ليست قضيّة زحمة بقدر ماهي سوء تخطيط وضعف الاستشراف المستقبلي، فعندما تتحوّل العامرات في غمضة عين من ولاية صغيرة لا يتجاوز عدد سكّانها بضع آلاف إلى واحدة من أكثر الولايات اكتظاظاً بالسّكان دون حساب أو توقّع لهذه الزّيادة، وبالتالي الضغط الرّهيب على خدمات وجدت في الأساس لعدد محدود من السّكّان، وعندما يصرّ البعض على أن يتركّز كلّ شيء في مسقط دوناً عن بقيّة المحافظات، وبالتالي التحوّل التدريجي إلى (قاهرة) جديدة بازدحامها، وكثافة سكّانها، ومشاكلها الاجتماعيّة، مع وجود هجرة داخليّة وخارجيّة متزايدة عليها نتيجة بحث الكثيرين عن فرص عمل مناسبة، أو تحسين وضع اجتماعي واقتصادي، أو القرب من الخدمات الصّحّيّة والتعليميّة والترفيهيّة فتوقّع أن تظلّ المشاكل كما هي مهما توسّعت في خدمات البنية التحتيّة، ومهما حاولت (الترقيع) هنا وهناك.

غيض من ..إزكي (2)


وكأن إزكي تأبى إلا أن تدهشني وتذهلني، بل وتراكم حسرتي في الوقت ذاته!! وكأنّها لسان حالها يقول: ما الذي أخرجك من منزلك لتأتي إلى هنا، وإلى أماكن لن يخلّف رؤيتك لما تبقّى من ملامحها سوى الحسرة والألم! لماذا لا تكتفي كالآخرين باحتساء فنجان قهوة غريبة في مقهى غربيّ شكلاً ومضموناً بأحد المجمّعات التجاريّة الحديثة بدلاً من تألّمك الدّائم على ضياع ما خلّفه أبناء بلدك من تراث عريق هنا وهناك! فبعد كلّ ما رأيته في حارة (اليمن) من عمارة فريدة، ودقّة تخطيط معماريّ، وبعد أن اعتقدت أنّني لن أرى أروع ممّا رأيت ها هي (النّزار) تشارك أختها اليمانيّة في رسم مساحات واسعة من الانبهار على محيّاي، ولأكتشف أنّها لا تقلّ إعجاباً ودهشة عن جارتها السّابقة.

ندخل الحارة من أحد أبوابها لنتجوّل في حاراتها الصّغيرة كالشّعبانيّة، والجنور، وبني حسين، والشّميسي حارة آل الرّقيشي الذين ظهر منهم سلسلة من العلماء لا يسع المقام لذكرهم، فيتضاعف إعجابي لرؤية بيوتها الضخمة بطوابقها العالية التي تدلّ على أصالة ضاربة في عمق التّاريخ، وكعادة كلّ الحارات العمانيّة لا تخلو (النّزار) من المجالس العامّة التي ارتبطت بعدد من أرباب الفكر والأدب والسّياسة، ولا من المساجد التي يعود بعضها إلى تواريخ هجريّة متقدّمة، ولا من أماكن الانشطة الاقتصاديّة المتنوّعة من مزارع وحقول، وتراكيب حلوى، ومعامل نسج وصبغ وغيرها من الأنشطة بحيث تبدو وكأنّها مدينة متكاملة.

المُوَسْوِس الذي بداخلي يعاود الصّراخ: إذا كان لدينا كل هذا التخطيط المعماريّ المحكم، وكلّ هذه الأنماط من العمارة الجميلة فلماذا نستعين بالآخر في تصميم بيوتنا؟! ولماذا لا تدرّس أقسام الهندسة المدنيّة والمعماريّة لدينا نماذج من هذه الأعمال، ولماذا لا يستعان بمن تبقّى من أولئك البنّائين ليقدّموا خلاصة تجربة العماني مع فنّ العمارة؟! ألا تكفي كلّ تلك البيوت والقلاع والحصون التي بقيت لقرون عديدة شاهدة عن دقّة البنّاء العماني، وجودة صنعه!!

ولأنّها شاهدة على أحداث كثيرة في التاريخ العمانيّ، ولأنّها صاحبة فضل على حركة العلم والدّعوة والتدوين في السّلطنة، كان لابدّ لحارات إزكي أن تنجب أسماء عديدة نبغت في مجال الفكر بأنواعه، لذا فقد أسهمت (النّزار) في هذه المسيرة من خلال سلسلة من العلماء من أمثال موسى بن أبي جابر، وموسى بن علي، والفضل بن علي موسى بن موسى، والمنير بن النيّر وأولاد الحواري محمد وفضل والازهر، وعمر بن محمد، وسرحان الازكوي، وعامر بن بشير المحروقي، وعامر بن سليمان، وأبو زيد الرّيامي، وعامر بن محمد البرومي، وسلسلة ستطول حتماً لو شرعت في سرد حلقاتها. يا لعلمائك يا إزكي! يا لتاريخك يا إزكي!

خلال جولتي تلك أقف على باب ذهبيّ ضخم وضع في مدخل إحدى البوّابات، حقّاً أذهلتني ضخامة حجمه، وبراعة نقشه. يقال إنّ من شيّده نجار يدعى الصّحيلي عام (1120)هجري في زمن الإمام قيد الأرض سيف بن سلطان اليعربي، وقد نقشت على فردتيه أبيات شعريّة وددت لو كتبتها لولا ضيق المساحة. يذهلني العمانيّ القديم أينما ارتحلت في أرجاء هذا الوطن، وفي كلّ ولاية أزورها أقف مندهشاً أمام أعماله المختلفة التي قد يعجز جيل اليوم عن الإتيان بها. نظرة متأمّلة لطريقة شقّ أحد الأفلاج، أو تصميم أحد المحاريب، أو كتابة أحد المؤلّفات كافية لتملأ روحك بالدّهشة الممتزجة بالإعجاب والتقدير والترحّم على روح أولئك الرّجال.

أغادر الحارة هابطاً درجات حجريّة تؤدّي بنا إلى مجرى وادي حلفين الذي بنيت الحارة على ضفافه، والذي قد يعدّ الأطول بين أودية عمان قاطبة بمجراه الذي يبدأ من سفوح الجبل الأخضر إلى مياه بحر العرب حيث يصبّ، من هنا يمكن أن ترى الحارة شامخة ببيوتها العالية، وعمارتها المميّزة، نمشي خطوات قليلة وسط الوادي لنتوقّف عند لوحة إرشاديّة سوداء اللون ليشير ناصر إلى فتحة قريبة بها قائلاً: هذا هو كهف (جرنان) الذي كنت تسأل عنه طوال جولتك! إذاً هذا هو الكهف الذي لطالما سمعت عنه وودت دخوله وسبر أغواره وأسراره!  كنت أعتقد أنّه في أعماق الجبال البعيدة لا أسفل حارة النّزار!

كثيرة هي الأساطير المتداولة حول هذا الكهف، لعلّ من أشهرها أنّ أهل المنطقة كانوا يعبدون صنماً على هيئة عجل ذهبيّ يدعى "جرنان" ثم تمّ إخفاؤه داخل الكهف بعد دخول أهل المنطقة الإسلام، ويقال كذلك إن الولاية كانت تسمّى بجرنان في تلك الفترة قبل أن يزكّوا بأنفسهم بدخولهم الإسلام، وتأخذ الولاية اسمها الحالي "إزكي"!

أقف قريباً من مدخل الكهف حيث أحيط بسياج معدنيّ منعاً لدخوله مستذكراً بعض ما قرأته حوله، يقال إنّه يصعب الدخول اليه إلا بشقّ الأنفس بحيث لا يستطيع الإنسان دخوله إلا زاحفاً على بطنه، ويقال كذلك إنّ به عدّة طرق متشعّبة يؤدّي أحدها إلى مكان العجل، وقرأت أيضاً قصصاً عديدة عن أناس حاولوا الدّخول وكشف أسراره ولكنّهم لم يفلحوا في محاولاتهم. تذكّرني كلّ تلك القصص والأقاويل (باللابيرنث) أو المتاهة التي وردت في أساطير الإغريق، وكيف أنّهم حبسوا بها وحشاً يدعى (المينوتور) وهو مزيج من انسان ووحش، وكانوا يقدّمون له في كلّ عام سبعة فتيان أقوياء وسبع فتيات عذارى إلى أن قضى عليه البطل الإغريقيّ (ثيديوس) وخلّص أهل كريت من هذا الكابوس.

ولأنّنا في إزكي فلا يمكن أن تستقيم الزّيارة دون المرور على أحد أبرز معالم الولاية وشعارها، ودون أن نبلّل الجوف بارتشاف قطرات من مائه العذب الذي ظل لقرون طويلة عنوان الحياة في هذا المكان، والذي ظلّ كذلك صامداً مقاوماً برغم كلّ محاولات الغازي الأجنبي لتخريبه وكبسه! عن (الملكي) أتحدث، الفلج الذي يعدّ من أقدم الأفلاج العمانيّة، ودليل من ضمن أدلّة كثيرة على عراقة هذه الولاية، والذي أدرجته منظّمة اليونسكو في قائمة التّراث العالمي، وهو يتفرّع إلى قسمين: أحدهما يروي النّزار، وآخر يسقي اليمن، ويقال إنّ من شدة تدفق مياه هذا الفلج وغزارة جريانه فإنّ سقيه كان يصل إلى أدم!!

تقول كتب التّاريخ العماني إنّ محمّد بن (بور) حاول أن يخرّب الفلج بعد أن دخل عمان إثر انقسام سكّانها على أساس طائفي، وبعد إن استعان أحد الفريقين به كي ينصرهم على الفريق الآخر الذي يشاركهم الوطن والهويّة، فكان أصحاب ابن بور يدفنونه وهو يغلبهم، فأشارت عليهم راعية غنم بأن يستخدموا الصّوف والشجر في سدّ مجاريه، فاستولوا على خرافها كي يسدوا بصوفها فتحاته، فكان جزاؤها "جزاء سنّمار"!!

كانت آخر جولاتنا الإزكويّة في إمطي، حيث أحفاد مالك بن فهم القائد العربيّ الكبير الذي أذلّ الفرس وهزمهم في يوم سّلوت أحد أيّام العرب الثلاثة ضدّ الفرس، والتي تقع في جهة الشّمال من إزكي أسفل سفح الجبل الأخضر العظيم. سمعت عن هذه القرية سابقاً من خلال قراءات متفرّقة، وعرفت عنها أكثر من خلال طلابي الذين قدّموا لي تقريراً سياحيّاً عنها وعن فلجها الجميل. كنت ساعة عرضهم للتقرير المصوّر أتخيّل نفسي على ضفّة ذلك الفلج مسترخياً تحت ظِلّ شجرة وارفة تحيط به، متناولاً بعض حبّات من الرّطب، ومرتشفاً لفنجان قهوة سوداء من تلك التي يجيد سكّان المناطق الداخليّة في عمان صنعها حتى كأنّها أصبحت علامة تجاريّة تسجّل باسمهم! تحقّق الحلم، ولكن لم تحضر القهوة!

أستريح قليلاً في السّبلة السعفيّة المجاورة لالتقاط بعض الصّور التذكاريّة كشاهد على الزّيارة موجّهاً بصري نحو مدخل الحارة الأثريّة(عين السّواد)، التي ما زلت متحسّراً كلّ الحسرة كوني لم أتعمّق في داخلها، محاولاً اكتشاف ما تبقّى من كنوز أثريّة حوتها. أخشى أن حسرتي كانت لتتضاعف لو كنت قد تجوّلت بها ورأيت مظاهر الإهمال والتصدّع بادية على بعض آثارها دون أدنى اهتمام!

انتهت جولتي السريعة في الولاية، ولكن لم تنته بعد قصص الإثارة والتّشويق، فمازالت إزكي تحوي كنوزاً أخرى لم يسعفني الوقت لرؤيتها، وما زالت هناك قرى وحارات عديدة لا تقلّ أهميّة ومكانة تاريخيّة بجوامعها وأفلاجها وحصونها وأبوابها وأسوارها وأبراجها، بل وبعظمة ما صنعته يد الأنسان العمانيّ الذي وجد بها كقاروت، وقلعة العوامر، والقريتين، وشافع، والحميضيين، وزكيت، ومغيوث، وسدي ، وسيما ومقزّح اللتين اشتهرتا في المثل العمانيّ " سيما خت مقزّح"، والأولى كان لي منها أصدقاء أعتزّ بصداقتهم ومعرفتهم من سلالة العالم والقاضي والأديب الكبير الشيخ سيف بن حمد بن شيخان الأغبري، وحارة (الرّحى) التي قال فيها الشّاعر :

ويا طلول بحارات الرّحى اندرست.. رغم الصمود بوجه الريح والمطر.