الخميس، 28 أغسطس 2014

في شارع العرب


بمثل ما استقبلتنا به من الحفاوة غادرنا شنجماي باتجاه بانكوك كي نقضي بها بقية أيام الرحلة، وكما وصلنا بيسر كانت المغادرة سهلة وميسّرة، فلم تستغرق اجراءات تخليص معاملات الرحلة سوى بضع دقائق، وكان لكلّ شركة طيران مكتبها الذي يجيبك من خلاله موظّفيها على أيّ استفسار أو مساعدة ترغب في الحصول عليها، كما أنّ هناك عشرات المحلات والمطاعم التي تنتشر في أرجاء المطار الصغير بحيث لا تترك لك مجالاً للملل، وكان آخر من ودّعنا ونحن نركب سلّم الطائرة هو أحد جبال المدينة الخضراء الذي شكّلت الغيوم قبّعة بيضاء تليق بهيبته وشموخه.

ما إن وصلنا مطار بانكوك الجديد حتّى تغيّر كلّ شيئ من حولنا، فالمطار عبارة عن مدينة مجهولة المعالم بسبب كبر حجمه واتّساعه، كما أنّ المئة بات قيمة التوصيل من المطار إلى الفندق في شنجماي أصبحت سبعمائة هي قيمة تسعيرة تكاسي المطار، وألف وخمسمائة لتكاسي الشركات الخاصّة، والعشرة دقائق مسافة الطريق إلى الفندق تضاعفت لتصبح ساعة كاملة. مقدّمات كهذه جعلتنا نشعر ببعض الانقباض، وتنذرنا بأنّ القادم لن يكون جميلاً كما كان خلال الأيّام السابقة. 

ما ان اقتربنا من شارع سوكموفيت، وتحديداً شارع (نانا) الذي يقع فيه الحيّ العربيّ حتى تضاعف الانقباض ليصبح سمة لازمتنا طوال بقيّة الأيّام الستّة التي قضيناها في المدينة، والتي لم تفلح كلّ الجهود لازالتها، على الرغم من أنّنا لم نترك أيّ معلم من معالم المدينة دون زيارته سواء كانت مدناً ترفيهيّة، أومجمّعات تجاريّة، أو حتّى أسواقاً شعبيّة، وغيرها من المعالم التي تزخر بها المدينة، وأدركت هنا أنّ مخاوفي من اختيار هذا الحيّ للنزول فيه طوال مدّة إقامتي في بانكوك كانت في محلّها.

أمّا لماذا كلّ هذا الانقباض والتبرّم من هذا الحيّ الذي يقصده الكثيرون من العرب والخليجيّين على وجه الخصوص فهي لأسباب عدّة لعلّ من بينها حالة الفوضى العارمة التي يمتاز بها الحيّ أو (السوق) على وجه الدّقّة، فالشوارع والسكك مليئة بخليط من السيّاح الخليجيّين، والمتسوّلين، وباعة كلّ شيئ، وهي قريبة من الوضع في شارع جامعة الدول بالمهندسين في مصر، بحيث يعتقد البعض أنّ مصر هي شارع جامعة الدول دون أن يضعوا في حسبانهم آلاف الشوارع والمدن والقرى والنجوع التي تختلف كلّيّاً عن ذلك الشارع، والتي تمثّل وجه مصر الحقيقي بكرم أهلها وطيبتهم وأصالتهم وحفاوتهم.

الأمر الآخر الذي زاد في تبرّمي وضيقي هو سوء المعاملة التي وجدتها الفندق الذي نزلت فيه بعكس ما وجدته في شينغماي، فالصور التي رأيتها في موقع الفندق الإلكتروني تختلف كلّيّاً عمّا رأيته عند وصولي، واللّوبي أشبه ما يكون بخليّة نحل لا تكاد تجد لرجلك مكاناً فيه لكثرة النزلاء من أبناء الخليج وبناته الذين لم يتركوا ركناً فيه دون أن يجلسوا عليه طلباً لشبكة قد تقرّبهم مّمن تركوهم من أحباب وهميّين على مواقع المحادثة المختلفة، كما أنّك ملزم بدفع ما لايقلّ عن ستين ريالاً عمانيّاً كتأمين في وقت أنت في أمسّ الحاجة لمبلغ مثل هذا.

الأمر الثالث هو حالة (الإفتراس) الواضحة على محيّا العاملين في هذا الفندق وغيره من الفنادق القريبة، ابتداء برجال الأمن، وانتهاء بحاملي الشنط وعمّال النظافة، فالكل يريدك أن تدفع له طوال الوقت، والكل يعرض عليك خدماته التي لا سقف لحدودها، ولا تكاد تخرج من بوابة الفندق حتى يتلقّفونك بالأسئلة وعرض الخدمات، أو حتّى فتح باب التكسي والوقوف بجواره كالصّنم انتظاراً لبقشيش تنفحه إيّاهم.

الأمر الرابع هو حالة الاستغلال (الفظيع) لجنس كلّ ماهو خليجي، وكأنّ أهل الخليج هم قطيع من البلهاء، أو اللامبالين بما يحملونه من أموال لا تنفد، فأيّ شيّ تطلبه تجده بأضعاف قيمته خارج الشارع، ولا مجال للاعتراض، فهناك مغفّلين كثر مستعدّون للدفع، ولك أن تتخيّل أنّ قيمة كيّ قميص واحد يكلّفك 30 باتاً في حين أنّها بعشرة في شينجماي، وحلاقة الذقن ب250 بات، في حين أنّها بستين في ضواحي بانكوك الأخرى، وقس على ذلك بقيّة الأشياء من أطعمة ومأكولات، وخشب يباع على أنّه عود خام، ومراهم عديمة الجدوى تباع باعتبارها مقوّيات ومغذّيات ومشهّيات،ووو.. ألخ.

الأمر الخامس هو الإزعاج الشديد الذي تشعر به طوال الوقت، فالمحلات في الغالب لا تغلق أبوابها، والسّكك مزدحمة بالبشر حتّى لتكاد تشعر أنّك في سوق (العتبة) الشهير بوسط القاهرة، وهو الأمر الذي يجعلك تسأل نفسك في كل ثانية: أيّ استجمام هذا الذي أتيت أنشده وسط ورشة كهذه؟ وهل هذه هي تايلند الخضراء التي دفعت الغالي والرخيص كي أحظى ببضعة ليال جميلة تنسيني تعب السنين؟

أمور كهذه جعلت من أسرتي الصغيرة تلزم غرفها الضيّقة، ولا تكاد تخرج منها إلا للذهاب إلى إحدى المدن الترفيهيّة أو المجمّعات التي كنّا نحاول المكوث فيها أكبر مدّة من الوقت بحيث نعود إلى الفندق طلباً للنوم فقط، ولسان حالنا يقول: لماذا تركنا شينجماي الجميلة بكل روعة طبيعتها، وطيبة أهلها، ونظافة فنادقها، وهدوء شوارعها، ورخص أسعارها؟
وقد يسأل البعض: مادامت الأمور بهذه البشاعة فلماذا اخترت الإقامة هناك على الرغم من أنّ بانكوك تعجّ بمئات الفنادق والشقق والنزل الفخمة والرخيصة نسبيّاً في نفس الوقت؟

هو الجهل أيّها الأصدقاء، فعلاقتي ببانكوك مقطوعة منذ أربعة عشر عاماً عندما زرتها لليلة واحدة فقط، كما أنّ حالة الخوف من الجوع هي من جعلتني أختار هذا المكان بالذات للإقامة تقرّباً من مطاعمها العربيّة، اضافة إلى اعتقادي أنّني سأحظى بإقامة مثاليّة في ظلّ فنادق غالية تتجاوز قيمة سكنى الليلة الواحدة حاجز الخمسين ريالاً للغرفة مقارنة بكثير من الفنادق الأخرى التي اكتشفت (متأخراً) أنّها أكثر رقيّاً وشياكة وأناقة، وأنّ سبب رخص ثمنها مقارنة بفنادق شارع العرب هو قلّة إقبال العرب عليها، كما أنّني كنت أتوقّع أن أجد بعض الأسر الخليجيّة التي قد تؤنس وحدة عائلتي كما هو الأمر في شينجماي، فإذا بي أكتشف أنّ الخليج كلّه بقضّه وقضيضه هنا، وأنّ المسئولين عن التعداد في بعض الدول الخليجيّة لن يجدوا أنسب من هذا الشارع لعمل التعداد السّكّاني لدولهم.

يبقى سؤال أسأله لنفسي في كلّ مرّة أزور فيها تجمعاً لعرب، وخليجيين على وجه الخصوص في بلدان عدّة : لماذا تحتوي هذه التجمّعات على أسوأ ما في سكّان تلك البلدان من صفات؟ ولماذا لا نجد تصرّفات كهذه في تجمّعات الشعوب الأخرى؟ ولماذا الناس خارج محيط حيّ نانا، أو شارع جامعة الدول، أو حيّ الروشة وشارع الحمراء وغيرها من الشوارع التي تحوي أماكن مفضّلة للخليجيّين يختلفون عمّن بداخل تلك الشوارع والأحياء؟ أسئلة كهذه قد أتركها لبعض الخليجيّين كي يجيبوا عليها بأنفسهم.
أمّا هل كانت الإقامة في بانكوك كلّها مساوئ، فالإجابة حتماً لا، فهناك أمور ايجابيّة عديدة قد تجد في المقال القادم متّسعاً لعرضها.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


الأحد، 24 أغسطس 2014

مشاهد من شيانجماي

الحديثُ عن مدينة شيانجماي التايلندية ومعالمها السياحية المتنوعة، أمرٌ لا يُمكن حصره في مقال؛ فجوُّها الاستثنائي، وجبالُها الخضراء التي تُعانق الغيوم، وشلالاتها المتدفقة، وأسواقها الشعبية العديدة، وقراها ذات الخصوصية الثقافية، هي من الأشياء التي لا يُمكن وصفها بالكلام؛ ففي ذلك ظُلم بيِّن للمدينة، ولكني سأشير هنا إلى بعض الملاحظات المتعلقة بسلوكيات شعب تلك المدينة، وكيف أنَّ هذه السلوكيات قد أصبحت سمة حياة لديهم، وقد تكون أحد أبرز عوامل الجذب السياحي لديهم.

عندما نزلتُ مطار شيانجماي، لم يستغرق حصولي على وسيلة نقل تقلني إلى المنتجع الذي سأنزل فيه أكثر من خمس دقائق، هي الفترة التي قضيتها في الاطلاع على عروض أسعار مكاتب تأجير السيارات بالمطار التي كانت معروضة على الملأ، ومن ثم إعطاء مُوظف المكتب البيانات المتعلقة بالجهة التي سأذهب إليها، وعدد الأفراد. وبعدها مباشرة، ركوب السيارة التي كانتْ حديثة ومناسبة لعدد أفراد العائلة، ولكم أن تتخيلوا أن قيمة التوصيل من المطار إلى المنتجع الذي يقع على أطراف المدينة لم تتجاوز الريال والنصف. وقتها خطر في بالي (بعض) أصحاب التاكسيات في مطار مسقط، الذين يُمكن أن يتجاوز المشوار لديهم من المطار وحتى روي حاجز الخمسين ريالاً -بحسب "التساهيل"، وبحسب جنسية السائح، ومدى معرفته بالبلد.

ما إنَّ وصلت إلى المنتجع الذي كُنت قد حجزت فيه مسبقاً عن طريق أحد مكاتب حجوزات السفر، حتى كان طاقم الاستقبال في انتظاري على المدخل بانحناءاتهم الجميلة، وابتساماتهم التي لا تفارق محياهم، وكأن من وصل هو شخصية مهمة وليس مجرد سائح عادي كبقية نزلاء المنتجع. بمجرد انتهائي من شرب عصير الضيافة، كانت الغرف جاهزة، والحقائب في طريقها إلى هناك تسبقها باقة ورد كبيرة، وسلة فواكه صيفية، ومزيد من الانحناءات والابتسامات.

من الأشياء الجميلة التي شدَّتني في شيانجماي: تعامل أصحاب وسائل النقل من تاكسيات و"تكاتك" وشركات سياحة...وغيرها؛ فالابتسامة هي أول من يستقبلك وآخر من يودِّعك، والفصال ينتهي في أقل من دقيقة، ولن تجد من يتبعك في (رذالة) كي يُجبرك على الركوب، كما أنَّ بيانات السائق الشخصية مُلصقة بوضوح على وسيلة النقل التي يمتلكها، وبمجرد وصولك للجهة التي تريدها، فإنَّ السائق سرعان ما يترجَّل من مقعده كي يفتح الباب لك، ويقوم بتحميل أغراضك الشخصية بدلاً عنك، ولا يمكن بتاتاً أن تسمع صَوْت بوق، أو نغمة تذمر عند أي ازدحام أو إشارة مرور أو احتكاك بسائق آخر، كالذي أفعله كل صباح عندما تفوتني إشارة جراند مول الخضراء في آخر لحظة وأنا في طريقي إلى العمل، أو عندما تقف صاحبة السيارة التي تسير أمامك فجأة رغم أن الإشارة مازالت خضراء؛ لتكتشف أنها من جنسية آسيوية حديثة العهد بالسياقة، أو أن ثقل الدم من أساسيات الحياة لدى بني جِنْسها. وما زلتُ أذكر سائق التاكسي الذي ظلَّ يعتذر لي طوال الطريق لمجرد أنني اندفعت قليلاً إلى الأمام إثر فرملة استثنائية من قبل السائق. وتأكيداً، ستنسى كلَّ القصص الوهمية التي يُمكن أن تسمعها لدى أي سائق عربي من قبيل ابنته المصابة بسرطان الدم، أو والدته التي تحتاج إلى عملية جراحة عاجلة، ولا بأس ببعض الدموع، بينما المصحف الذي لم يُفتح منذ تاريخ شراء السيارة يتصدر مقدمتها.

شدَّني كذلك فصال الباعة الجميل، وعدم إلحاحهم عليك في الشراء لدرجة الغثيان، أو أن يلاصقوك في كل حركة وسَكَنة. شدَّني أيضاً توسلهم إلى درجة ذرف الدموع أحياناً من أجل الحصول على مبلغ أعلى مُقابل البضاعة التي اشتريتها، لمجرد أنك أنزلت سعرها إلى مستوى يقل عن قيمة التكلفة.

شدَّتني المواعيد المضبوطة بالثانية مع كل اتفاق على القيام بعمل معين؛ كحجز رحلة سياحية، أو الذهاب لزيارة معلم ما، أو الاتفاق مع شخص ما، فلا يوجد (كمان ساعة)، أو (حسب التساهيل)، أو (مسافة السكة)/ أو (الطريق واقف). وأذكر أنني تأخرت لمدة دقيقتين بالضبط عن أحد المواعيد لأكتشف أن باص المنتجع المجاني الذي سيقلني إلى أحد المجمعات التجارية كان قد تحرك لتوِّه.

شدَّني لديهم كذلك استمتاعك بالرحلات السياحية التي تقوم بها؛ فلا يُوجد من يزعجك بشراء هذه البضاعة أو تلك السلعة، ولا يوجد من يلح عليك بركوب هذا الفيل أو تلك العربة، ولا يُوجد كذلك من يجعلك تلعن اليوم الذي قرَّرت فيه زيارة هذا المعلم من خلال ملاحقته لك كظلك من أجل الحصول على أي مبلغ مقابل أي شيء، ولا يوجد كذلك السائق الذي يحرمك من متعة الاستمتاع بيومك من خلال اتفاقه مع الآخرين على ابتزازك. أشياء كهذه قد تجدها في بعض دولنا العربية. أما في شيانجماي، فالأمر نادر إن لم يكن معدوما.

أشياء أخرى كثيرة لفتت انتباهي في تلك المدينة الاستثنائية التي يظلمها كثير من أبناء جلدتي؛ باعتقادهم أنها مدينة صغيرة تنام بعد العشاء، وتحوي بعضاً من الجبال الخضراء، وعدداً من المصانع، وكيف أنهم ينصحون كلَّ من يذهب إليها بألا تطول مدة إقامته عن ليلتين أو ثلاثة بالكثير، بينما هي في الحقيقة تختلف عن ذلك الوصف تماماً بطبيعتها الخلابة التي تتوزع في كل اتجاه بها، وبمجمعاتها التجارية التي تضاهي المجمعات العالمية، وبأسواقها العصرية، وبأشياء كثيرة لا تقل عن أي مدينة عالمية كبيرة زرتها من قبل.

ومن بين هذه الأشياء التي لفتت انتباهي نظافة الشوارع بشكل مذهل يجعلك تشعر بالتوتر وأنت تحمل ورقة مناديل في يدك خوفاً من سقوطها سهواً، وهدوء أهلها الشديد لدرجة تعتقد أنك يمكن أن تقوم بضربهم أو بالصراخ عليهم دون أية ردة فعل من قبلهم سوى الابتسامة ولا شيء غيرها، وكذلك الإخلاص العجيب في كل عمل يقومون به دون أن يطالبوك بالمقابل، فلا بقشيش يطلب، ولا مجاملات سمجة في غير محلها، ولا أشياء من هذا القبيل كالتي في بالي عن بعض الدول العربية.

الشيء الوحيد الذي نغَّص عليَّ متعة الاستمتاع بالمدينة؛ هو: عدم وجود الحروف العربية بلوحات مفاتيح أجهزة مركز الأعمال بالمنتجع؛ مما اضطرني إلى تخمين أماكن الحروف عند الكتابة مستعيناً بخبرتي المتواضعة في ذلك.

أنا في طريقي الآن إلى بانكوك، وأخشى أن أرتكب أسوأ اختيار يُمكن أن يفعله الفرد في بانكوك، ألا وهو الإقامة في شارع العرب

د. محمد بن حمد العريمي
.Mh.oraimi@hotmail.com

الثلاثاء، 12 أغسطس 2014

الشبكة في الوضع E


    ربّما لم يقتنع زملائي في العمل حتّى الآن بعدم قدرتي على تحميل المقطع الصوتيّ الذي قام أحدهم بعرضه في جروب الواتساب الخاص بالدائرة كي يأخذ رأينا الفنّيّ فيه قبل رفعه إلى المسئولين لاعتماده، وذلك على الرغم من قيامي بأخذ (سكرين) للشاشة وعليها العبارة الخالدة " لم يكتمل التحميل. الرجاء المحاولة لاحقاً" بعد كلّ محاولة تحميل فاشلة كنت أقوم بها، ذلك أنّ المقطع لم يتجاوز حجمه (660) كيلو بايت، كما أنّني كنت وقتها في صور وليس في مجاهل الرّبع الخالي، فكيف لمدينة تعدّ من كبريات المدن في السلطنة، ومركزاً إداريّاً لإحدى محافظاتها، وحاضرة عرفت بنشاطها التّجاريّ والسياحيّ البارز أن تكون خدمات الإنترنت بها رديئة للدرجة التي لا يستطيع معها الشخص أن يحمّل مقطعاً صغيراً أو حتّى يتصفّح موقعاً عاديّاً إلا بشقّ الأنفس؟ وإذا كان الوضع هو كذلك في مدينة بهذا الحجم والأهمّية، فما بالكم بعشرات المدن والحواضر والقرى الأخرى!!

وفي كلّ مرّة يتكرّر هذا الوضع أعمد إلى مراجعة برمجة هاتفي فلربّما كان الخلل منه لا من الشركة المزوّدة للخدمة، فما زلت غير مستوعب (بتاتاً) أن تكون الخدمة بتلك الرداءة في عصر أصبحت فيه التكنولوجيا من متطلّبات العصر المهمّة التي لا يقدر المرء على تسيير أمور يومه بدونها، فما بالكم ونحن في دولة عصريّة تسدّ فيها الإعلانات التي تحث على استخدام التكنولوجيا في كلّ مناحي الحياة عين الشمس، فهذا إعلان يدعو إلى تسجيل رغبات الدراسة عن طريق الموقع الإلكتروني، وذلك يهدّد بعدم استقبال الطلبات إلا لو كانت مرسلة عبر البريد الإلكتروني، وثالث يعد بجوائز مغرية لمن يستخدم العناوين الإلكترونيّة للشركة من مواقع تواصل، ورسائل sms، وبريد، وموقع في دفع الفواتير أو الاستفسار عن قيمتها، وما بالكم كذلك وأنا أتحدّث عن أماكن ليست بالوعرة جغرافيّاً، أو مصنّفة كأماكن ذات نقاط حمراء لأسباب مختلفة.

وفي كلّ مرّة كذلك أتأكّد أنّه لا علاقة لهاتفي بالمشكلة، فهو حديث الصّنع، ذو علامة تجاريّة معروفة، ومن نوعيّة الهواتف الذكيّة التي صمّمت للتعامل مع مختلف البرامج ذات العلاقة بشبكة المعلومات، كما أنّه كان قبل بضعة سويعات قادراً على التصفّح والتحميل عندما لم أكن قد غادرت مسقط بعد!

أين المشكلة إذاً! ما أعرفه أنّ الشركات المزوّدة لخدمات الإتصالات المختلفة من هاتف وانترنت وغيره تعدّ من أكثر الشركات ربحيّة واستقراراً على المستوى المادّي، كما أن كثير من  موظّفيها يتمتّعون بمزايا قد لا يحصل عليها أمثالهم ممّن يعملون في قطاعات أخرى من حيث الرواتب والبدلات والمكافئات والأسهم والدورات التدريبيّة، وحتّى الدورات المتعلّقة بتنمية الذات، ناهيك عن حفلات العشاء والغداء والإفطار، وو..ألخ، ويكاد أن تميّز موظّفي هذه الشركات من بين الآخرين عند مصادفتك لهم في أيّ مقهى أو مطعم فاخر، ناهيك عن اعلانات هذه الشركات التي تكاد تتعثّر بها في أيّ مكان تمرّ به من حيث الحديث عن العروض والمزايا المختلفة لخدماتهم بحيث تعتقد أنّ تيّاراً هوائيّاً سيطيح بك وأنت توشك على استخدام المتصفّح الالكتروني من فرط سرعته.

مرّة أخرى.. ما دامت تلك الشركات تتمتّع بكل هذه الإمكانات، ومادامت تستقطب كل أولئك الكوادر المدرّبين جيّداً فأين المشكلة، وأين هيئة تنظيم الإتصالات عمّا يحدث، وهل لها دور فيما نتحدّث عنه؟ أقسم لكم أنني ظللت أسبوعاً بأكمله طوال إجازة العيد لم أتمكّن من تحميل مقطع واحد من المقاطع التي أرسلت إليّ عبر الواتساب، وكنت أنتظر حلول الفجر كي أتمكّن من ارسال تهنئة استعضت فيها بالكلام بدلاً من الصور، وكي أتمكّن كذلك من الحصول على رفاهيّة أكبر تتمثّل في تصفّح الفيسبوك أو التويتر برغم أن بعض المنشورات كانت تظلّ لساعات دون تغيير بسبب البطء الرهيب الذي تعانيه الشبكة.

هل يعقل أن يحدث هذا في مدن تقع في قلب عمان، وفي القرن الحادي والعشرين! وهل لنا (عين) أن نتحدّث عن تطوير السياحة أو الإقتصاد أو منظومات التعليم والصحّة وغيرها، أو أن نشجّع الشباب على تبنّي مشاريع اقتصاديّة تخفّف من الأعباء الملقاة على كاهل الحكومة، في ظلّ رداءة خدمات الإتصالات المقدّمة! وهل يعقل كذلك أن تظلّ قرى يتجاوز عدد سكّانها الخمسة آلاف نسمة وتتميّز بمقوّمات سياحيّة واقتصاديّة واعدة دون خدمات الهاتف الثابت وملحقاته من فاكس وتلكس وانترنت أرضي وغيره! 

أتذكّر أنّني قبل حوالي شهرين من الآن وبينما كنت في زيارة عمل إلى مصر، أن قمت باستخراج شريحة هاتف كي أستخدمها في اتصالاتي خلال الفترة التي سأقضيها هناك فكان عرض شركة الاتصالات التي صادفني فرعها هو الحصول على ثلاث شرائح ذات أرقام مميّزة تحوي كلاً منها (1600) دقيقة مكالمات محليّة مجّانيّة، مع (1.700) جيجابايت اشتراك انترنت، وكل ذلك بسعر مائة جنيه مصري فقط للشرائح الثلاث مجتمعة، أي ما يعادل حوالي خمسة ريالات ونصف، وأذكر أنّني وقتها وبرغم اقامتي في أحد فنادق الخمسة نجوم التي توفّر خدمة (الواي فاي) المجّانيّة، إلا أنّني كنت أستخدم شريحة الهاتف في عمليّات التصفّح والتحميل، واستفدت منها في تحميل سلاسل من الكتب والروايات التي لم أكن لأقدر على تحميلها هنا، وبرغم تكرار زيارتي لمصر مرتين بعد ذلك، واستخدامي لها في كلتا المرّتين إلا أنّ العرض ما زال سارياً، ومازال بالشريحة حزمة بيانات كافية تسمح بالتصفّح والتحميل دون أدنى مضايقة أو بطء أو انقطاع متكرّر كما يحدث هنا، علماً بأنّ الشركة التي قدّمت لي هذا العرض كانت أقلّ الشركات الثلاث (هناك شركة رابعة ستدخل السوق المصريّة قريباً) في الإمكانيّات وجودة الخدمات.

على المسئولين في شركات الاتصالات مصارحتنا بحقيقة الأمر، فأمر كهذا لا يمكن (ابتلاعه) أو السكوت عنه، فلقد سئمنا الدّفع دون تلقّي الخدمات التي تتناسب والقيمة المدفوعة، وسئمنا اختزال عمان في مدينة أو اثنتين، وسئمنا الوعود التي نسمعها منذ زمن الجاهليّة بأنّ هناك مقسماً سيتم افتتاحه قريباً، وآخر في طور الإنشاء، وأنّه سيتم الانتقال قريباً ( وهي كلمة مفتوحة الحدود) إلى استخدام الألياف البصريّة..ألخ، وهي ذات النغمة التي تكرّرها كثير من الجهات عند تقديم انتقاد معيّن لخدماتها، بحيث تشعر وكأنّ السماء ستمطر خدمات لا حدود لها، ثم يهدأ كلّ شيء، ويعود الوضع إلى حاله، ويا دار ما دخلتك شر.

د.محمد بن حمد العريمي

 Mh.oraimi@hotmail.com

الأربعاء، 6 أغسطس 2014

(عن وهم السياحة)

 ربّما لن يغفر لي صديقي (النزواني) ما فعلته ذات مغربيّة ساحرة في ثالث أيّام العيد، عندما انتزعته من عالمه الخيالي، وهو يحتسي شاياً أسوداً بنكهة الريحان بينما رجلاه تداعبان زبد البحر، ونسمات الكوس الباردة تلعب بما تبقّى من شعيرات رأسه في ذلك المنتجع السياحي الذي يقع بين قريتي السويح وأصيلة التابعتان لولاية جعلان بني بو علي، والذي أحسن صاحبه اختيار مكانه على تلّ ربوة تطلّ على بحر العرب، وتحيط به (عروق) الرمل الناعمة من كلّ جانب، ذلك أنّ الليل كان قد أطلّ بعباءته السوداء، والدنيا أصبحت ظلاماً، وبالتّالي كان لزاماً علينا أن نعود إلى غرفتنا التي حجزناها بشقّ الأنفس في قلب سوق الأشخرة التي تبعد عن المكان بمسافة تزيد عن العشرين كيلو من الأمتار.

أمّا لماذا هذا المقال، فالحكاية أيّها القرّاء الأعزاء أنّني ارتكبت في هذا العيد نفس الخطأ الذي أرتكبه في كل عيد أو إجازة سابقة، ألا وهو الذهاب إلى ساحل جعلان المطلّ على بحر العرب بغية الحصول على نسمات باردة تنعش الروح وتننسيني بعضاً من حرّ العامرات المقيت التي تسير بذكره الرّكبان.

وقد تقولون: وما المشكلة في ذلك؟ (فالدنيا ربيع.. والجوّ بديع.. قفّل على كل المواضيع)، وكلّنا يعرف روعة جوّ جعلان خلال الصيف بل والعام كّله، فما بالك بساحل بحر العرب من رأس الحد وحتى صلاله، وما بالك بالأشخرة وهوائها العليل الذي لأجله تشدّ الرحال، وفي سبيله تهون النفوس والأموال. 

دعوني إذاً أحكي لكم هذه المغامرة التي عشتها أول أيام العيد، خرجت من مركز الولاية ظهراً عاقداً العزم على قضاء وقت جميل بصحبة كتاب كنت قد أجّلت قراءته تحسّباً لهذا اليوم، وبرفقة قهوة سوداء بنكهة الهيل والزعفران صنعت خصيصاً للجوّ الذي كنت آمله، كان الجو منعشاً ولكن مع بعض التيّارات الهوائيّة التي تجعلك تقبض على مقود سيارتك كمن يقبض على مال يخشى سرقته، خوفاً من أن تنحرف سيارتك يميناً أو يساراً ويحدث ما لا يحمد عقباه. بمجرّد أن بدأت في دخول الطريق المؤدي إلى الأشخرة وما حولها من قرى وتجمّعات سكّانية، شعرت وكأنّني انتقلت إلى إحدى حلبات السّباق العالميّة، أو كأنّني دخلت إحدى غرف الإثارة في مدينة ألعاب ضخمة، ذلك أن معظم من كان يمرّ من خلفي أو بجواري لديه معتقد أن رجولته ستكون ناقصة لو لم يقد بسرعة 150 كيلو فما فوق، وسط تيّارات هواء عنيفة، وفي ظلّ كثبان رمل ترحّب بك بعد كل كيلو تقطعه في طريقك. واصلت طريقي في خوف وسط رغبة عارمة في كتابة وصيّتي، فمن يدر فربّما لن أكمل مشواري وسط ظروف وأجواء جنائزيّة كهذه.

كانت أصيلة محطّتي الأولى. قرية جميلة على ساحل بحر العرب، تتميّز بجوّ خرافي كبقيّة القرى المطلّة على الساحل، ولكن مع عدم وجود خدمات إلا القليل منها كالبقيّة كذلك، أكملت سيري باتجاه السويح شمالاً، ومن ثمّ عدت أدراجي إلى أصيلة كمحطة وسيطة، ومنها إلى الأشخرة عبر الطريق الساحلي الذي يربط بينهما. لم أجد موطأً لقدم من كثرة السياح الذين افترشوا أي شيء يقابلونه أمامهم على البحر وسط عشوائية مؤلمة، والشباب الذين اعتقدوا أن اكبر حلم يمكن أن يفكّر فيه انسان هو امتلاك سيارة قديمة من طرازات معيّنة وكتابة عبارات وأبيات رومانسيّة لا تعبّر عن واقعهم الشخصي، او لصق صور لأشخاص ربّما لم يقرأوا عنهم سطراً واحداً، وممارسة هواية التفحيط،  لذا لم أمكث بالأشخرة سوى بضع دقائق أقفلت بعدها عائداً إلى جعلان وأنا أدعو الله أن أنام وأصحو لأجد أن الإجازة انتهت، وبالتالي العودة إلى مسقط حيث الحياة ممثلة في الهاتف والانترنت والمجمّعات والمقاهي الجميلة...ألخ.

أمّا لماذا (للمرة المليون) كل هذا التشاؤم والتبرّم فالأمر بكل بساطة وبدون أيّة محاولة للتقعّر في الكلام أو استخدام ألفاظ ومصطلحات تنم عن ثقافة عالية، أو حسّ كتابيّ جميل، فهي كالآتي: هذه المناطق وتلك السواحل أيها المسئولين عن قطاع التنمية والسياحة والاقتصاد هي مناطق يمكن أن تدرّ ذهباً على البلد، ويمكنها أن تكفيكم رغبة أبنائها في مطالبتكم بالوظائف، ويمكن كذلك أن توجّه قطاعاً كبيراً من السياّح المحليين والوافدين إليها. هل تعلمون لماذا؟ أولاً لأن جوّها معتدل طوال العام، ثانياً هي تتميّز بجوّ منعش طوال فترة الصيف لا يقلّ روعة عن جوّ ظفار باستثناء زخّات المطر، ثالثا تتميّز بمصائد وفيرة نتيجة وقوعها على بحر العرب، رابعاً تمتاز بتنوّع بيئي وجيولوجي فريد، خامساً يمتاز سكّانها بالطيبة والكرم والاحتفاء بالغريب بشكل كبير، ويمكن أن أعدّ لكم بقيّة مميّزاتها حتى الألف لو أردتم. يعني من الآخر بيئة واعدة لعشرات المشاريع في مجالات السياحة والصيد وتعليب الأسماك وغيرها.

أمّا ما هو وضعها الحالي فخذ معك: استثمارات سياحيّة ضئيلة جداً وبجهود فرديّة برغم عشرات الوعود والتصريحات الرّنّانة، وبنية تحتيّة متهالكة جداً، فلا اتصالات أرضيّة سوى في الأشخرة، ولا انترنت، ولا شوارع منارة، ولا نزل ايواء كافية، ولا دورات مياه آدميّة، ولا متنزّهات، ولا ولا ولا ولا...ألخ.
من الآخر، من سيأتي إلى هذه المناطق لن يجد سوى جوّاً منعشاً قد يكون مزعجاً عندما تشتدّ الرياح قليلاً وذلك لقلّة المباني، وعدم وجود أشجار (كالنارجيل) تصدّ تلك الرياح، ولن يجد سوى فندق أو اثنين غالباً ما يكون محجوزاً بأكمله أيام المناسبات، أما المظلات فغالبها حوّلته الظروف البيئية إلى منحوتات سيريالية تصلح للمشاركة بها في معرض فنّي وجودي، وعليك عزيزي السائح أن تنسى رفاهيّة الإنترنت، والمقاهي، والمأكولات الصينيّة والأوروبيّة، بل وحتّى العمانيّة ما لم تكن قد أحضرت قدور الطبخ معك، وقبلها بحثت عن مكان مناسب للطبخ، وآخر للإقامة.

والحل؟ الحل يعرفه المسئولين جيداً، كتبناه هنا عشرات المرات، ورفع إليهم عشرات أخرى، وكثيرة هي الندوات والورش والمؤتمرات التي تطرقت إليه. فقط عندما ستأتي الإرادة ستظهر تلك الحلول من تلقاء نفسها إلى السطح ويمكن أن تكون واقعاً جميلاً أتمنى أن أعيش جزء منه يوماً ما.

على طاولة الشاي التي جهّزها لنا صديقي صاحب منتجع (بحر العرب السياحي) ضحكت بأسى وهو يخبرني عن معاناته في سبيل إنشاء هذا المنتجع، وعن مبالغ ايجار الأرض والضرائب التي يدفعها سنوياً برغم عدم وجود أيّ ترويج حكومي للمنتجع، وعن (تناكر) الماء التي تلتهم ايرادات المنتجع لأنه لا ماء حكومي يصل إليه، وعن ساعات الانتظار التي يقضيها في الشوارع الموصلة إلى المنتجع ليلا بانتظار وصول فوج سياحي نتيجة الظلام الدامس الذي يلفّ الشوارع بسبب عدم انارتها، وكانت قمّة التراجيديا عندما أخبرنا عن السائح الذي قدّم بلاغاّ ضدّه بسبب اضطراره للتوقف في (تحويلة) قريبة من المنتجع لم يكتمل العمل بها منذ سنوات سبع اعتقد السائح أنّه كمين ارهابي دبّره صاحب المنتجع له. 

بالمناسبة.. ما أخبار الواجهة البحرية للأشخرة التي تم (التصريح) عن انشائها منذ شهور!
د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com