الحديثُ عن مدينة شيانجماي التايلندية ومعالمها السياحية المتنوعة، أمرٌ لا يُمكن حصره في مقال؛ فجوُّها الاستثنائي، وجبالُها الخضراء التي تُعانق الغيوم، وشلالاتها المتدفقة، وأسواقها الشعبية العديدة، وقراها ذات الخصوصية الثقافية، هي من الأشياء التي لا يُمكن وصفها بالكلام؛ ففي ذلك ظُلم بيِّن للمدينة، ولكني سأشير هنا إلى بعض الملاحظات المتعلقة بسلوكيات شعب تلك المدينة، وكيف أنَّ هذه السلوكيات قد أصبحت سمة حياة لديهم، وقد تكون أحد أبرز عوامل الجذب السياحي لديهم.
عندما نزلتُ مطار شيانجماي، لم يستغرق حصولي على وسيلة نقل تقلني إلى المنتجع الذي سأنزل فيه أكثر من خمس دقائق، هي الفترة التي قضيتها في الاطلاع على عروض أسعار مكاتب تأجير السيارات بالمطار التي كانت معروضة على الملأ، ومن ثم إعطاء مُوظف المكتب البيانات المتعلقة بالجهة التي سأذهب إليها، وعدد الأفراد. وبعدها مباشرة، ركوب السيارة التي كانتْ حديثة ومناسبة لعدد أفراد العائلة، ولكم أن تتخيلوا أن قيمة التوصيل من المطار إلى المنتجع الذي يقع على أطراف المدينة لم تتجاوز الريال والنصف. وقتها خطر في بالي (بعض) أصحاب التاكسيات في مطار مسقط، الذين يُمكن أن يتجاوز المشوار لديهم من المطار وحتى روي حاجز الخمسين ريالاً -بحسب "التساهيل"، وبحسب جنسية السائح، ومدى معرفته بالبلد.
ما إنَّ وصلت إلى المنتجع الذي كُنت قد حجزت فيه مسبقاً عن طريق أحد مكاتب حجوزات السفر، حتى كان طاقم الاستقبال في انتظاري على المدخل بانحناءاتهم الجميلة، وابتساماتهم التي لا تفارق محياهم، وكأن من وصل هو شخصية مهمة وليس مجرد سائح عادي كبقية نزلاء المنتجع. بمجرد انتهائي من شرب عصير الضيافة، كانت الغرف جاهزة، والحقائب في طريقها إلى هناك تسبقها باقة ورد كبيرة، وسلة فواكه صيفية، ومزيد من الانحناءات والابتسامات.
من الأشياء الجميلة التي شدَّتني في شيانجماي: تعامل أصحاب وسائل النقل من تاكسيات و"تكاتك" وشركات سياحة...وغيرها؛ فالابتسامة هي أول من يستقبلك وآخر من يودِّعك، والفصال ينتهي في أقل من دقيقة، ولن تجد من يتبعك في (رذالة) كي يُجبرك على الركوب، كما أنَّ بيانات السائق الشخصية مُلصقة بوضوح على وسيلة النقل التي يمتلكها، وبمجرد وصولك للجهة التي تريدها، فإنَّ السائق سرعان ما يترجَّل من مقعده كي يفتح الباب لك، ويقوم بتحميل أغراضك الشخصية بدلاً عنك، ولا يمكن بتاتاً أن تسمع صَوْت بوق، أو نغمة تذمر عند أي ازدحام أو إشارة مرور أو احتكاك بسائق آخر، كالذي أفعله كل صباح عندما تفوتني إشارة جراند مول الخضراء في آخر لحظة وأنا في طريقي إلى العمل، أو عندما تقف صاحبة السيارة التي تسير أمامك فجأة رغم أن الإشارة مازالت خضراء؛ لتكتشف أنها من جنسية آسيوية حديثة العهد بالسياقة، أو أن ثقل الدم من أساسيات الحياة لدى بني جِنْسها. وما زلتُ أذكر سائق التاكسي الذي ظلَّ يعتذر لي طوال الطريق لمجرد أنني اندفعت قليلاً إلى الأمام إثر فرملة استثنائية من قبل السائق. وتأكيداً، ستنسى كلَّ القصص الوهمية التي يُمكن أن تسمعها لدى أي سائق عربي من قبيل ابنته المصابة بسرطان الدم، أو والدته التي تحتاج إلى عملية جراحة عاجلة، ولا بأس ببعض الدموع، بينما المصحف الذي لم يُفتح منذ تاريخ شراء السيارة يتصدر مقدمتها.
شدَّني كذلك فصال الباعة الجميل، وعدم إلحاحهم عليك في الشراء لدرجة الغثيان، أو أن يلاصقوك في كل حركة وسَكَنة. شدَّني أيضاً توسلهم إلى درجة ذرف الدموع أحياناً من أجل الحصول على مبلغ أعلى مُقابل البضاعة التي اشتريتها، لمجرد أنك أنزلت سعرها إلى مستوى يقل عن قيمة التكلفة.
شدَّتني المواعيد المضبوطة بالثانية مع كل اتفاق على القيام بعمل معين؛ كحجز رحلة سياحية، أو الذهاب لزيارة معلم ما، أو الاتفاق مع شخص ما، فلا يوجد (كمان ساعة)، أو (حسب التساهيل)، أو (مسافة السكة)/ أو (الطريق واقف). وأذكر أنني تأخرت لمدة دقيقتين بالضبط عن أحد المواعيد لأكتشف أن باص المنتجع المجاني الذي سيقلني إلى أحد المجمعات التجارية كان قد تحرك لتوِّه.
شدَّني لديهم كذلك استمتاعك بالرحلات السياحية التي تقوم بها؛ فلا يُوجد من يزعجك بشراء هذه البضاعة أو تلك السلعة، ولا يوجد من يلح عليك بركوب هذا الفيل أو تلك العربة، ولا يُوجد كذلك من يجعلك تلعن اليوم الذي قرَّرت فيه زيارة هذا المعلم من خلال ملاحقته لك كظلك من أجل الحصول على أي مبلغ مقابل أي شيء، ولا يوجد كذلك السائق الذي يحرمك من متعة الاستمتاع بيومك من خلال اتفاقه مع الآخرين على ابتزازك. أشياء كهذه قد تجدها في بعض دولنا العربية. أما في شيانجماي، فالأمر نادر إن لم يكن معدوما.
أشياء أخرى كثيرة لفتت انتباهي في تلك المدينة الاستثنائية التي يظلمها كثير من أبناء جلدتي؛ باعتقادهم أنها مدينة صغيرة تنام بعد العشاء، وتحوي بعضاً من الجبال الخضراء، وعدداً من المصانع، وكيف أنهم ينصحون كلَّ من يذهب إليها بألا تطول مدة إقامته عن ليلتين أو ثلاثة بالكثير، بينما هي في الحقيقة تختلف عن ذلك الوصف تماماً بطبيعتها الخلابة التي تتوزع في كل اتجاه بها، وبمجمعاتها التجارية التي تضاهي المجمعات العالمية، وبأسواقها العصرية، وبأشياء كثيرة لا تقل عن أي مدينة عالمية كبيرة زرتها من قبل.
ومن بين هذه الأشياء التي لفتت انتباهي نظافة الشوارع بشكل مذهل يجعلك تشعر بالتوتر وأنت تحمل ورقة مناديل في يدك خوفاً من سقوطها سهواً، وهدوء أهلها الشديد لدرجة تعتقد أنك يمكن أن تقوم بضربهم أو بالصراخ عليهم دون أية ردة فعل من قبلهم سوى الابتسامة ولا شيء غيرها، وكذلك الإخلاص العجيب في كل عمل يقومون به دون أن يطالبوك بالمقابل، فلا بقشيش يطلب، ولا مجاملات سمجة في غير محلها، ولا أشياء من هذا القبيل كالتي في بالي عن بعض الدول العربية.
الشيء الوحيد الذي نغَّص عليَّ متعة الاستمتاع بالمدينة؛ هو: عدم وجود الحروف العربية بلوحات مفاتيح أجهزة مركز الأعمال بالمنتجع؛ مما اضطرني إلى تخمين أماكن الحروف عند الكتابة مستعيناً بخبرتي المتواضعة في ذلك.
أنا في طريقي الآن إلى بانكوك، وأخشى أن أرتكب أسوأ اختيار يُمكن أن يفعله الفرد في بانكوك، ألا وهو الإقامة في شارع العرب
د. محمد بن حمد العريمي
.Mh.oraimi@hotmail.com
عندما نزلتُ مطار شيانجماي، لم يستغرق حصولي على وسيلة نقل تقلني إلى المنتجع الذي سأنزل فيه أكثر من خمس دقائق، هي الفترة التي قضيتها في الاطلاع على عروض أسعار مكاتب تأجير السيارات بالمطار التي كانت معروضة على الملأ، ومن ثم إعطاء مُوظف المكتب البيانات المتعلقة بالجهة التي سأذهب إليها، وعدد الأفراد. وبعدها مباشرة، ركوب السيارة التي كانتْ حديثة ومناسبة لعدد أفراد العائلة، ولكم أن تتخيلوا أن قيمة التوصيل من المطار إلى المنتجع الذي يقع على أطراف المدينة لم تتجاوز الريال والنصف. وقتها خطر في بالي (بعض) أصحاب التاكسيات في مطار مسقط، الذين يُمكن أن يتجاوز المشوار لديهم من المطار وحتى روي حاجز الخمسين ريالاً -بحسب "التساهيل"، وبحسب جنسية السائح، ومدى معرفته بالبلد.
ما إنَّ وصلت إلى المنتجع الذي كُنت قد حجزت فيه مسبقاً عن طريق أحد مكاتب حجوزات السفر، حتى كان طاقم الاستقبال في انتظاري على المدخل بانحناءاتهم الجميلة، وابتساماتهم التي لا تفارق محياهم، وكأن من وصل هو شخصية مهمة وليس مجرد سائح عادي كبقية نزلاء المنتجع. بمجرد انتهائي من شرب عصير الضيافة، كانت الغرف جاهزة، والحقائب في طريقها إلى هناك تسبقها باقة ورد كبيرة، وسلة فواكه صيفية، ومزيد من الانحناءات والابتسامات.
من الأشياء الجميلة التي شدَّتني في شيانجماي: تعامل أصحاب وسائل النقل من تاكسيات و"تكاتك" وشركات سياحة...وغيرها؛ فالابتسامة هي أول من يستقبلك وآخر من يودِّعك، والفصال ينتهي في أقل من دقيقة، ولن تجد من يتبعك في (رذالة) كي يُجبرك على الركوب، كما أنَّ بيانات السائق الشخصية مُلصقة بوضوح على وسيلة النقل التي يمتلكها، وبمجرد وصولك للجهة التي تريدها، فإنَّ السائق سرعان ما يترجَّل من مقعده كي يفتح الباب لك، ويقوم بتحميل أغراضك الشخصية بدلاً عنك، ولا يمكن بتاتاً أن تسمع صَوْت بوق، أو نغمة تذمر عند أي ازدحام أو إشارة مرور أو احتكاك بسائق آخر، كالذي أفعله كل صباح عندما تفوتني إشارة جراند مول الخضراء في آخر لحظة وأنا في طريقي إلى العمل، أو عندما تقف صاحبة السيارة التي تسير أمامك فجأة رغم أن الإشارة مازالت خضراء؛ لتكتشف أنها من جنسية آسيوية حديثة العهد بالسياقة، أو أن ثقل الدم من أساسيات الحياة لدى بني جِنْسها. وما زلتُ أذكر سائق التاكسي الذي ظلَّ يعتذر لي طوال الطريق لمجرد أنني اندفعت قليلاً إلى الأمام إثر فرملة استثنائية من قبل السائق. وتأكيداً، ستنسى كلَّ القصص الوهمية التي يُمكن أن تسمعها لدى أي سائق عربي من قبيل ابنته المصابة بسرطان الدم، أو والدته التي تحتاج إلى عملية جراحة عاجلة، ولا بأس ببعض الدموع، بينما المصحف الذي لم يُفتح منذ تاريخ شراء السيارة يتصدر مقدمتها.
شدَّني كذلك فصال الباعة الجميل، وعدم إلحاحهم عليك في الشراء لدرجة الغثيان، أو أن يلاصقوك في كل حركة وسَكَنة. شدَّني أيضاً توسلهم إلى درجة ذرف الدموع أحياناً من أجل الحصول على مبلغ أعلى مُقابل البضاعة التي اشتريتها، لمجرد أنك أنزلت سعرها إلى مستوى يقل عن قيمة التكلفة.
شدَّتني المواعيد المضبوطة بالثانية مع كل اتفاق على القيام بعمل معين؛ كحجز رحلة سياحية، أو الذهاب لزيارة معلم ما، أو الاتفاق مع شخص ما، فلا يوجد (كمان ساعة)، أو (حسب التساهيل)، أو (مسافة السكة)/ أو (الطريق واقف). وأذكر أنني تأخرت لمدة دقيقتين بالضبط عن أحد المواعيد لأكتشف أن باص المنتجع المجاني الذي سيقلني إلى أحد المجمعات التجارية كان قد تحرك لتوِّه.
شدَّني لديهم كذلك استمتاعك بالرحلات السياحية التي تقوم بها؛ فلا يُوجد من يزعجك بشراء هذه البضاعة أو تلك السلعة، ولا يوجد من يلح عليك بركوب هذا الفيل أو تلك العربة، ولا يُوجد كذلك من يجعلك تلعن اليوم الذي قرَّرت فيه زيارة هذا المعلم من خلال ملاحقته لك كظلك من أجل الحصول على أي مبلغ مقابل أي شيء، ولا يوجد كذلك السائق الذي يحرمك من متعة الاستمتاع بيومك من خلال اتفاقه مع الآخرين على ابتزازك. أشياء كهذه قد تجدها في بعض دولنا العربية. أما في شيانجماي، فالأمر نادر إن لم يكن معدوما.
أشياء أخرى كثيرة لفتت انتباهي في تلك المدينة الاستثنائية التي يظلمها كثير من أبناء جلدتي؛ باعتقادهم أنها مدينة صغيرة تنام بعد العشاء، وتحوي بعضاً من الجبال الخضراء، وعدداً من المصانع، وكيف أنهم ينصحون كلَّ من يذهب إليها بألا تطول مدة إقامته عن ليلتين أو ثلاثة بالكثير، بينما هي في الحقيقة تختلف عن ذلك الوصف تماماً بطبيعتها الخلابة التي تتوزع في كل اتجاه بها، وبمجمعاتها التجارية التي تضاهي المجمعات العالمية، وبأسواقها العصرية، وبأشياء كثيرة لا تقل عن أي مدينة عالمية كبيرة زرتها من قبل.
ومن بين هذه الأشياء التي لفتت انتباهي نظافة الشوارع بشكل مذهل يجعلك تشعر بالتوتر وأنت تحمل ورقة مناديل في يدك خوفاً من سقوطها سهواً، وهدوء أهلها الشديد لدرجة تعتقد أنك يمكن أن تقوم بضربهم أو بالصراخ عليهم دون أية ردة فعل من قبلهم سوى الابتسامة ولا شيء غيرها، وكذلك الإخلاص العجيب في كل عمل يقومون به دون أن يطالبوك بالمقابل، فلا بقشيش يطلب، ولا مجاملات سمجة في غير محلها، ولا أشياء من هذا القبيل كالتي في بالي عن بعض الدول العربية.
الشيء الوحيد الذي نغَّص عليَّ متعة الاستمتاع بالمدينة؛ هو: عدم وجود الحروف العربية بلوحات مفاتيح أجهزة مركز الأعمال بالمنتجع؛ مما اضطرني إلى تخمين أماكن الحروف عند الكتابة مستعيناً بخبرتي المتواضعة في ذلك.
أنا في طريقي الآن إلى بانكوك، وأخشى أن أرتكب أسوأ اختيار يُمكن أن يفعله الفرد في بانكوك، ألا وهو الإقامة في شارع العرب
د. محمد بن حمد العريمي
.Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.