الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

الحرافيــش... والهوى شامي


ديسمبر 2006.. في مكتبة الكلية العتيقة  ألتقي بالدكتور نصر. هو زميل سابق لي في الدفعة، تعرفت عليه من خلال (السيمنارات) التي يعقدها القسم كل أحد، ومن خلال رؤيتي المتكررة له في مكتب  رئيس القسم المشرف على رسالتي، وتوطدت بيننا علاقة صداقة طويلة.
- أهلاً يا دكتور.أي رياح طيبة ألقت بك اليوم هنا؟ أين أنت يا رجل.منذ مدة لم أرك. سألت عنك الأحد الماضي فلم يجبني أحد عنك.
- كنت أحضر مناقشة رسالة أحد المعيدين في "المنصورة"، بالمناسبة كنت أريد أن أهاتفك. طالبة سورية تدعى "نوار" تدرس الماجستير في جامعة القاهرة،عنوان رسالتها مشابه لرسالتك،  تشكو من قلة المصادر كون موضوع الدراسة حديث العهد نسبياً. حدثتها عنك وهي ترغب في لقاءك مساء اليوم إن أمكن .اقترحت علي مقهى "الحرافيش " الذي في أول فيصل، كونه قريب من سكنها. ما رأيك ؟ هل أخبرها بموافقتك؟

"الحرافيش".. سمعت عن هذا المقهى من قبل ولكني لم أزره. هي فرصة إذاً لإضافة تجربة جديدة  في سلسلة تجاربي مع مقاهي المحروسة.

أنزل من شقتي الجديدة التي سكنتها مع بداية الفصل في شارع عدن بالمهندسين، متجهاً صوب ناصية شارع السودان القريب، ومنه إلى شارع الملك فيصل مروراً ببولاق الدكرور وكوبري الخشب  وكوبري ثروت وجامعة القاهرة ثم كوبري فيصل فأول فيصل حيث "الحرافيش".

هارباً من أمواج البشر الذين يزخر بهم الشارع، ومن لسعة البرد المصرية المميزة،  أهرول مسرعاً باتجاه المقهى الذي تبدو واجهته المميزة واضحة للعيان على يسار الشارع ، حيث يستقبلك بحديقته الجميلة المرتبة بعناية، وأعمال الحفر الجميل على جدرانه الخارجية، وواجهته الكبيرة الغامقة التي تحمل اسم المقهى باللغة العربية بخط عربي قديم،من ثم تصعد بضعة درجات رخامية كي تصل إلى مدخل الردهة الداخلية التي يعلوها اسم"الحرافيش كورنر" باللغة الانجليزية ، وبالقرب منها وضع تمثال للأديب العالمي نجيب محفوظ.

بمجرد دخولك إلى الجزء الداخلي للمقهى تشعر أنك قد رجعت لعدة قرون إلى الوراء زمن القاهرة الفاطمية أو المملوكية حيث الجمالية والحسين والغورية وخان الخليلي، فكل ركن في المكان يفوح بعبق الماضي وزمن الفن الجميل، من حيث ديكوراته التي تم تصميمها على هيئة القباب، والأرابيسك الذي يزين المقاعد والأبواب، والعمال الذين  يرتدون زياً  أقرب إلى زي العثمانيين والذي يتميز  بالسروال الواسع والقميص الفضفاض ، وحزام الوسط، وطاقية الرأس المميزة، حتى لتكاد تقسم أنك في قصر قديم من قصور "الأستانة"، أو أن صاحب المكان هو فنان أو أديب أو عاشق أكثر من كونه رجل أعمال بالمعنى المعروف.

يحتوي المقهى على عدد من الأركان فهناك ركن لنجيب محفوظ به مكتبة تحتوي على أهم كتب وأعماله، وركن آخر للشاعر بيرم التونسي ، وركن ثالث للأديب يوسف إدريس ومجموعة كتب من إنتاجه الأدبي، ورابع  للكاتب الساخر الراحل محمود السعدني، وهناك ركن الفن الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من الصور الجدارية لعدد من الفنانين والفنانات رسمها الفنان السوري حسن إدلبي، و ركن خاص للعائلات.

على كنبة واسعة في ركن نجيب محفوظ وأسفل جدارية تحمل رسماً لشلة الحرافيش أجلس منتظراً إياها.أتأمل روعة المكان من حولي  معاتباً نفسي كيف تمضي سنة بأكملها دون أن أكتشف مكاناً جميلاً كهذا؟ منك لله يا فيصل. أنت السبب، زحامك القاتل الذي تتقدم فيه السيارات متراً، ثم تتوقف دهراً، وعشوائيتك المقيتة، هو من يجعل البعض يعتقد بأنه لا أماكن جميلة يمكن أن تكون هنا. يقولون إذا أردت أن تعاقب أحدهم فابعثه في مشوار ظهيري إلى فيصل، فهو سيتكفل بتحطيم ما تبقى في داخله من أعصاب.

قائمة الطلبات التي وضعت على الطاولة القريبة غريبة بعض الشيء، ولا تشبه القوائم العادية التي يمكن أن تجدها في أي مقهى آخر ، ففي الغلاف تجد شرحاً لاسم المقهى الذي كان يطلق على الفقراء والبسطاء زمن المماليك، وأطلقت فيما بعد على شلة نجيب محفوظ الأدبية،  والذي اتخذها عنواناً لرواية شهيرة له حولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي، بينما تحوي بقية الصفحات على قائمة الطلبات التي تحمل أسماء روايات نجيب محفوظ، فبدلاً من أن تطلب كوكتيل فواكه معينة يمكن أن تقول للعامل أعطني "بين القصرين" مثلاً، وهذا ما يضيف مزيد من التفرد والخصوصية لهذا المقهى الذي هو أقرب إلى النادي الثقافي منه إلى المقهى العادي.

صوت رجالي أجش يحمل نبرة حزن واضحة يأتي من الركن المجاور حاملاً  مقطعاً من أغنية (في يوم وليلة) لوردة "بقول بأحبك وحبك كان معاده بعيد.. وفيوم وليلة..ليلة جميلة..هلت المواعيد". إذاً بدأت فرقة التخت الشرقي الليلة مبكراً في تقديم وصلتها  الغنائية ذات الطابع الكلاسيكي  القديم، مازلنا في العاشرة مساء وهي عادة لا تبدأ قبل العاشرة والنصف. هل علموا بحضوري فأرادوا أن يحتفوا بذلك؟ أقولها في سري باسماً.
من الردهة القريبة تفاجئني بطلتها. هذا الوجه لا يمكن أن يكون إلا شامياً، ولكن كيف عرفت بوجودي هنا بهذه السرعة؟ هل هي الملامح السمراء التي تميزني كخليجي عن البقية؟ هل لأني الوحيد الذي أجلس بمفردي؟ ربما.
بابتسامة مرتجفة تخاطبني: دكتور محمد مو هيك؟
 نوار .. كنت أحسب أن نزار كان مبالغاً بعض الشيء.
شو بتقول؟ ما فهمت عليك. حضرتك الدكتور محمد صديق الدكتور نصر؟ نعم،  أنا هو . وأنت نوار، أليس كذلك؟
هي شامية حيث الوجه المختلط بياضه بشيء من الحمرة، والوجنة الطرية التي تعتقد أن السماء كانت تمطر قبل ثوان من لحظة اللقاء.هي شامية حيث تختلط حبات الكرز بالتفاح  والمشمش والخوخ بحيث تحتار في الاختيار.
باختصار..هي شامية من اللواتي تجدهن في قصائد نزار، وهذا الوصف بحد ذاته يكفي.قرأت كثيراً عن الشام في شعر نزار ولكني لأول مرة أراه يتجسد أمامي في ملامح فتاة.
تقول معاجم اللغة إن اسم "نوار" يعني (النافرة عن القبيح)، أو الزهرة البرية المتفتحة.. ترى هل هذا هو اسمها الحقيقي أم أطلق عليها فيما بعد؟

على وقع صوت التخت العربي الشرقي ، والموسيقى الهادئة المنبعثة من اسطوانة قريبة، وصوت نوار الخافت بسوريته المميزة دار الحوار الطويل.تحدثنا في كل شيء عدا الدراسة والسياسة، فتاة حموية تدرس التاريخ في بلدتها الصغيرة بريف حماة، أتت في بعثة طويلة الأمد لدراسة الماجستير والدكتوراه، تسكن في (فيصل) لأن معظم الطلبة السوريين يسكنون هنا، كحال اليمنيين في (الدقي)، والسودانيين الجنوبيين في (عين شمس)، وحديث آخر كثير.

قبل الثانية عشر بقليل تستأذنني لأن الوقت أصبح متأخراً واعدة إياي بزيارة قريبة في الكلية كي نتبادل المراجع والدراسات المشتركة.
بينما نوار تغادر المكان أتذكر بيتاً للفرزدق يقول: 
طَرَقَتْ نَوَارُ وَدُونَ مَطْرَقِهَا   جَذْبُ البُرَى لِنَوَاحلٍ صُعْرِ
                                                                                               mh.oraimi@hotmail.com


الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

في زهرة البستــان


الإثنين التاسع عشر من يونيو 2006، يوم قاهري حار زادت البنايات المرتفعة، وعوادم السيارات المتراصة في شوارعها كأعواد الكبريت، والأوضاع السياسية الداخلية من سخونته، بحيث أصبح الخروج فيه نهاراً مغامرة ما لم تكن مرتبطاً بعمل أو موعد مهم.

أجلس في الشقة وحيداً حيث أن أبو سعود كان قد عاد إلى السلطنة . فعلها وسافر قبلي دون أن ينتظر بضعة أيام قادمة كي نعود سويا. يرن هاتفي المحمول حاملاً رقماً منزلياً غريباً لا أعرفه : ألو ، ازيك يا دكتور، أنا تامر بكلمك من نمرة البيت. بقولك ايه، أنا معاي معاد مع صحفي معرفه بيشتغل في صحيفة " القاهرة"، حنتقابل كمان ساعه في "زهرة البستان" اللي في وسط البلد علشان أعرض عليه مسودة ديواني الأول ويشوف ازاي ممكن نطبعه . ايه رايك نتقابل هناك، أكيد عارف المكان، أنا عارفك بتحب الأماكن دي. وراك حاجة؟

تامر صديق مصري كنت قدتعرفت عليه في إحدى الرحلات الطلابية التي نظمتها الكلية إلى الإسماعيلية. يحب تامر عمان كما لم تحب أم وليدها، ويحتفظ لها بكثير من الذكريات الجميلة التي صنعتها سنوات معيشته الطويلة بها منذ سنوات طفولته الأولى وحتى عودته إلى مصر لاستكمال دراسته الجامعية في مجال اللغة العربية.

من أمام بوابة نادي الصيد القريبة من الشقة أستقل تاكسياً حتى ميدان طلعت حرب ، ومنه برجلي إلى شارع صبري أبو علم ، حيث مكان القهوة في شارع البستان الرشيدي المتفرع منه.

المقهى الذي كتب على واجهته (ملتقى الأدباء والفنانين) متواضع في هيئته وديكوراته الداخلية، وهو ينقسم إلى صالة داخلية، ومساحة خارجية تحوي العديد من المناضد والكراسي المتراصة لتسع العديد من رواده، كما يمتاز برخص أسعار مشروباته، وهو الأمر الذي شجع الكثير من الأدباء والصحفيين الشباب على ارتياده إضافة إلى سمعته الأدبية الكبيرة ، وقد برز هذا المقهى الذي تم تأسيسه قبل أكثر من 80 عاماً  كأحد اماكن تجمع المثقفين منذ سبعينيات‏ القرن الماضي،‏ واكتسب شهرته من تجمع العديد من الأسماء اللامعة في الأدب والثقافة والفن بخاصة من الكتاب الشبان الذين ينتهزون فرصة وجود الأدباء الكبار بها حتى يعرضوا أعمالهم الأدبية عليهم.

عند مدخل المقهى يستقبلني الجرسون الشاب مرحباً "أهلاً بالباشا.اتفضل . تحب تعد (تقعد) فين".    يا لمصطلح الباشا الذي يلاحقني في كل مكان . مره باشا، وتارة مهندس، وأحياناً برنس. ألا يعلم هؤلاء القوم أنني لست مهندساً ولا أميراً؟ ألم يخبرهم أحد أن كلمة باشا تعني " الحذاء"؟ أتذكر قصة رواها الرائع حمدي عبد الرحيم في كتابه (فيصل – تحرير)أن أخوه الحاج وأحد أصدقائه من الدكاترة كانا يصليان العشاء في مسجد الحسين، وشاهدا أحد المصلين يسقط في غيبوبة، فقال الحاج للمصلين: معنا دكتور، تقدم يا دكتور فلان. أحد المصلين صاح: والنبي تقيس له الضغط يا باشمهندس.

على أحد المقاعد الخارجية أختار مكاني الذي يسمح لي بحرية تأمل المكان. هاهي زهرة البستان أخيراً. هنا كتب أحمد عبد المعطي حجازي مسودات قصائده، وفيها تجمع المريدون حول قامات أدبية كبيرة كخيري شلبي وعلاء الاسواني وابراهيم أصلان ، وهنا غردت بجعة مكاوي سعيد(1)، ومن هنا انطلق في رحلة جمعه لمقتنيات وسط البلد، ومن اسمها استلهم الكاتب خالد اسماعيل عنوان روايته التي تدور أحداثها حول عادل إبراهيم الذي يترك بلده سوهاج في الجنوب ويرحل إلى العاصمة مصطحباً معه ذكريات أليمة متفرقة ، فقرر أن يجوب عوالم القاهرة المتشابكة منقبا داخلها عن خلاصه، وهو الاعتراف بموهبته في الكتابة بالتماس كل دروبها واقتفاء آثار قاماته ، وأصبح اعتراف أدباء "زهرة البستان" به هو الحلم الكبير الذي يطارده في  صحوه ومنامه.

منتظراً قدوم تامر، أتسلى بقراءة الصحف التي كنت قد اشتريتها في طريقي إلى المقهى، خبر إعدام "امبراطور الدخيلة" (2) يتصدر العناوين الرئيسة لها، خبر آخر يشير إلى أن لجنة السياسات بالحزب الوطني (3) يبحث تنفيذ برنامج مبارك للرعاية الصحية المتضمن تأمين صحي لكل المواطنين، وتطوير مستشفيات الدولة خلال ‏5‏ سنوات. تقرير يتحدث عن واقعة الاعتداء على الناشطين السياسيين محمد الشرقاوي وكريم الشاعر أعضاء  ( حركة كفاية )، في الصفحات الرياضية أقرأ خبراً مثيراً عن واقعة رفع الحذاء خلال المباراة النهائية لمسابقة كأس مصر وبحضور مندوب رئيس الجمهورية ،والتي كان بطلها كالعادة المستشار مرتضى منصور(4). ما زلت أتذكر صرخة أحدهم على شاشة دريم "هو مرتضى منصور ابن مين في البلد دي".

يأتي تامر أخيراً كي ينقذني من الصحافة وأخبارها السوداء. لا يمكن أن تجد بها شيئاً يفتح النفس . المصائب وحدها هي من تجد مكانها للنشر. سيفرح هذا الشعب الصابر يوماً ما. لدي إحساس بذلك. قد يطول الموعد أو يقصر، ولكنه حتماً سيأتي. تفضل يا تامر، لقد سبقتك في الوصول، ولكن أين صاحبك، متى سيأت؟

بنظرة واجمه يرد علي: منه لله. يمشورني من المطرية لحد هنا وفي الآخر يقوللي انه مش حيقدر ييجي علشان خطيبته اتصلت بيه ييجي يشوف طقم السفرة التي اشترتها أمها. بالذمة ده كلام؟

في محاولة مني لتهدئته، أبدي إعجابي بقصائده التي سبق وأن أهداني اياها مادحاً أسلوبه الشعري، وخياله المتدفق، متنبئاً له بمستقبل شعري باهر عما قريب، وطالباً منه أن يلقي علي بعضاً من قصائده الأخرى ، فمادمنا في زهرة البستان فلابد للشعر والإبداع أن يتجلي.

وكأنه لم يصدق خبراً، ينطلق تامر في إلقاء قصائده التي لم يوقف انهمار أبياتها سوى صوت الجرسون مذكراً إياي بغضب أن الباشا لم يطلب شيئاً حتى الآن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كاتب وروائي  وسيناريت مصري بدأ بكتابة الشعر في بداياته ثم انتقل إلى كتابة القصة القصيرة ثم الرواية الطويلة . من أعماله: الركض وراء الضوء، فئران السفينة، تغريدة البجعة، مقتنيات وسط البلد.

(2) عزت حنفي. تاجر اسلحه ومخدارات،  استولى على 280 فدان في جزيرة النخيلة لتابعة لمحافظة اسيوط ، وزرع عشرات الأفدنة بالمخدرات، وبعد عملية اقتحام كبيرة شنتها الشرطة على الجزيرة تم القبض عليه في 1 مارس 2004.

(3) ثلاثون عاماً والحزب الوطني (يبحث) تطوير التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والقضاء على البيروقراطية والفساد...الخ. حادثة غرق العبارة (السلام)، وانهيار صخرة (الدويقة)، وارتفاع معدلات الإصابة بفيروس الالتهاب الكبدي والسرطان، والهجرة غير الشرعية، وتزوير الانتخابات، وتركز الثروة والسلطة بيد حفنة من المنتفعين  جميعها من ضمن نتائج هذا (البحث).

(4) قاضي سابق ومحامي شهير حالياً، ارتبط اسمه بالكثير من القضايا المثيرة للجدل في مصر، يعد ضيفاً دائماً لعشرات البرنامج الفضائية الحوارية . أطلق النظام السابق سراح لسانه تجاه رموز المعارضة المحترمة مقابل حمايته وعدم التعرض له.

الثلاثاء، 9 أكتوبر 2012

على شــط الهوى


مارس 2006.الربيع يطل برياحه الخماسينية المزعجة وغباره الخانق.كنت قد انتقلت للإقامة مع أبو سعود (1) في شقته المطلة على نادي الصيد في شارع محيي الدين أبو العز بالمهندسين.

كنا في أيام إجازة، وكنا قد اتفقنا مع الشغالة أم علي (2) على أن تحضر بعضاً من الحمام والبط من قريتها الصغيرة الواقعة في "شبين القناطر" ، ولكن يا فرحة ما تمت، فلقد أعلنت الحكومة المصرية عن قرار بمنع بيع الدواجن بمختلف أشكالها بسبب انتشار مرض"أنفلونزا الطيور"، وقامت بعدها بالقضاء على كل أكشاك تربية الدواجن في كافة أنحاء المحروسة.
والحل يا أبا أمير؟ يسألني أبو سعود.

لا حل سوى الإسكندرية. تغسل شيئاً من هموم غربتنا، وتنعش أرواحنا التي أنهكها ضجيج القاهرة وزحام المهندسين، ونجد في سمكها ما يعزينا عن وجبة البط والحمام التي ذهبت أدراج الرياح مع قرار الحكومة الغريب . خالد (3) مسافر ولدي نسخة من مفتاح شقته. فلنشد الرحال إليها.

نستقل القطار الإسباني الذي يتيح لنا فرصة مشاهدة الوجه الآخر الجميل للمحروسة . الريف المصري بكل تجلياته التي تشكل لوحة جميلة قد يعجز (فان جوخ)، و(رامبرانت)، و(بيكاسو) عن وصفها مهما حاولوا ذلك.

 في محطة مصر نلقي برحالنا. تستقبلنا الإسكندرية كعادتها مع الغرباء. كم أعشق ثغر مصر الباسم وأفضلها على أية بقعة أخرى في مصر، وكم من مرة نزلت في (بنسيوناتها) العتيقة، مستمتعاً بكوب شاي صباحي مع طبق فول مدمس على شرفة تطل على معالمها الشهيرة ، أو (بقزقزة) اللب الأبيض المطروحي الشهير بينما أتصفح مجلة قديمة اشتريتها من شارع النبي دانيال  حيث النسخة الإسكندرانية من سور الأزبكية الشهير. هي الإسكندرية التي قال عنها الأديب اليوناني الشهير (كفافيس) يوماً: "لن تجد أرضاً جديدة ولا بحراً جديداً..ستلاحقك هذه المدينة دوماً. ستسكن في نفس الشوارع، ويشيب شعر رأسك في نفس المنازل. سوف تنتهي هنا دائماً. إنس أي مكان آخر، فأنت لا تملك سفينة ولا طريق". كفافيس نفسه عاش لفترة من الزمن في الإسكندرية، وتحول بيته إلى متحف في شارع متفرع من شارع النبي دانيال .

 أقترح على أبو سعود أن نتمشى برجلنا  حتى محطة الرمل. المكان قريب، والجو منعش ويساعد على المشي، وهي فرصة لتخفيف شيء من كتل الشحم المتراكمة على أجسادنا. أقولها مازحاً.

نصل إلى محطة الرمل حيث قلب الإسكندرية النابض. كرنفال مدهش من البشر والكل يبحث عن ضالته. المثقف الذي ينقب عن أحدث الكتب والمطبوعات، والموظف الذاهب إلى عمله في هذا الحي التجاري الناشط، والسائح الراغب في تمضية وقت لطيف في أحد المقاهي أو المطاعم المنتشرة في كل ركن من أركان المكان.

أمارس دور الدليل السياحي، أنظر حولك يا أبا سعود .هذا فندق «سيسيل» بشرفاته الأنيقة وطرازه الفلورنسي، وهذا هو (الترام) الإسكندراني بلونه الأصفر المميز، وهنا مواقف عربات الحنطور الفولكلورية،وهذه سينما (راديو)، وتلك سينما (رويال)، وهناك على بعد مسرح محمد عبد الوهاب ومسرح شهرزاد . ذاك تمثال الزعيم سعد زغلول يطل من بعيد، مبنى الغرفة التجارية، فندق «متروبول» العتيق، مقاهي"تريانون" و"ديليس"، و"البن البرازيلي"، «عمر أفندي» و«شيكوريل». مكتبتي «دار المعارف»، و«جارو»، مسجد القائد إبراهيم .

نصل إلى شارع صفية زغلول القريب من الميدان . يطلب مني أبو سعود أن نتوقف قليلاً لأخذ قسط من الراحة فهو لم يتعود على قطع كل تلك المسافة التي مشيناها. أوافقه الرأي ونتفق على دخول أحد المقاهي القريبة. يعشق أبو سعود المقاهي مثلي، ويجد راحته فيها خاصة مع كوب (الكابتشينو) الذي يعشقه بشغف.

أقدامنا تسوقنا حيث مقهى «إيليت». يعد المقهى  أحد أشهر مقاهي الجالية اليونانية . العبق اليوناني مازال حاضراً في المدينة، تلمح ذلك في الأسماء المحفورة على واجهات المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي ، وكأن الرابط الأبدي بين مدينة الإسكندر المقدوني وبين الحضارة اليونانية أبى أن ينقطع.

يتميز "ايليت" بكونه  متحفاً فنياً وثقافياً، أكثر من كونه مجرد مطعم أو مقهى ، ويغريك مظهره الجميل الذي يشبه الكوخ الكبير ذو النوافذ الزجاجية الواسعة بالرغبة في دخوله، وتزين جدرانه مجموعة من اللوحات لأشهر الفنانين،  لذا يعده أهل الإسكندرية من الآثار الثقافية التي تدل على عظمة المدينة وتاريخها العريق.

بزيه الأنيق وابتسامته التي تسبق حضوره يأتينا الجرسون المهذب كي يأخذ طلباتنا. كالعادة يطلب حمد كوباً من (الكابتشينو) مع قليل من السكر، وقطعة من الجاتوه، أطلب لنفسي (هوت سيدر) وهو مزيج من عصير التفاح الساخن مع قطع من أعواد القرفة. يدعوني أبو سعود لمشاركته الجاتوه فأعتذر. نحن في الإسكندرية يا أبا سعود وحلاوة الروح الاسكندرانية تنسيك كل شيء جميل آخر.
يعبث أبو سعود في هاتفه المحمول فتنبعث منه أغنية الرائعة فيروز "شط اسكندرية يا شط الهوى.. رحنا إسكندرية رمانا الهوى. يا دنيا هنية وليالي رضية.. أحملها بعينيه "(4). أبو سعود عاشق قديم لفيروز ويرى في صوتها نقاءاً يشبه نقاء شخصيته الجميلة. كفى يا صديقي ، أترك أرواحنا المعذبة في حال سبيلها، ولا تفتح الأبواب المغلقة، فأغنيتك كفيلة بإثارة كثير من الشجن المؤلم.

يحدثني حمد عن الشباب الذين يجلسون معه كل مرة ويتهربون من دفع الحساب بحجج واهية وكأنهم يمارسون لعبة الاستغفال.هم لا يستغفلونك ولكنهم يستغلون كرمك وطيبتك يا أبا سعود. أشك أنك لم تكن لتسمح لهم بدفعه مهما حاولوا ذلك . نفس الشيء كان يفعله الصحفي والأديب الكبير كامل الشناوي في جلسته الشهيرة في كافتيريا "داي أند نايت" في فندق سميراميس القديم.ملامحكم الجسدية تتقارب فهل هي أرواحكم كذلك؟ أقولها في سري.

بلهجته الصورية المحببة يقول لي : حمـــود.تفتكر ممكن تتحول صور في يوم من الأيام إلى إسكندرية صغيرة؟ عندنا كل شيء. بحر وحارات قديمة وأسواق شعبية وتاريخ وشعب طيب يرحب بالغريب. هيش اللي ناقصنا؟
متجاهلاً عبارته، أقوم من مقعدي ساحباً يده : ألم تقل لي إنك تريد أن تتناول وجبة اسكندرانية شهية؟ هيا بنا "فشعبان بتاع السمك اللي بيقولوا عليه" لن ينتظرنا طويلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حمد بن علي بهوان. يقال في الأساطير القديمة أن الطيبة والبراءة والشهامة اجتمعن وقررن أن يمكثن في جسده للأبد .
(2) من ضحايا العهد المباركي. تبدو في السبعين، بينما عمرها الحقيقي لا يتجاوز منتصف الأربعينات،.قلت لها ذات مرة لو قدر للبعض أن يدخل الجنة بدون حساب فستكونين منهم.
 (3) خالد الخروصي: تعرفت عليه لأول مرة في السفينة الفرعونية واكتشفت بعدها أننا نحمل ذات الجينات التي تجعلنا نمارس نفس العادات . شهدت شوارع الإسكندرية كثيراً من غزواتنا الثقافية المشتركة.
(4) غنتها لي فتاة فلسطينية مغتربة على شاطئ غزة ذات ليلة قمرية  جميلة. وقتها تمنيت لو زرتها.

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

"في حضرة السـت"


يناير 2006 ، أخرج من شقتي الكائنة في شارع جهينة بالدقي باتجاه مترو الأنفاق القريب من المكان.وجهتي هي وسط البلد وبالتحديد ميدان "أحمد عرابي" . كم أعشق هذا المكان الذي تجد في معالمه بعضاً من الروح المصرية الصميمة المفقودة، حيث "الفسحة" المجانية، والأكل المصري الصميم، والجلسات التي "ترد الروح"، والضحكات المصرية البريئة الممزوجة بسباب يمس الدين.
من محل حلويات"الفاليرو " الكائن في مدخل الميدان أشتري طبقاً من "الرز باللبن"، لأتوجه بعدها إلى "حواوشي شلبي" في شارع "سراي الأزبكية" المتفرع من الميدان . بشهادتي لن تجد أفضل من "شلبي" كي تأكل طبق حواوشي معتبر.

ما يميز "سراي الأزبكية" هو كثرة مقاهيه ومطاعمه المتخصصة في إعداد وجبات بعينها، فهذا متخصص في المخ، وذاك في الكبدة والكلاوي، والثالث في الكوارع، وغيره في لحمة الرأس، وهكذا. كما أن مقاهيه ممتدة بامتداد الشارع. كيف لا وهو يقع وسط شوارع مهمة لها تاريخ كعماد الدين و26 يوليو.

وسط جلبة المارة، وأصوات الباعة الجائلين وضحكات رواد المقاهي المتناثرة يأتيني صوت "الست" من بعيد تشدو بكلمات بيرم التونسي : "هو صحيح الهوى غلاب  ما عرفش أنا..والهجر قالوا مرار وعذاب واليوم بسنة..جاني الهوى من غير مواعيد وكل مادا حلاوته تزيد" فأعرف أنني اقتربت من مقهاها الشهير الكائن في منتصف الشارع.

في مدخل المقهى تستقبلك لوحة رخامية مكتوب عليها "كافتيريا أم كلثوم تأسست عام 1948"، ولوحة مسجل عليها تاريخ أم كلثوم وأشهر أغانيها والمحطات المهمة في حياتها، وثمثال جرانيتي نصفي لها .

أدخل المقهى حاملاً كالعادة جرائدي التي ابتعتها قبل قليل من صاحب فرشة قريبة كعادة لا تفارقني عند ذهابي إلى أي مقهى قاهري. أختار طاولة قريبة من ركن المحاسبة ربما لأني اعتقدت أنها ستكون أكثر دفئاً وراحة مع برد القاهرة القارس. هذه المرة طلبت كوباً من "السحلب " الساخن مع المكسرات. أوصاني أحدهم بذلك لشهرة المقهى في تقديمه.

المقهى متسع من الداخل، وهو عبارة عن متحف مصغر لكوكب الشرق، حيث تزين حوائطه عشرات الصور الكبيرة لأم كلثوم مع كبار السياسيين والفنانين ورجال المجتمع، ولوحة جدارية لها وهي تمسك بمنديلها الأبيض،مع بعض صور لمقالات صحفية عنها، كما تتناثر على جنباته بعض اللوحات النحاسية الكبيرة التي زينت بنقوش رائعة وبارزة لصورها،  وبعض الآلات الوترية المعلقة ، وهناك عدد من الصناديق الزجاجية تحوي مناديل أم كلثوم في عدد من الأغاني، ونظارتها الشهيرة.ويتوسط المقهى رأس منحوت للسيدة مصنوع من الجرانيت، وتماثيل نصفية لمحمد علي باشا وإسماعيل باشا مؤسسي مصر الحديثة ، وكأن صاحبه يريد أن يقول إن "الست لا تقل أهمية عنهم كرمز من رموز مصر الحديثة.

طاقم المقهى يلبس زياً أحمر اللون يشبه لون النادي الأهلي ، وهناك بعض الأعلام الصغيرة التي تحمل شعار المقهى وتشبه إلى حد كبير شعار هذا النادي العريق قد علقت هنا وهناك.هل هو اعتقاد المصري بوجود عامل مشترك بين الاثنين في التخفيف من الأزمات التي يعانيها المصريين من حين لآخر؟ ربما.

رواد المقهى خليط من عدة جنسيات، يبدو أن شهرة المقهى قد وصلت آفاقاً بعيدة، بالقرب مني تجلس عجوز أوروبية لا أستطيع تحديد جنسيتها تشرب الأرجيلة بينما يقوم زوجها بالتقاط صورة لها مع ابتسامات متبادلة بينهما، وفي الركن المقابل عائلة كويتية تتجمع في طاولتين ضمتا لبعض.ثمة شاب وفتاة يبدو من حوارهما الهامس وأياديهما المتشابكة، وضحكاتهما الهادئة وهما يطالعان ألبوم الصور في "موبايل" أحدهما أنهما في المرحلة الأولى من عملية قاسية متعددة المراحل تدعى "الحب".  أين سيجد هؤلاء مكاناً أفضل كي يعيشوا لحظات جميلة كهذه سرعان ما ستتبدد تحت وطأة أسباب عديدة قد تكون معنوية كالملل، أو البرود العاطفي، أو الخرس الزوجي، أو مادية كعدم القدرة على توفير الشقة المناسبة، أو القريب الميسور الذي يعمل في الخليج، أو زميل الدراسة المقتدر، وقد يحل محل تسبيل العيون، وأبيات الشعر الرومانسية، وأحلام المستقبل المشترك الجميل كلمات مثل : "خلينا أخوات"، أو "إحنا مكتوب علينا منكونش لبعض"، وهي عبارات قد يلجأ بعض الشباب المصري إلى الموت غرقاً في عبارة صدئة، أو التعرض لعصابات المخدرات وقطاع الطرق في جمهوريات الموز من أجل ألا يتعرضوا لموقف شبيه.


أتصفح صحفي القليلة التي أحضرتها.لم أشتر هذه المرة سوى "الفجر" و"صوت الأمة". "الفجر" تعيد نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول الكريم والتي نشرتها صحيفة "يولاندس بوستن" الدانماركية، وأعادت نشرها عدد من الصحف الأوروبية كتحد جديد لمشاعر المسلمين. لماذا يا عادل حموده. صحفي شاطر أنت و"جورنالجي" محترف. فقط لو تكف عن اعتماد الإثارة الصحفية كمنهج تتبعه في كل الصحف التي تعمل بها.

الأغنية والبرد القاهري المميز الذي سأعشقه فيما بعد  ذكراني بقصة طريفة لبيرم عندما كان منفياً في باريس إثر معارضته للملك فؤاد. كان بيرم يعتمد في معيشته على ما ترسله له إحدى الصحف من مبلغ زهيد مقابل كتابة بعض الأشعار والزجل والمقالات، وفي إحدى المرات تأخرت الحوالة  وتأخرت مها النقود، فلم يجد بيرم في إحدى ليالي شتاء باريس سوى بصلة اضطر إلى إحراق جميع الكتب والرسائل النادرة التي في حوزته كي يتمكن من شيها.

يأتي "السحلب" وتأتي معه الهموم، فتاة مصرية تجاوزت العشرين بقليل تقترب مني حاملة شنطة مهترئة تحوي بعض العطور التي أعادت هي خلطها وإعادة تعبئتها بألوان مختلفة. أسأل الفتاة عن قيمة كل عطر فتحاول جاهدة أن تقنعني بأن أسعارها رخيصة وبأنها ستمنحني خصماً جيداً. بدون تردد أدفع لها قيمة خمسة عطور تقبلتها شاكرة مع رغبة في بكاء. أعلم أنني لن أستخدم تلك العطور، ولكن نظرات الاستجداء التي رأيتها في عينيها وتألمي من اضطرارها لهذا العمل هو من جعلني أتعاطف معها وأحاول مساعدتها. أليس من الأولى أن تكون هذه الفتاة الآن في بيتها تستعد لمحاضرات الغد، وتساعد أمها في إعداد وجبة العشاء، وتتبادل مزحة بريئة مع صديقة مقربة في التلفون، بدلاً من هذه "البهدلة" التي تذهب بكثير من رحيق عمرها. لماذا أيتها المحروسة تفعلين هكذا في زهرة شبابك؟

الموقف السابق جعلني أفقد الرغبة في إكمال الشرب أو القراءة، أترك الحساب أسفل الكوب الذي تبقى نصفه تاركاً معهما جرائدي، عائداً لاستكمال تسكعي في الشوارع القريبة ومراقبة حياة من فيها من البشر، بينما صوت أم كلثوم يأتي خافتاً على وقع كلمات رامي:

هَمَّانِ أحمِلُ وَاحِدًا في أَضْلُعِي           فَأُطِيقُـهُ بِتَجَـلُّدِي وَأَنَـاتِي
وَأُغَالِبُ الثَّـانِي وََمَـا لىَ حِيـلَة             بَعْدَ الَّذِي أَرْسَلْتُ مِنْ عَبرَاتِي