الإثنين التاسع عشر من يونيو 2006، يوم قاهري حار زادت البنايات
المرتفعة، وعوادم السيارات المتراصة في شوارعها كأعواد الكبريت، والأوضاع السياسية الداخلية من سخونته، بحيث أصبح الخروج فيه نهاراً مغامرة ما لم تكن مرتبطاً بعمل أو موعد مهم.
أجلس في الشقة وحيداً حيث أن أبو سعود كان قد عاد إلى السلطنة . فعلها وسافر قبلي دون أن ينتظر بضعة أيام قادمة كي نعود سويا. يرن هاتفي
المحمول حاملاً رقماً منزلياً غريباً لا أعرفه : ألو ، ازيك يا دكتور، أنا تامر بكلمك من نمرة البيت. بقولك ايه، أنا معاي معاد
مع صحفي معرفه بيشتغل في صحيفة " القاهرة"، حنتقابل كمان ساعه في "زهرة
البستان" اللي في وسط البلد علشان أعرض عليه مسودة ديواني الأول ويشوف ازاي ممكن
نطبعه . ايه رايك نتقابل هناك، أكيد عارف المكان، أنا عارفك بتحب الأماكن دي. وراك حاجة؟
تامر صديق مصري كنت قدتعرفت عليه في إحدى الرحلات الطلابية التي
نظمتها الكلية إلى الإسماعيلية. يحب تامر عمان كما لم تحب أم وليدها، ويحتفظ لها بكثير من الذكريات الجميلة
التي صنعتها سنوات معيشته الطويلة بها منذ سنوات طفولته الأولى وحتى عودته إلى مصر
لاستكمال دراسته الجامعية في مجال اللغة العربية.
من أمام بوابة نادي الصيد القريبة من الشقة أستقل تاكسياً حتى ميدان
طلعت حرب ، ومنه برجلي إلى شارع صبري أبو علم ، حيث مكان
القهوة في شارع البستان الرشيدي المتفرع منه.
المقهى
الذي كتب على واجهته (ملتقى الأدباء والفنانين) متواضع في هيئته وديكوراته الداخلية،
وهو ينقسم إلى صالة داخلية، ومساحة خارجية تحوي العديد من المناضد والكراسي المتراصة
لتسع العديد من رواده، كما يمتاز برخص
أسعار مشروباته، وهو الأمر الذي شجع الكثير من الأدباء والصحفيين الشباب على ارتياده
إضافة إلى سمعته الأدبية الكبيرة ، وقد برز
هذا المقهى الذي تم تأسيسه قبل أكثر من 80 عاماً كأحد اماكن تجمع المثقفين منذ سبعينيات القرن الماضي،
واكتسب شهرته من تجمع العديد من الأسماء اللامعة في الأدب والثقافة والفن بخاصة من
الكتاب الشبان الذين ينتهزون فرصة وجود الأدباء الكبار بها حتى يعرضوا أعمالهم الأدبية
عليهم.
عند مدخل المقهى يستقبلني الجرسون الشاب
مرحباً "أهلاً بالباشا.اتفضل . تحب تعد (تقعد) فين". يا لمصطلح الباشا الذي يلاحقني في
كل مكان . مره باشا، وتارة مهندس، وأحياناً برنس. ألا يعلم هؤلاء القوم أنني لست مهندساً
ولا أميراً؟ ألم يخبرهم أحد أن كلمة باشا تعني " الحذاء"؟ أتذكر قصة رواها
الرائع حمدي عبد الرحيم في كتابه (فيصل – تحرير)أن أخوه الحاج وأحد أصدقائه من الدكاترة
كانا يصليان العشاء في مسجد الحسين، وشاهدا أحد المصلين يسقط في غيبوبة، فقال الحاج
للمصلين: معنا دكتور، تقدم يا دكتور فلان. أحد المصلين صاح: والنبي تقيس له الضغط يا
باشمهندس.
على أحد المقاعد الخارجية أختار مكاني الذي يسمح لي بحرية تأمل المكان.
هاهي زهرة البستان أخيراً. هنا كتب أحمد عبد المعطي حجازي مسودات قصائده، وفيها تجمع
المريدون حول قامات أدبية كبيرة كخيري شلبي وعلاء الاسواني وابراهيم أصلان ، وهنا غردت
بجعة مكاوي سعيد(1)، ومن هنا انطلق في رحلة جمعه لمقتنيات وسط البلد، ومن اسمها استلهم
الكاتب خالد اسماعيل عنوان روايته التي تدور أحداثها حول عادل إبراهيم الذي يترك
بلده سوهاج في الجنوب ويرحل إلى العاصمة مصطحباً معه ذكريات أليمة متفرقة ، فقرر أن يجوب عوالم القاهرة
المتشابكة منقبا داخلها عن خلاصه، وهو الاعتراف بموهبته في الكتابة بالتماس كل
دروبها واقتفاء آثار قاماته ، وأصبح اعتراف أدباء "زهرة البستان" به هو
الحلم الكبير الذي يطارده في صحوه ومنامه.
منتظراً قدوم تامر، أتسلى بقراءة الصحف التي كنت قد اشتريتها في
طريقي إلى المقهى، خبر إعدام "امبراطور الدخيلة" (2) يتصدر العناوين
الرئيسة لها، خبر آخر يشير إلى أن لجنة السياسات بالحزب الوطني (3) يبحث تنفيذ
برنامج مبارك للرعاية الصحية المتضمن تأمين صحي لكل المواطنين، وتطوير مستشفيات الدولة
خلال 5 سنوات. تقرير يتحدث عن واقعة الاعتداء على الناشطين السياسيين محمد الشرقاوي
وكريم الشاعر أعضاء ( حركة كفاية )، في الصفحات
الرياضية أقرأ خبراً مثيراً عن واقعة رفع الحذاء خلال المباراة النهائية لمسابقة كأس
مصر وبحضور مندوب رئيس الجمهورية ،والتي كان بطلها كالعادة المستشار مرتضى منصور(4). ما زلت
أتذكر صرخة أحدهم على شاشة دريم "هو مرتضى منصور ابن مين في البلد دي".
يأتي تامر أخيراً كي ينقذني من الصحافة وأخبارها السوداء. لا يمكن
أن تجد بها شيئاً يفتح النفس . المصائب وحدها هي من تجد مكانها للنشر. سيفرح هذا الشعب
الصابر يوماً ما. لدي إحساس بذلك. قد يطول الموعد أو يقصر، ولكنه حتماً سيأتي. تفضل
يا تامر، لقد سبقتك في الوصول، ولكن أين صاحبك، متى سيأت؟
بنظرة واجمه يرد علي: منه لله. يمشورني من المطرية لحد هنا وفي الآخر
يقوللي انه مش حيقدر ييجي علشان خطيبته اتصلت بيه ييجي يشوف طقم السفرة التي اشترتها
أمها. بالذمة ده كلام؟
في محاولة مني لتهدئته، أبدي إعجابي بقصائده التي سبق وأن أهداني
اياها مادحاً أسلوبه الشعري، وخياله المتدفق، متنبئاً له بمستقبل شعري باهر عما قريب،
وطالباً منه أن يلقي علي بعضاً من قصائده الأخرى ، فمادمنا في زهرة البستان فلابد للشعر والإبداع أن يتجلي.
وكأنه لم يصدق خبراً، ينطلق
تامر في إلقاء قصائده التي لم يوقف انهمار أبياتها سوى صوت الجرسون مذكراً إياي بغضب أن الباشا لم يطلب شيئاً حتى الآن .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كاتب وروائي وسيناريت
مصري بدأ بكتابة الشعر في بداياته ثم انتقل إلى كتابة القصة القصيرة ثم الرواية
الطويلة . من أعماله: الركض وراء
الضوء، فئران السفينة، تغريدة البجعة، مقتنيات
وسط البلد.
(2) عزت حنفي. تاجر اسلحه ومخدارات، استولى على 280 فدان في جزيرة النخيلة لتابعة لمحافظة
اسيوط ، وزرع عشرات الأفدنة بالمخدرات، وبعد عملية اقتحام كبيرة شنتها الشرطة على الجزيرة
تم القبض عليه في 1 مارس 2004.
(3) ثلاثون عاماً والحزب الوطني
(يبحث) تطوير التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والقضاء على البيروقراطية والفساد...الخ.
حادثة غرق العبارة (السلام)، وانهيار صخرة (الدويقة)، وارتفاع معدلات الإصابة بفيروس
الالتهاب الكبدي والسرطان، والهجرة غير الشرعية، وتزوير الانتخابات، وتركز الثروة والسلطة
بيد حفنة من المنتفعين جميعها من ضمن نتائج
هذا (البحث).
(4) قاضي سابق ومحامي شهير حالياً،
ارتبط اسمه بالكثير من القضايا المثيرة للجدل في مصر، يعد ضيفاً دائماً لعشرات البرنامج
الفضائية الحوارية . أطلق النظام السابق سراح لسانه تجاه رموز المعارضة المحترمة مقابل
حمايته وعدم التعرض له.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.