مارس 2006.الربيع يطل برياحه الخماسينية المزعجة وغباره
الخانق.كنت قد انتقلت للإقامة مع أبو سعود (1) في شقته المطلة على نادي الصيد في
شارع محيي الدين أبو العز بالمهندسين.
كنا في أيام إجازة، وكنا قد اتفقنا مع الشغالة أم علي
(2) على أن تحضر بعضاً من الحمام والبط من قريتها الصغيرة الواقعة في "شبين
القناطر" ، ولكن يا فرحة ما تمت، فلقد أعلنت الحكومة المصرية عن قرار بمنع
بيع الدواجن بمختلف أشكالها بسبب انتشار مرض"أنفلونزا الطيور"، وقامت
بعدها بالقضاء على كل أكشاك تربية الدواجن في كافة أنحاء المحروسة.
والحل يا أبا أمير؟ يسألني أبو سعود.
لا حل سوى الإسكندرية. تغسل شيئاً من هموم غربتنا، وتنعش
أرواحنا التي أنهكها ضجيج القاهرة وزحام المهندسين، ونجد في سمكها ما يعزينا عن
وجبة البط والحمام التي ذهبت أدراج الرياح مع قرار الحكومة الغريب . خالد (3)
مسافر ولدي نسخة من مفتاح شقته. فلنشد الرحال إليها.
نستقل القطار الإسباني الذي يتيح لنا فرصة مشاهدة الوجه
الآخر الجميل للمحروسة . الريف المصري بكل تجلياته التي تشكل لوحة جميلة قد يعجز
(فان جوخ)، و(رامبرانت)، و(بيكاسو) عن وصفها مهما حاولوا ذلك.
في محطة مصر
نلقي برحالنا. تستقبلنا الإسكندرية كعادتها مع الغرباء. كم أعشق ثغر مصر الباسم
وأفضلها على أية بقعة أخرى في مصر، وكم من مرة نزلت في (بنسيوناتها) العتيقة،
مستمتعاً بكوب شاي صباحي مع طبق فول مدمس على شرفة تطل على معالمها الشهيرة ، أو
(بقزقزة) اللب الأبيض المطروحي الشهير بينما أتصفح مجلة قديمة اشتريتها من شارع
النبي دانيال حيث النسخة الإسكندرانية من
سور الأزبكية الشهير. هي الإسكندرية التي قال عنها الأديب اليوناني الشهير
(كفافيس) يوماً: "لن تجد أرضاً جديدة ولا بحراً جديداً..ستلاحقك هذه المدينة دوماً. ستسكن في نفس الشوارع، ويشيب
شعر رأسك في نفس المنازل. سوف تنتهي هنا دائماً. إنس أي مكان آخر، فأنت لا تملك
سفينة ولا طريق". كفافيس نفسه عاش
لفترة من الزمن في الإسكندرية، وتحول بيته إلى متحف في شارع متفرع من شارع النبي
دانيال .
أقترح على أبو
سعود أن نتمشى برجلنا حتى محطة الرمل.
المكان قريب،
والجو منعش ويساعد على المشي، وهي فرصة لتخفيف شيء من كتل الشحم المتراكمة على
أجسادنا. أقولها مازحاً.
نصل
إلى محطة الرمل حيث قلب الإسكندرية النابض. كرنفال مدهش من البشر والكل يبحث عن
ضالته. المثقف الذي ينقب عن أحدث الكتب والمطبوعات، والموظف الذاهب إلى عمله في
هذا الحي التجاري الناشط، والسائح الراغب في تمضية وقت لطيف في أحد المقاهي أو
المطاعم المنتشرة في كل ركن من أركان المكان.
أمارس دور الدليل السياحي، أنظر حولك يا أبا سعود .هذا فندق
«سيسيل» بشرفاته الأنيقة وطرازه الفلورنسي، وهذا هو (الترام) الإسكندراني بلونه
الأصفر المميز، وهنا مواقف عربات الحنطور الفولكلورية،وهذه سينما (راديو)، وتلك سينما
(رويال)، وهناك على بعد مسرح محمد عبد الوهاب ومسرح شهرزاد . ذاك تمثال الزعيم سعد
زغلول يطل من بعيد، مبنى الغرفة التجارية، فندق «متروبول» العتيق، مقاهي"تريانون"
و"ديليس"، و"البن البرازيلي"، «عمر أفندي» و«شيكوريل». مكتبتي
«دار المعارف»، و«جارو»، مسجد القائد إبراهيم .
نصل إلى
شارع صفية زغلول القريب من الميدان . يطلب مني أبو سعود أن نتوقف قليلاً لأخذ قسط
من الراحة فهو لم يتعود على قطع كل تلك المسافة التي مشيناها. أوافقه الرأي ونتفق
على دخول أحد المقاهي القريبة. يعشق أبو سعود المقاهي مثلي، ويجد راحته فيها خاصة
مع كوب (الكابتشينو) الذي
يعشقه بشغف.
أقدامنا
تسوقنا حيث مقهى «إيليت». يعد المقهى أحد
أشهر مقاهي الجالية اليونانية . العبق اليوناني مازال حاضراً في المدينة،
تلمح ذلك في الأسماء المحفورة على واجهات المحلات التجارية والمطاعم والمقاهي ، وكأن
الرابط الأبدي بين مدينة الإسكندر المقدوني وبين الحضارة اليونانية أبى أن ينقطع.
يتميز
"ايليت" بكونه متحفاً فنياً
وثقافياً، أكثر من كونه مجرد مطعم أو مقهى ،
ويغريك مظهره الجميل
الذي يشبه الكوخ الكبير ذو النوافذ الزجاجية الواسعة بالرغبة في دخوله، وتزين
جدرانه مجموعة من اللوحات لأشهر الفنانين، لذا يعده أهل الإسكندرية من الآثار الثقافية
التي تدل على عظمة المدينة وتاريخها العريق.
بزيه
الأنيق وابتسامته التي تسبق حضوره يأتينا الجرسون المهذب كي يأخذ طلباتنا. كالعادة
يطلب حمد كوباً من (الكابتشينو) مع قليل من السكر، وقطعة من الجاتوه، أطلب لنفسي
(هوت سيدر) وهو مزيج من عصير التفاح الساخن مع قطع من أعواد القرفة. يدعوني أبو
سعود لمشاركته الجاتوه فأعتذر. نحن في الإسكندرية يا أبا سعود وحلاوة الروح
الاسكندرانية تنسيك كل شيء جميل آخر.
يعبث
أبو سعود في هاتفه المحمول فتنبعث منه أغنية الرائعة فيروز "شط اسكندرية يا
شط الهوى.. رحنا إسكندرية رمانا الهوى. يا دنيا هنية وليالي رضية.. أحملها بعينيه
"(4). أبو سعود عاشق قديم لفيروز ويرى في صوتها نقاءاً يشبه
نقاء شخصيته الجميلة. كفى يا صديقي ، أترك أرواحنا المعذبة في حال سبيلها، ولا
تفتح الأبواب المغلقة، فأغنيتك كفيلة بإثارة كثير من الشجن المؤلم.
يحدثني حمد عن الشباب الذين يجلسون معه كل مرة ويتهربون
من دفع الحساب بحجج واهية وكأنهم يمارسون لعبة الاستغفال.هم لا يستغفلونك ولكنهم يستغلون
كرمك وطيبتك يا أبا سعود. أشك أنك لم تكن لتسمح لهم بدفعه مهما حاولوا ذلك . نفس
الشيء كان يفعله الصحفي والأديب الكبير كامل الشناوي في جلسته الشهيرة في كافتيريا
"داي أند نايت" في فندق سميراميس القديم.ملامحكم الجسدية تتقارب فهل هي
أرواحكم كذلك؟ أقولها في سري.
بلهجته الصورية المحببة يقول لي : حمـﱠــود.تفتكر ممكن تتحول صور في يوم من الأيام إلى
إسكندرية صغيرة؟ عندنا كل شيء. بحر وحارات قديمة وأسواق شعبية وتاريخ وشعب طيب
يرحب بالغريب. هيش اللي ناقصنا؟
متجاهلاً عبارته، أقوم من مقعدي ساحباً يده : ألم تقل لي
إنك تريد أن تتناول وجبة اسكندرانية شهية؟ هيا بنا "فشعبان بتاع السمك اللي
بيقولوا عليه" لن ينتظرنا طويلاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) حمد بن علي بهوان. يقال في الأساطير القديمة أن
الطيبة
والبراءة والشهامة اجتمعن وقررن أن يمكثن في جسده للأبد .
(2) من ضحايا العهد المباركي. تبدو في السبعين، بينما
عمرها الحقيقي لا يتجاوز منتصف الأربعينات،.قلت لها ذات مرة لو قدر للبعض أن يدخل
الجنة بدون حساب فستكونين منهم.
(3) خالد
الخروصي: تعرفت عليه لأول مرة في السفينة الفرعونية واكتشفت بعدها أننا نحمل ذات
الجينات التي تجعلنا نمارس نفس العادات . شهدت شوارع الإسكندرية كثيراً من غزواتنا
الثقافية المشتركة.
(4) غنتها لي فتاة فلسطينية مغتربة على شاطئ غزة ذات
ليلة قمرية جميلة. وقتها تمنيت لو زرتها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.