الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

"في حضرة السـت"


يناير 2006 ، أخرج من شقتي الكائنة في شارع جهينة بالدقي باتجاه مترو الأنفاق القريب من المكان.وجهتي هي وسط البلد وبالتحديد ميدان "أحمد عرابي" . كم أعشق هذا المكان الذي تجد في معالمه بعضاً من الروح المصرية الصميمة المفقودة، حيث "الفسحة" المجانية، والأكل المصري الصميم، والجلسات التي "ترد الروح"، والضحكات المصرية البريئة الممزوجة بسباب يمس الدين.
من محل حلويات"الفاليرو " الكائن في مدخل الميدان أشتري طبقاً من "الرز باللبن"، لأتوجه بعدها إلى "حواوشي شلبي" في شارع "سراي الأزبكية" المتفرع من الميدان . بشهادتي لن تجد أفضل من "شلبي" كي تأكل طبق حواوشي معتبر.

ما يميز "سراي الأزبكية" هو كثرة مقاهيه ومطاعمه المتخصصة في إعداد وجبات بعينها، فهذا متخصص في المخ، وذاك في الكبدة والكلاوي، والثالث في الكوارع، وغيره في لحمة الرأس، وهكذا. كما أن مقاهيه ممتدة بامتداد الشارع. كيف لا وهو يقع وسط شوارع مهمة لها تاريخ كعماد الدين و26 يوليو.

وسط جلبة المارة، وأصوات الباعة الجائلين وضحكات رواد المقاهي المتناثرة يأتيني صوت "الست" من بعيد تشدو بكلمات بيرم التونسي : "هو صحيح الهوى غلاب  ما عرفش أنا..والهجر قالوا مرار وعذاب واليوم بسنة..جاني الهوى من غير مواعيد وكل مادا حلاوته تزيد" فأعرف أنني اقتربت من مقهاها الشهير الكائن في منتصف الشارع.

في مدخل المقهى تستقبلك لوحة رخامية مكتوب عليها "كافتيريا أم كلثوم تأسست عام 1948"، ولوحة مسجل عليها تاريخ أم كلثوم وأشهر أغانيها والمحطات المهمة في حياتها، وثمثال جرانيتي نصفي لها .

أدخل المقهى حاملاً كالعادة جرائدي التي ابتعتها قبل قليل من صاحب فرشة قريبة كعادة لا تفارقني عند ذهابي إلى أي مقهى قاهري. أختار طاولة قريبة من ركن المحاسبة ربما لأني اعتقدت أنها ستكون أكثر دفئاً وراحة مع برد القاهرة القارس. هذه المرة طلبت كوباً من "السحلب " الساخن مع المكسرات. أوصاني أحدهم بذلك لشهرة المقهى في تقديمه.

المقهى متسع من الداخل، وهو عبارة عن متحف مصغر لكوكب الشرق، حيث تزين حوائطه عشرات الصور الكبيرة لأم كلثوم مع كبار السياسيين والفنانين ورجال المجتمع، ولوحة جدارية لها وهي تمسك بمنديلها الأبيض،مع بعض صور لمقالات صحفية عنها، كما تتناثر على جنباته بعض اللوحات النحاسية الكبيرة التي زينت بنقوش رائعة وبارزة لصورها،  وبعض الآلات الوترية المعلقة ، وهناك عدد من الصناديق الزجاجية تحوي مناديل أم كلثوم في عدد من الأغاني، ونظارتها الشهيرة.ويتوسط المقهى رأس منحوت للسيدة مصنوع من الجرانيت، وتماثيل نصفية لمحمد علي باشا وإسماعيل باشا مؤسسي مصر الحديثة ، وكأن صاحبه يريد أن يقول إن "الست لا تقل أهمية عنهم كرمز من رموز مصر الحديثة.

طاقم المقهى يلبس زياً أحمر اللون يشبه لون النادي الأهلي ، وهناك بعض الأعلام الصغيرة التي تحمل شعار المقهى وتشبه إلى حد كبير شعار هذا النادي العريق قد علقت هنا وهناك.هل هو اعتقاد المصري بوجود عامل مشترك بين الاثنين في التخفيف من الأزمات التي يعانيها المصريين من حين لآخر؟ ربما.

رواد المقهى خليط من عدة جنسيات، يبدو أن شهرة المقهى قد وصلت آفاقاً بعيدة، بالقرب مني تجلس عجوز أوروبية لا أستطيع تحديد جنسيتها تشرب الأرجيلة بينما يقوم زوجها بالتقاط صورة لها مع ابتسامات متبادلة بينهما، وفي الركن المقابل عائلة كويتية تتجمع في طاولتين ضمتا لبعض.ثمة شاب وفتاة يبدو من حوارهما الهامس وأياديهما المتشابكة، وضحكاتهما الهادئة وهما يطالعان ألبوم الصور في "موبايل" أحدهما أنهما في المرحلة الأولى من عملية قاسية متعددة المراحل تدعى "الحب".  أين سيجد هؤلاء مكاناً أفضل كي يعيشوا لحظات جميلة كهذه سرعان ما ستتبدد تحت وطأة أسباب عديدة قد تكون معنوية كالملل، أو البرود العاطفي، أو الخرس الزوجي، أو مادية كعدم القدرة على توفير الشقة المناسبة، أو القريب الميسور الذي يعمل في الخليج، أو زميل الدراسة المقتدر، وقد يحل محل تسبيل العيون، وأبيات الشعر الرومانسية، وأحلام المستقبل المشترك الجميل كلمات مثل : "خلينا أخوات"، أو "إحنا مكتوب علينا منكونش لبعض"، وهي عبارات قد يلجأ بعض الشباب المصري إلى الموت غرقاً في عبارة صدئة، أو التعرض لعصابات المخدرات وقطاع الطرق في جمهوريات الموز من أجل ألا يتعرضوا لموقف شبيه.


أتصفح صحفي القليلة التي أحضرتها.لم أشتر هذه المرة سوى "الفجر" و"صوت الأمة". "الفجر" تعيد نشر الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول الكريم والتي نشرتها صحيفة "يولاندس بوستن" الدانماركية، وأعادت نشرها عدد من الصحف الأوروبية كتحد جديد لمشاعر المسلمين. لماذا يا عادل حموده. صحفي شاطر أنت و"جورنالجي" محترف. فقط لو تكف عن اعتماد الإثارة الصحفية كمنهج تتبعه في كل الصحف التي تعمل بها.

الأغنية والبرد القاهري المميز الذي سأعشقه فيما بعد  ذكراني بقصة طريفة لبيرم عندما كان منفياً في باريس إثر معارضته للملك فؤاد. كان بيرم يعتمد في معيشته على ما ترسله له إحدى الصحف من مبلغ زهيد مقابل كتابة بعض الأشعار والزجل والمقالات، وفي إحدى المرات تأخرت الحوالة  وتأخرت مها النقود، فلم يجد بيرم في إحدى ليالي شتاء باريس سوى بصلة اضطر إلى إحراق جميع الكتب والرسائل النادرة التي في حوزته كي يتمكن من شيها.

يأتي "السحلب" وتأتي معه الهموم، فتاة مصرية تجاوزت العشرين بقليل تقترب مني حاملة شنطة مهترئة تحوي بعض العطور التي أعادت هي خلطها وإعادة تعبئتها بألوان مختلفة. أسأل الفتاة عن قيمة كل عطر فتحاول جاهدة أن تقنعني بأن أسعارها رخيصة وبأنها ستمنحني خصماً جيداً. بدون تردد أدفع لها قيمة خمسة عطور تقبلتها شاكرة مع رغبة في بكاء. أعلم أنني لن أستخدم تلك العطور، ولكن نظرات الاستجداء التي رأيتها في عينيها وتألمي من اضطرارها لهذا العمل هو من جعلني أتعاطف معها وأحاول مساعدتها. أليس من الأولى أن تكون هذه الفتاة الآن في بيتها تستعد لمحاضرات الغد، وتساعد أمها في إعداد وجبة العشاء، وتتبادل مزحة بريئة مع صديقة مقربة في التلفون، بدلاً من هذه "البهدلة" التي تذهب بكثير من رحيق عمرها. لماذا أيتها المحروسة تفعلين هكذا في زهرة شبابك؟

الموقف السابق جعلني أفقد الرغبة في إكمال الشرب أو القراءة، أترك الحساب أسفل الكوب الذي تبقى نصفه تاركاً معهما جرائدي، عائداً لاستكمال تسكعي في الشوارع القريبة ومراقبة حياة من فيها من البشر، بينما صوت أم كلثوم يأتي خافتاً على وقع كلمات رامي:

هَمَّانِ أحمِلُ وَاحِدًا في أَضْلُعِي           فَأُطِيقُـهُ بِتَجَـلُّدِي وَأَنَـاتِي
وَأُغَالِبُ الثَّـانِي وََمَـا لىَ حِيـلَة             بَعْدَ الَّذِي أَرْسَلْتُ مِنْ عَبرَاتِي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.