الثلاثاء، 20 نوفمبر 2012

قراءة في الخطاب السامي (2-2)


كنت في المقال السابق قد تناولت أهم ما جاء في المحورين الأول والثاني من المحاور التي اشتمل عليها خطاب جلالته السامي في افتتاح الدورة الخامسة لمجلس عمان، وهما محوري الشورى والبنية الأساسية.

وفي هذا المقال سألقي الضوء على بعض الملامح المهمة التي تناولتها باقي المحاور، وهي محور القطاع الخاص، ومحور التعليم، ومحور ملامح السياسة العامة للدولة.

ففي المحور الثالث  أكد جلالته في بداية حديثه على أهمية القطاع الخاص كركيزة أساسية في التنمية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، ثم فنـد – حفظه الله – الانطباع السائد لدى البعض حول أن هذا القطاع هو قطاع ثانوي تكميلي هدفه تحقيق الربح المادي فقط دون التركيز على الجوانب الاجتماعية المرتبطة به، وهو انطباع خاطئ قد يكون سببه هم العاملون بهذا القطاع من مسئولين ورجال أعمال لم يستطيعوا التواكب مع دعوات جلالته المتكررة لهم بضرورة أن يلعب هذا القطاع دوراً أكثر أهمية في المرحلة المقبلة يتوافق مع توجهات الدولة، ورغبتها في تنويع مصادر الدخل، ودعوتها للمستثمر الخارجي.

كما نلمح في خطاب جلالته دعوته الصادقة للشباب العماني إلى الالتحاق بالعمل في هذا القطاع وعدم انتظار الوظيفة الحكومية التي قد لا تأتي دائماً كون أن العمل في مؤسسات الدولة له طاقة استيعابية قد يؤدي تجاوزها إلى عواقب اقتصادية سيئة الأثر على اقتصاد الدولة. 

وفي نفس الوقت فقد وجه جلالته رسالة لرجال الأعمال بأن يراعوا حق الوطن الذي أعطاهم الشيء الكثير، وكان سبباً مهماً في ما وصلوا إليه، فهو يدعوهم لمساهمة أكثر فاعلية من خلال إعادة النظر في كثير من السياسات الاقتصادية كنظام الأجور، وأسعار السلع والخدمات، ووضع الثقة في الشباب العماني من خلال تبنيه وتدريبه وتأهيله وتطوير قدراته.

كما أن في خطابه – حفظه الله – رسالة تطمين للمستثمر الخارجي بأن الدولة تضع القطاع الخاص نصب عينها في عملية التنمية الشاملة، وتوفر كافة الفرص التي تضمن نجاحه ومساهمته الفاعلة، لذا فإن الباب مفتوح للمستثمر الجاد كي يشارك في دفع عجلة الاقتصاد المحلي.

وفي المحور الرابع يولي جلالته حفظه الله اهتماماً متوالياً لا متناهي بالعملية التعليمية وأهمية تطويرها وتحديثها بما يتوافق وظروف العصر، وهو اهتمام بدأ منذ أول يوم تسلم فيه جلالته أبقاه الله مقاليد الحكم في عمان "أيها المواطنون.. لقد كان التعليم أهم ما يشغل بالي وأنا أراقب تدهور الأمور من داخل بيتي الصغير في صلالة، فلما أذن الله بالخلاص من سياسة الباب المغلق كان لنا جهاد، وكان لنا في ميدان التعليم حملة بدأت للوهلة الأولى وكأنها تهافت الظمآن على الماء.."، وتوالت بعدها الخطابات التي تحث على أهمية الاهتمام بهذه العملية، بحيث لا تكاد تمر مناسبة وطنية دون أن يتطرق جلالته إلى هذا الملف المهم ومنها (..فالمهم هو التعليم ولو تحت ظل الشجر)، وتطورت ظلال الشجر بمرور الوقت إلى أن أصبحت مؤسسات تعليمية تنافس المدارس العالمية المختلفة في الإمكانات التعليمية المتكاملة.

حيث أشار جلالته إلى أهمية التعليم في عملية التنمية الشاملة، وذلك من خلال دوره في إعداد القوى العاملة الوطنية المدربة والمؤهلة للمساهمة في عملية التنمية، وما يتطلبه ذلك من اهتمام بجودة المخرجات التعليمية وفق الأهداف المرجوة، وبما يتماشى مع سياسة الدولة في هذا المجال.

كما أكد - حفظه الله - على ضرورة مواكبة الأنظمة والمناهج والبرامج التدريبية والتأهيلية مع المتغيرات المتسارعة والتقدم العلمي والتطور الحضاري، بحيث تؤدي إلى إيجاد مخرجات تعليم مسلحة بالوعي والمعرفة، ومتوافقة مع متطلبات سوق العمل، وذلك من خلال مراجعة السياسات والبرامج والخطط التطويرية الخاصة بالعملية التعليمية.
وأشار جلالته في خطابه كذلك إلى الدور المهم الذي سيقوم به مجلس التعليم في النهوض بالقطاع التعليمي، وأهمية التعاون الفاعل والمثمر لكافة الجهات مع هذا المجلس في سبيل تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها.

ودعا – أيده الله – مجلس عمان بغرفتيه إلى تقديم الرؤى والأفكار التي من شأنها المساهمة في تطوير العملية التعليمية والنهوض بها، من منطلق إيمانه حفظه الله بأهمية المشاركة المجتمعية كون أن العملية التعليمية هي شأن يهم كافة أطياف المجتمع، ولا يمكن قصر الاهتمام بها على جهة أو مؤسسة بعينها، لذا فإن على مجلس عمان عبء مهم في تحمل المسئولية والمشاركة في عملية تقييم ومراجعة وتطوير العملية التعليمية من خلال تقديم المقترحات والرؤى وسن وتعديل بعض القوانين واللوائح التي من شأنها النهوض بهذه العملية.

وفي المحور الأخير يذكـر جلالته بالملامح العامة للسياسة الداخلية، وهي سياسة قائمة على العمل البناء لما فيه صالح الوطن والمواطن، المحافظة على الهوية والثوابت والقيم الأصيلة المنبثقة من تراثنا العربي والإسلامي، وهنا يؤكد – رعاه الله –  كما في كثير من خطاباته السابقة، على قضية الهوية الوطنية وأهمية تعزيزها في ظل التسارع المعلوماتي الهائل وتحديات العولمة الخطيرة، وهي رسالة واضحة المغزى للجهات التي يقع عليها عبء هذا العمل من أجل تبني إستراتيجية واضحة مشتركة تهدف إلى تعزيز الهوية العمانية من خلال برامج دينية وتربوية وثقافية وإعلامية واجتماعية تحقق هذا الهدف.
  
 أما في مجال السياسة الخارجية فيؤكد جلالته على موقف السلطنة الثابت القائم على أساس الدعوة إلى السلام والوئام والتعاون الوثيق بين سائر الأمم، والالتزام بمبادئ الحق والعدل والإنصاف، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للغير، وفض المنازعات بالطرق السلمية. وهي سياسة انتهجها أيده الله  مند الأيام الأولى لتوليه مقاليد الحكم انطلاقاً من حقيقة أن عمليات البناء والتنمية الوطنية وتشييد الدولة العصرية يتطلب توفير مقومات ضرورية في مقدمتها المناخ المواتي لذلك محلياً وإقليمياً ودولياً باعتبار أن السلام كل لا يتجزأ.

وهذه السياسة أكسبت السلطنة كثيراً من الاحترام والتقدير في مختلف المحافل الدولية، وبسببها أصبح المواطن العماني محل تقدير أينما حط رحله، وانعكست إيجاباً كذلك على الأوضاع الأمنية في البلد، لذا فليس أمراً غريباً أن يحصل جلالته على كثير من الألقاب الفخرية كـ"حكيم العرب"، أو أن يتم منحه عدداً من الجوائز المتعلقة بالسلام والتسامح الدولي كجـائزة السلام الدولية الأمريكية، وجائزة السلام من الجمعية الدولية الروسية، وما (جائزة السلطان قابوس لصون البيئة)، وموسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، ووردة السلطان قابوس، والكراسي العلمية لصاحب الجلالة السلطان المعظم، وتخصيص اليخت السلطاني (فلك السلامة) مع كل طاقمه لتستخدمه اليونسكو في اكتشاف طريق الحرير، سوى جزء يسير من مساهمات جلالته المتعددة على المستوى الإنساني الدولي.

وفي إشارة جلالته إلى ملامح السياسة الخارجية فإنه يوجه رسالة للمجتمع الدولي يؤكد من خلالها على أن الموقف العماني موقف ثابت لا يتغير من القضايا الدولية، لذا فعلى البعض ألا يطالب السلطنة بأدوار تتنافى مع ثوابت هذه السياسة، وأن السلطنة ستظل كعادتها راعية للسلام، مؤيدة للحقوق المشروعة، غير متدخلة في الشئون الداخلية لغيرها من الدول، مهتمة بحل المشاكل والقضايا الخارجية عن طريق الشرعية الدولية لا غيرها.



الاثنين، 12 نوفمبر 2012

قراءة في الخطاب السامي (1)


بمناسبة الانعقاد السنوي للفترة الخامسة لمجلس عمان لعام 2012م، ألقى حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد خطاباً سامياً استعرض فيه جلالته – حفظه الله – عدداً من الملفات والمحاور المتعلقة بمسيرة العمل والتنمية التي تحققت في ربوع السلطنة.

وقد اشتمل الخطاب السامي على تناول خمسة محاور مهمة هي محور الشورى، ومحور التنمية الشاملة، ومحور القطاع الخاص، ومحور التعليم، ومحور ملامح السياسة الداخلية والخارجية للسلطنة.

بدأ جلالته خطابه بمدخل معنوي روحاني وذلك من خلال استغلال هذا اللقاء الكريم كفرصة لشكر الله على ما أنعم به من فضل ونعمة، والابتهال إليه بأن يزيد عمان وأهلها من خيره العميم، وأن يوفق أبناءها وبناتها إلى ما فيه صلاحهم.

ومن هذا المدخل نلمح مدى التواضع الجم الذي أبداه حفظه الله، وهو تواضع العظام، فبرغم أن ما حوته سيرة هذا القائد العظيم ينبغي أن تدرس في أعرق كليات الإدارة والتخطيط، إلا أنه يشعر من حوله بأن ما تحقق هو بفضل توفيق الله أولاً وأخيراً، كما أن دعوته أن يوفق الله أبناء عمان وبناتها دليل على الاهتمام الذي أولته الدولة للمرأة العمانية، وعلى مدى القرب الروحي بين القائد وشعبه.
ثم تناول جلالته المحور الأول من الملفات التي ركز عليها خطابه السامي، ألا وهو محور الشورى من خلال مجلس عمان بغرفتيه الشورى والدولة، حيث أكد بداية على نجاح تجربة الشورى في عمان من خلال مراحلها المختلفة في السنوات السابقة،واتساقها مع مراحل النهضة، وتوافقها مع قيم المجتمع ومبادئه.

كما أشاد جلالته بمستوى الوعي والإدراك والفهم التي تمتع بها المواطن العماني من خلال تعامله مع الآخر في حواراته وآراءه، وهنا يؤكد جلالته على أنه لا حل لمناقشة قضايانا المجتمعية سوى بالحوار الهادئ الذي تغلب عليه لغة العقل والهدوء والوسطية وعدم التطرف أو الغلو في طرح الآراء والأفكار، متبنين ثقافة التسامح التي عرف بها مجتمعنا على امتداد تاريخه الطويل، مؤكداً على دور مجلس عمان في ترسيخ هذه الثقافة من خلال تناولهم للقضايا المطروحة في أروقة المجالس النيابية بأسلوب حضاري يحترم الرأي والرأي الآخر، ويبتعد عن سياسة الصوت العالي، طالباً منهم أن يكونوا قدوة للآخر، ومضرباً للمثل، وأنموذجاً سياسياً وحضارياً يحتذى على المستويين المحلي والعالمين، خاصة وأن العمانيين قد عرفوا على امتداد تاريخهم الطويل باستلهامهم نهج الشورى في أنظمتهم السياسية المختلفة، وما السبلة العمانية و"البرزة" سوى نماذج لهذا النهج. ونلمح هنا في إشادة جلالته بحكمة أعضاء المجلس في تناولهم للقضايا المختلفة، وإشارته إلى التاريخ العماني العريق، رسائل تحفيز أراد جلالته – بحكمته المعهودة – أن يبثها إلى الأعضاء من أجل مزيد من البذل والعطاء.

وفي المحور الثاني من الخطاب تناول جلالته ملف التنمية الشاملة، حيث بدأ حديثه بالتذكير بوضع السلطنة قبل النهضة، ومدى التحديات التي واجهت الحكومة من أجل نشر مظلة التنمية في كل رقعة من رقاع الوطن، وهو الأمر الذي كان يستلزم الاهتمام بتوفير البنية الأساسية من تعليم وصحة وتدريب وتأهيل وإيجاد فرص عمل متنوعة، على اعتبار أنها ركيزة أساسية لعملية التنمية الشاملة التي شملت فيما بعد كافة التجمعات السكانية في المدن والقرى والسهول والجبال وفي بطون الأودية وفيافي 
الصحاري الواسعة.
وهنا قد تكون رسالة إلى كل مواطن كي يتذكر مدى الجهد الكبير، وصعوبة التحديات التي واجهت جلالته حفظه الله في سبيل تحقيق تنمية شاملة تعود بالرفاهية والرخاء والنماء على مواطني هذا البلد، وإدراك أن أي تقصير أو إهمال من قبل مسئول أو جهة خدمية معينة لا يعني إلغاء كافة الجهود التي بذلت، أو تناسي التضحيات التي قدمت من أجل تحقيق الرخاء والازدهار التي تنعم به البلد في مختلف المجالات.

كما أشاد جلالته بدور الخطط الخمسية للتنمية والتي اشتملت على مشاريع وخطط وبرامج ساهمت في إيصال كافة الخدمات التنموية إلى أرجاء السلطنة المختلفة متغلبة بالعزيمة، والهمة، ووضوح الهدف، والتحديد الجيد للأهداف والبرامج على كثير من المعوقات الجغرافية والاقتصادية التي واجهتها خلال مسيرتها التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، مؤكداً في الوقت ذاته على استمرار هذه الخطط الطموحة، نتيجة للتطور العمراني والاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه السلطنة، والرغبة في تعزيز حياة المواطن ايجابياً، وتوفير كافة متطلباته الحياتية.
كما ركز جلالته من خلال خطابه على توضيح اللبس الذي يقع فيه البعض حول اعتقادهم بان الدولة تولي اهتمامها بالبنية التحتية على حساب التنمية البشرية للمواطن، وهو رأي قاصر وفيه ظلم للجهود المبذولة على امتداد أربعة عقود من عمر النهضة، ذلك أن التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي رافقت النهضة، وخلة السلطنة من أية مظاهر للبنية التحتية الأساسية عدا بعض المؤسسات البدائية، إضافة إلى التحديات الجغرافية المتمثلة في تباعد المناطق، وتنوع أنماط الاستقرار البشري، وتحديات التضاريس المختلفة، مع محدودية الدخل القومي، كل ذلك أدى إلى اهتمام الدولة بإيصال خدمات البنية الأساسية إلى كافة المناطق دون استثناء، مع الأخذ في الاعتبار أن الاهتمام بمجالات كالتعليم والصحة والتجارة والصناعة والاقتصاد يصب في المحصلة في تنمية الإنسان العماني بشرياً، فالتنمية لم تقتصر على الجوانب المادية فقط، بل تعدتها لتشمل كذلك الجوانب البشرية والمعنوية، وهي دعوة إلى محاولة التأكد قبل إشاعة أي معلومة قد تؤثر سلباً على الوضع المجتمعي.

وتأكيداً لاهتمامه حفظه الله بأهمية التنمية الاجتماعية من خلال جوانبها المتعلقة بمعيشة المواطن، فقد أشار جلالته إلى أن الخطط المستقبلية سوف تشهد مزيداً من التركيز والاهتمام بجوانب هذه التنمية من خلال إتاحة المزيد من فرص العمل وبرامج التدريب والتأهيل ورفع الكفاءة الإنتاجية والتطوير العلمي والثقافي والمعرفي، وهو أمر أكد عليه جلالته في كثير من خطاباته السامية نقتطف منها هذه المقولة السامية "أولت مسيرتنا عناية كبيرة لإنجاز البنية الأساسية في مجالي التعليم والتدريب وأكملنا بذلك مراحل مهمة حرصاً منا على إعداد أبنائنا للمشاركة في بناء وتنمية البلاد"، وما برنامج ا لألف بعثة دراسية لمرحلتي الماجستير والدكتوراه سوى أنموذج بسيط جداً من نماذج اهتمام جلالته بهذا المجال.

وهو هنا يؤكد ما ذهب إليه – رعاه الله- في الفقرة السابقة من هذا الخطاب من أنه لم يكن هناك إهمال للتنمية البشرية للمواطن العماني بقدر ما كانت هناك تحديات فرضت نشر مظلة البنية التحتية الأساسية كمقدمة للتنمية الشاملة في مختلف المجالات.

وفي ختام هذا الملف أكد جلالته على متابعته الشخصية الكريمة لكافة الخطوات المتخذة في مجال التنمية الاجتماعية، مما يدل بكل وضوح على مدى القرب والتلاحم بين القائد وشعبه، وعلى الاهتمام اللا متناهي الذي يبديه بأبنائه المواطنين من خلال تلمسه لاحتياجاتهم ومتابعته لأوضاعهم المعيشية. نلمح ذلك من خلال الجولات السامية السنوية التي يقوم بها، واستجابته الكريمة لبعض المطالب التي تمت المناداة بها، والتي أكدت مدى الانحياز الكبير الذي يبديه هذا القائد الفذ نحو شعبه الوفي، والتي كانت نتيجتها مشاعر ود واحترام وتقدير لا حدود لها، ويكفي أن جلالته قد ختم هذا الملف بعبارة " وندعو الله العلي القدير أن يوفقنا إلى مزيد من النجاح من أجل عمان وأبنائها البررة المخلصين" .(يتبع)

الاثنين، 5 نوفمبر 2012

هل قصرنا بحق تاريخنا؟


كنت على وشك الدخول إلى أستوديو برنامج "صباح الشباب" في إذاعة الشباب للحديث حول دور المؤسسات في ترسيخ الهوية الوطنية، عندما استمعت إلى تلك المشاركة الهاتفية الغاضبة التي تتحدث عن "سرقة " التاريخ العماني ونسبه إلى الغير من خلال تغريدات على موقع (تويتر) منسوبة للشيخ محمد بن راشد.

وطوال ساعة كاملة هي عمر البرنامج توالت الاتصالات والمشاركات الغاضبة ومعظمها يصب في نفس الموضوع، وكيف أن الشيخ قد نسب ناصر بن مرشد وأحمد بن ماجد لهم، وأنهم وحدهم من قاوم البرتغاليين، وكلام كثير جعلني أستغرب في داخلي مما يقال، وآثرت الرد الهادئ المختصر حتى يتسنى لي الإطلاع الشخصي على التغريدة الأصلية كي أستطيع إصدار حكم واضح تجاه الموضوع، مبدياً في نفس الوقت شكوكي في أن تصدر تلك التغريدات من قبل شخصية مهمة كالشيخ محمد بن راشد.

"أول درس من دروس التاريخ أن نعرف تاريخنا.نحن لسنا أمة طارئة على التاريخ. نحن شعب عريق بنى أمجاداً في الماضي. وسيبني مستقبلاً مجيداً أيضاً..اقرءوا عن حضارة أم النار التي تعود لأكثر من 2000 عام ق.م أو عن جلفار في القرن الرابع الهجري أو عن المدينة الإسلامية في جميرا في العصر الأموي .اقرءوا عن مقاومة أهلكم للبرتغاليين في عام 1506  أو عن تصديهم للبريطانيين خلال القرن السابق ".

هذه هي مجموعة تغريدات الشيخ حول الموضوع المثار. لم تتضمن التغريدات اسم ناصر بن مرشد، ولم تأت على ذكر أحمد بن ماجد، ولم تقصر  مقاومة المحتل البرتغالي على فئة بعينها.  ببساطة الرجل يحفز شباب بلده على أن يعرفوا تاريخهم وهذا حقه وواجبه، وأن يستمدوا منه انجازاتهم المستقبلية، كما أن المعلومات التاريخية الواردة بالتغريدات في جلها معلومات صحيحة بحسب كتب التاريخ المختلفة، وكما أوردته نتائج الكشوف المسحية الأثرية المختلفة، فحضارة أم النار  ظهرت  ما بين عام 2700 ق.م وسنة 2000 ق.م، حيث تم  اكتشاف آثار في جزيرة أم النار تشير إلى حضارة عريقة كانت مزدهرة، وكانت على اتصال مع الحضارات والبلاد المجاورة، ومن بينها بلاد مابين النهرين وحضارة وادي السند. كما تم العثور على موقع أثري في حي جميرا بمدينة دبي يمثل بقايا مدينة إسلامية من العصر الأموي، وعثر في مدينة جلفار شمال مدينة رأس الخيمة الحالية على بيوت سكنية وأربعة مساجد بنيت فوق بعضها البعض عبر الزمن وتعود إلى القرن الرابع الهجري، كما سيطر البرتغاليون بقيادة قائدهم  (الفونسو دي البوكيرك) على مدينة خورفكان عام 1506 ضمن خطة سيطرتهم على مواني الخليج لتأمين الطريق إلى الهند، حيث قام بتدمير المدينة وإحراقها والتمثيل بأهلها لبث الرعب وتحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة.

نعم.. كانت كل هذه الأماكن المشار إليها وقتها ضمن إطار تاريخي وجغرافي أشمل هو عمان التاريخية. نعم تاريخ الدولة المعاصرة يدخل في إطار التاريخ العماني الشامل. نعم كان يطلق على المنطقة قبل توحد إماراتها اسم"ساحل عمان". ولكن هل يلغي كل ذلك أن هؤلاء الناس هم شركاء في تاريخ مشترك؟ هل يعني انفصالهم فيما بعد أنهم لم يكونوا يوماً على هذه الأرض؟ ثم ألسنا نشترك في هوية عروبية وإسلامية أشمل؟

ربما لم يلمح الشيخ إلى اسم عمان صراحة، وربما لم يأت على ذكر دور اليعاربة ، وسواء كان ذلك بحسن نية أم بسوئها إلا أننا لا يمكن أن نعتبر أن ما قاله هو تقليل من التاريخ العماني الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، فالشمس لا تغطى بغربال، وتاريخنا أكبر من يناله أحد مهما حاول وسعى، فهو تاريخ بنته سواعد تحملت الكثير وضحت بالنفيس من أجل صنع حضارة عريقة طغى إشعاعها الحضاري والفكري على كثير من البقاع والأماكن. عقول عرفت ثقافة السلام والتسامح والانفتاح على الآخر قبل أن تتبناها منظمات حقوق الإنسان، رجال نشروا الدين واللغة والحضارة في كل بقعة وصلوا إليها واسألوا السواحل الشرقية لآسيا وأفريقيا وساحل الخليج الشرقي.تاريخ تحفظه القلوب قبل أن تدونه الكتب، و يتجسد في عشرات الممارسات الحياتية والفكرية والاجتماعية في بقاع كثيرة وصلت إليها رسل هذه الحضارة يوماً ما.

و الدفاع عن هذا التاريخ لا يأتي بالتشنجات الغير مدروسة، ولا بالمواقف العنترية البطولية اللحظية، ولا بالمقالات الساخرة  التي قد تقلل من الآخر في سبيل صنع بطولة وهمية، بل يأتي من خلال مسئولية كبيرة تقع على عاتق الكل من أسرة وأفراد ومؤسسات مجتمع تجاه هذا التاريخ العريق، فبدلاً من التباكي واتهام الآخرين بسرقته وتشويهه علينا بالتساؤل: ماذا قدمنا نحن مقارنة بما قدمه آباءنا وأجدادنا؟وهل قصرنا بحق تاريخنا وثقافتنا وموروثنا بحيث لم نتعاطى معها أو نسوقها بالشكل المناسب؟ أليست هذه فرصة لإعادة تقييم هذا الواقع ومحاولة الاستفادة من الدروس التي نخرج بها من هذه القضية؟ألم يحن الوقت بعد لإيجاد إستراتيجية وطنية مهمتها المحافظة على الهوية الثقافية للسلطنة وترسيخها؟ وهو أمر يتطلب التأكيد على قيم ومقومات الانتماء والهوية والاعتزاز، وتدعيم الشعور بالانتماء الوطني والولاء، وذلك بإيجاد أدوار أكثر أهمية للمناهج التعليمية في تقديم التاريخ المحلي بشكل يجعل الطلاب يقبلون على دراسته، ويكسبهم  القدرة على تذوقه،  وحماية الموروث عبر تأسيس متاحف متخصصة في كافة مجالات الثقافة والتراث ، والحفاظ على الشواهد المتبقية وتحويلها إلى مؤسسات ثقافية  لا إزالتها تحت دعوى تحولها إلى ملجأ للحشرات والقوارض، ودعم الفولكلور المحلي بكافة أشكاله، وتعزيز الحرف العمانية بشكل عصري تتواكب والتغيرات الاقتصادية الحاصلة، وإطلاق أسماء الشخصيات العمانية البارزة على بعض الشوارع والمؤسسات، وتنظيم المؤتمرات والمسابقات والفعاليات التي تتناول شخصيات أو قضايا تاريخية بعينها،  واستلهام حياة بعض الشخصيات في أعمال فنية وأدبية مختلفة كالمسلسلات والتمثيليات والروايات والقصص القصيرة، وتشجيع الشباب على  التعرف إلى ثقافته عبر تنظيم برامج ولقاءات  حوارية مختلفة الأطر والأشكال ، بالإضافة إلى تعريف العالم بملامح هذا التاريخ والثقافة من خلال تقوية التواجد الثقافي في الخارج،  وتشجيع التواصل بين ثقافة السلطنة والثقافات الأجنبية، ووضع برامج مختلفة للتبادل الثقافي مع شعوب العالم المختلفة.

على أن يكون ذلك وفق إستراتيجية مترابطة الأركان تشترك مؤسسات الدولة المعنية في تنفيذها وفق رؤية واضحة، وفي إطار أهداف معدة سلفاً، مع أهمية الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام في التعريف بهذا التاريخ، من خلال التأكيد على أن يكون إعلامنا قادراً على المنافسة واثبات الوجود.

إن كثيراً من المجتمعات قد نجحت من خلال خطط وبرامج إعلامية وثقافية مدروسة أن تصنع تاريخاً من لاشيء، وأن تقنع شعوبها بتبني هوية وطنية واضحة المعالم برغم تنافر مكونات بعض تلك المجتمعات، فما بالنا ونحن الذين  نملك مخزوناً هائلاً من الإرث الحضاري، والتاريخ المشترك، والثقافة المتنوعة الأركان والمعالم، والشعب المتجانس المتماسك المترابط الذي استطاع الحفاظ على هوية هذا البلد العريق طوال فترات التاريخ الطويلة.
رفقاً بتاريخناوهويتنا.