الاثنين، 5 نوفمبر 2012

هل قصرنا بحق تاريخنا؟


كنت على وشك الدخول إلى أستوديو برنامج "صباح الشباب" في إذاعة الشباب للحديث حول دور المؤسسات في ترسيخ الهوية الوطنية، عندما استمعت إلى تلك المشاركة الهاتفية الغاضبة التي تتحدث عن "سرقة " التاريخ العماني ونسبه إلى الغير من خلال تغريدات على موقع (تويتر) منسوبة للشيخ محمد بن راشد.

وطوال ساعة كاملة هي عمر البرنامج توالت الاتصالات والمشاركات الغاضبة ومعظمها يصب في نفس الموضوع، وكيف أن الشيخ قد نسب ناصر بن مرشد وأحمد بن ماجد لهم، وأنهم وحدهم من قاوم البرتغاليين، وكلام كثير جعلني أستغرب في داخلي مما يقال، وآثرت الرد الهادئ المختصر حتى يتسنى لي الإطلاع الشخصي على التغريدة الأصلية كي أستطيع إصدار حكم واضح تجاه الموضوع، مبدياً في نفس الوقت شكوكي في أن تصدر تلك التغريدات من قبل شخصية مهمة كالشيخ محمد بن راشد.

"أول درس من دروس التاريخ أن نعرف تاريخنا.نحن لسنا أمة طارئة على التاريخ. نحن شعب عريق بنى أمجاداً في الماضي. وسيبني مستقبلاً مجيداً أيضاً..اقرءوا عن حضارة أم النار التي تعود لأكثر من 2000 عام ق.م أو عن جلفار في القرن الرابع الهجري أو عن المدينة الإسلامية في جميرا في العصر الأموي .اقرءوا عن مقاومة أهلكم للبرتغاليين في عام 1506  أو عن تصديهم للبريطانيين خلال القرن السابق ".

هذه هي مجموعة تغريدات الشيخ حول الموضوع المثار. لم تتضمن التغريدات اسم ناصر بن مرشد، ولم تأت على ذكر أحمد بن ماجد، ولم تقصر  مقاومة المحتل البرتغالي على فئة بعينها.  ببساطة الرجل يحفز شباب بلده على أن يعرفوا تاريخهم وهذا حقه وواجبه، وأن يستمدوا منه انجازاتهم المستقبلية، كما أن المعلومات التاريخية الواردة بالتغريدات في جلها معلومات صحيحة بحسب كتب التاريخ المختلفة، وكما أوردته نتائج الكشوف المسحية الأثرية المختلفة، فحضارة أم النار  ظهرت  ما بين عام 2700 ق.م وسنة 2000 ق.م، حيث تم  اكتشاف آثار في جزيرة أم النار تشير إلى حضارة عريقة كانت مزدهرة، وكانت على اتصال مع الحضارات والبلاد المجاورة، ومن بينها بلاد مابين النهرين وحضارة وادي السند. كما تم العثور على موقع أثري في حي جميرا بمدينة دبي يمثل بقايا مدينة إسلامية من العصر الأموي، وعثر في مدينة جلفار شمال مدينة رأس الخيمة الحالية على بيوت سكنية وأربعة مساجد بنيت فوق بعضها البعض عبر الزمن وتعود إلى القرن الرابع الهجري، كما سيطر البرتغاليون بقيادة قائدهم  (الفونسو دي البوكيرك) على مدينة خورفكان عام 1506 ضمن خطة سيطرتهم على مواني الخليج لتأمين الطريق إلى الهند، حيث قام بتدمير المدينة وإحراقها والتمثيل بأهلها لبث الرعب وتحقيق السيطرة الكاملة على المنطقة.

نعم.. كانت كل هذه الأماكن المشار إليها وقتها ضمن إطار تاريخي وجغرافي أشمل هو عمان التاريخية. نعم تاريخ الدولة المعاصرة يدخل في إطار التاريخ العماني الشامل. نعم كان يطلق على المنطقة قبل توحد إماراتها اسم"ساحل عمان". ولكن هل يلغي كل ذلك أن هؤلاء الناس هم شركاء في تاريخ مشترك؟ هل يعني انفصالهم فيما بعد أنهم لم يكونوا يوماً على هذه الأرض؟ ثم ألسنا نشترك في هوية عروبية وإسلامية أشمل؟

ربما لم يلمح الشيخ إلى اسم عمان صراحة، وربما لم يأت على ذكر دور اليعاربة ، وسواء كان ذلك بحسن نية أم بسوئها إلا أننا لا يمكن أن نعتبر أن ما قاله هو تقليل من التاريخ العماني الضارب بجذوره في أعماق التاريخ، فالشمس لا تغطى بغربال، وتاريخنا أكبر من يناله أحد مهما حاول وسعى، فهو تاريخ بنته سواعد تحملت الكثير وضحت بالنفيس من أجل صنع حضارة عريقة طغى إشعاعها الحضاري والفكري على كثير من البقاع والأماكن. عقول عرفت ثقافة السلام والتسامح والانفتاح على الآخر قبل أن تتبناها منظمات حقوق الإنسان، رجال نشروا الدين واللغة والحضارة في كل بقعة وصلوا إليها واسألوا السواحل الشرقية لآسيا وأفريقيا وساحل الخليج الشرقي.تاريخ تحفظه القلوب قبل أن تدونه الكتب، و يتجسد في عشرات الممارسات الحياتية والفكرية والاجتماعية في بقاع كثيرة وصلت إليها رسل هذه الحضارة يوماً ما.

و الدفاع عن هذا التاريخ لا يأتي بالتشنجات الغير مدروسة، ولا بالمواقف العنترية البطولية اللحظية، ولا بالمقالات الساخرة  التي قد تقلل من الآخر في سبيل صنع بطولة وهمية، بل يأتي من خلال مسئولية كبيرة تقع على عاتق الكل من أسرة وأفراد ومؤسسات مجتمع تجاه هذا التاريخ العريق، فبدلاً من التباكي واتهام الآخرين بسرقته وتشويهه علينا بالتساؤل: ماذا قدمنا نحن مقارنة بما قدمه آباءنا وأجدادنا؟وهل قصرنا بحق تاريخنا وثقافتنا وموروثنا بحيث لم نتعاطى معها أو نسوقها بالشكل المناسب؟ أليست هذه فرصة لإعادة تقييم هذا الواقع ومحاولة الاستفادة من الدروس التي نخرج بها من هذه القضية؟ألم يحن الوقت بعد لإيجاد إستراتيجية وطنية مهمتها المحافظة على الهوية الثقافية للسلطنة وترسيخها؟ وهو أمر يتطلب التأكيد على قيم ومقومات الانتماء والهوية والاعتزاز، وتدعيم الشعور بالانتماء الوطني والولاء، وذلك بإيجاد أدوار أكثر أهمية للمناهج التعليمية في تقديم التاريخ المحلي بشكل يجعل الطلاب يقبلون على دراسته، ويكسبهم  القدرة على تذوقه،  وحماية الموروث عبر تأسيس متاحف متخصصة في كافة مجالات الثقافة والتراث ، والحفاظ على الشواهد المتبقية وتحويلها إلى مؤسسات ثقافية  لا إزالتها تحت دعوى تحولها إلى ملجأ للحشرات والقوارض، ودعم الفولكلور المحلي بكافة أشكاله، وتعزيز الحرف العمانية بشكل عصري تتواكب والتغيرات الاقتصادية الحاصلة، وإطلاق أسماء الشخصيات العمانية البارزة على بعض الشوارع والمؤسسات، وتنظيم المؤتمرات والمسابقات والفعاليات التي تتناول شخصيات أو قضايا تاريخية بعينها،  واستلهام حياة بعض الشخصيات في أعمال فنية وأدبية مختلفة كالمسلسلات والتمثيليات والروايات والقصص القصيرة، وتشجيع الشباب على  التعرف إلى ثقافته عبر تنظيم برامج ولقاءات  حوارية مختلفة الأطر والأشكال ، بالإضافة إلى تعريف العالم بملامح هذا التاريخ والثقافة من خلال تقوية التواجد الثقافي في الخارج،  وتشجيع التواصل بين ثقافة السلطنة والثقافات الأجنبية، ووضع برامج مختلفة للتبادل الثقافي مع شعوب العالم المختلفة.

على أن يكون ذلك وفق إستراتيجية مترابطة الأركان تشترك مؤسسات الدولة المعنية في تنفيذها وفق رؤية واضحة، وفي إطار أهداف معدة سلفاً، مع أهمية الدور الخطير الذي يلعبه الإعلام في التعريف بهذا التاريخ، من خلال التأكيد على أن يكون إعلامنا قادراً على المنافسة واثبات الوجود.

إن كثيراً من المجتمعات قد نجحت من خلال خطط وبرامج إعلامية وثقافية مدروسة أن تصنع تاريخاً من لاشيء، وأن تقنع شعوبها بتبني هوية وطنية واضحة المعالم برغم تنافر مكونات بعض تلك المجتمعات، فما بالنا ونحن الذين  نملك مخزوناً هائلاً من الإرث الحضاري، والتاريخ المشترك، والثقافة المتنوعة الأركان والمعالم، والشعب المتجانس المتماسك المترابط الذي استطاع الحفاظ على هوية هذا البلد العريق طوال فترات التاريخ الطويلة.
رفقاً بتاريخناوهويتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.