الخميس، 30 أبريل 2015

أدعوا لخالد

التقيت به لأوّل مرّة عندما انتقلت إلى العمل بالهيئة العامّة لحماية المستهلك قبل ثلاث سنوات من الآن. كنت لا أعرفه من قبل برغم حديث الكثير من الأصدقاء عنه عندما علموا بأمر انتقالي، ورغم شهرته وقتها كونه كان مذيعاً لامعاً بإذاعة (الوصال)، وأحد مؤسّسي منتداها الشّهير، وصاحب الحلقات السّاخنة التي تزامنت مع الأحداث التي شهدتها السّاحة المحلّيّة في تلك الفترة، والتي كانت تتناول قضايا مهمّة تتعلّق بالرّأي العام المحلّي.

ولا زلت حتّى اليوم أتذكّر تفاصيل اللّقاء الأوّل بالإنسان خالد الراشدي في مكتبه الذي سيصبح فيما بعد أحد أكثر الأماكن التي أقضي فيها وقتي اليوميّ، ومقرّاً لندوة صباحيّة يوميّة نناقش فيها مستجدّات السّاحة المحلّيّة، ومطبخاً لكثير من الأفكار التي تتحوّل مباشرة إلى مقالات أسبوعيّة أزعم أنّ كثيراً منها يحمل بصمته وفكره. أذكر أنّه يومها حدّثني عن مصطلحات جديدة ربّما كنت أسمعها لأوّل مرّة، أو قد مرّت عليّ هنا وهناك دون التفاتة حقيقيّة لمعناها. حدّثني عن ترحيبه بي كإضافة حقيقيّة بحسب رأيه، وعن سعادته كوني سأصبح جزءاً من فريق العمل بالدّائرة، وعن تشوّقه للأفكار التي سأطرحها لتجويد العمل، وعن رؤية الدائرة القائمة على الابتعاد عن التقليديّة، والبحث عن الأفكار غير المألوفة!

 كنت أريد أن أصرخ في وجهه لولا أن منعني من ذلك بشاشته وحسن استقباله: إضافة! فريق عمل! أفكار غير مألوفه! هل أنت جادّ يا صديقي! ما أعرفه أنّ مصطلحات كهذه مكانها المجلات والبحوث وأوراق العمل التي نملأ بها أرفف مكاتبنا لا الميدان ذاته. أتمنّى ألا تكون مجرّد أطقم جمل تردّدها ككثير من المسئولين لدينا!

وخلال عشرة العمر التي ابتدأت منذ أوّل لحظة تعارف بيننا وكأنّنا نعرف بعضنا منذ لحظة الميلاد ، والتي وطّدتها النّقاشات الصباحيّة اليوميّة، وأسفار العمل، ولقاءات الغداء أو العشاء أو الافطار الرمضاني التي نقيمها كل حين وآخر بصحبة بقيّة الزّملاء في الدائرة، فإنّ أكثر ما شدّني فيه هو ابتسامته الدائمة وعدم تذمّره، وانسانيّته المفرطة إلى حدّ اللامعقول، فلم يحدث أن دخلت عليه يوماً لأجده عابساً أو مكتئباً أو متذمّراً برغم الأعباء الملقاة على عاتقه والتي ينوء عن حملها فريق كامل من المديرين، وكثيراً ما كنت أدخل مكتبه متضايقاً أو متذمّراً من زحمة طريق، أو موضوع حياتيّ معيّن، أو من (غلاسة) أحد الآسيويّين في بنك أو شارع أو محلّ، فينظر لي بابتسامة وهو يقول لي: أعرف أنّ هناك ما يضايقك. هيا فلتفضفض لي، هل ضايقك أحد (حبايبك) في الطّريق كعادتهم معك كلّ يوم، أم أنّ هناك شيئاً آخر استجدّ! وكنت أجد راحة تامّة وأنا أفضفض له، بينما يأتي تعليقه جادّاً أو ضاحكاً بحسب الموقف الذي أسرده. ليجرّنا الحديث بعد ذلك إلى مناقشة حدث مستجدّ، أو قضيّة ما قبل أن تنفضّ جلستنا وينشغل كلّ منّا بعمله.

وكان في أحلك لحظات العمل ارهاقاً وانشغالاً مستعداً لاستقبالك بنفس لياقته الفكريّة الصباحيّة، فكثيراً ما يحدث أن أقطع عليه اجتماعاً مصغّراً مع بعض زملاء العمل، أو اتّصال عمل يجريه كي يسعفني ببهارات كلامه التي أرشّها على سطور مقالي الأسبوعيّ فتجعله مقبولاً في نظري، أو أن أطلب منه عنواناً لأحدها فيبتسم ثم يطالع السّقف ليقترح عليّ أحدها، وقبل أن يكمل عنوانه أكون أنا قد وصلت مكتبي لأكتبه قبل أن أنساه، وكان قارئي الأوّل الذي كنت أستمتع بمراقبة حركة شفاهه وهو يقرأ المقال للآخر قبل أن يعطيني رأيه أو انطباعه الذي غالباً ما يأخذ طابع التّحفيز كعادته مع بقيّة الزّملاء.

أمّا إنسانيّته فقد كانت شيئاً آخر مختلفاً تماماً، فقد كان إنساناً إلى درجة الثّمالة بل تزيد، يحدث أن يدخل عليه زميل (أو زميلة) عمل ليقدّم له مقترحاً أو مشروعاً ما، فيبتسم وهو يقول بصوت محبّب: الله.. رائع.. جميل، وكان هذا كاف كي يشعر ذلك الزّميل بالنّشوة والحيويّة والأهمّيّة فينطلق نحو بذل المزيد. كما كان بحكم علاقاته وعمله السابق يعرف الكثير من المسئولين في القطاعين الحكوميّ والخاص، وكانت علاقته ببعضهم مباشرة، وبرغم أنّه كان يأنف أن يستغل تلك العلاقات يوماً لمصلحته الشّخصيّة، إلا أنّه كان مستعدّاً للوقوف على أبوابهم إذا ما قصده زميل أو محتاج في خدمة. أذكر أنّه عندما تعرّض طفلي الصّغير لوعكة صحيّة استدعت بقاؤه في أحد المستشفيات الخاصّة لم يترك أحداً من أطبّاء الأطفال في السّلطنة دون أن يحدّثهم عن حالته برغم أنني لم أطلب منه ذلك، وبرغم أنّني شخصيّاً لم أهتم بابني كما اهتمّ هو به، وأذكر كذلك أنّني حدّثته عن رغبة بعض من أعرفهم في بناء مجلس عامّ يخدم قريتهم فإذا به يطلب منّي الأوراق المتعلّقة بالمجلس كي يقدّمها لبعض من يعرفهم من أصحاب الأيادي البيضاء، كما كان مستعدّاً للتبرّع بآخر ريال في جيبه من أجل إقامة حفلة تكريم لموظّف مجيد، أو للتبرّع لشخص مريض حتّى ولو لم يكن يعرفه، أو لتقديمها إلى عمّال النّظافة الملحقين بالدّائرة، عدا مساهمته في كثير من الأعمال التطوّعيّة المجتمعيّة التي تنفّذها بعض المؤسّسات والفرق، وقس على ذلك مواقف انسانيّة كثيرة لا يتّسع المجال لسردها.

وكأنّ اللحظات الجميلة تأبى أن تستمر لنفاجأ ذات صباح بإصابة والده بالفشل الكلويّ الأمر الذي يستدعي معه سفره للعلاج لاستبدال الكليتين أو احداهما، فإذا بخالد يبذل المستحيل من أجل والده. لم يرض أن يبحث عن متبرّع بكليته مقابل مبلغ من المال كما يفعل الكثيرين فهو ليس على استعداد للمغامرة بفشل العمليّة ولو بنسبة 1%، ولم يرض كذلك أن يتحمّل والده ألم الغسيل الكلويّ، ولا مواعيد الجلسات والمراجعات، بل أصرّ على أن يتبرّع هو بنفسه مهما كلّفه الأمر، وحتّى لو كانت حياته هي المقابل، وكم كانت فرحته غامرة عندما أخبره الأطبّاء بقدرته على التبرّع. كنت أرى دموع الفرح في عينيه وكأنّ الأمر يتعلّق بالحصول على منصب ما لا التخلّي عن جزء مهمّ من جسده!!

مازلت أتذكّر آخر عبارة قالها لي قبل سفره " الحياة لا تساوي كلّ هذا التّعب والجري خلفها. لا تعتقد أنّني خائف أو متوتّر من العمليّة، على العكس فأنا سعيد لأنّي سأقوم بأجمل شي قد أقوم به في حياتي، ألا وهو أن أردّ شيئاً بسيطاً من تعب والدي وتضحياته تجاهي وإخوتي. إنّ والدي لا يعرف حتّى هذه اللّحظة أنّني من سيتبرّع له بكليته، ولن أخبره مستقبلاً، فهذا ليس بالأمر الذي يدعو إلى المنّة أو التّفاخر، بل هو أدنى درجات الواجب، إنّني أنتظر هذه اللحظة اليوم قبل الغد، فما أجمل أن يكون مصيرك مرتبطاً بحياة والديك ".

يا لإنسانيّتك أيّها الخالد!! سيلطف بك ربّي وسيكافئك على قدر نيّتك وانسانيّتك وبرّك بوالديك، وستشفع لك دعوات الكثيرين ممّن وقفت معهم دون انتظار لمقابل. فقط أنتظر عودتك يا صديقي كي أراك كما تعوّدت عليك، بابتسامتك العذبة الصّادقة، و(قفشاتك) ومداعباتك البريئة، وكلّ مساحات الصدّق والنّقاء التي تغلّف سريرتك.
أنتظر عودتك كي أغلبك في دور (طاولة) مؤجّل تحدّينا فيه بعض كثيراً ولم نلعبه حتّى الآن.

أنتظر عودتك كي أناقشك في كثير من القضايا المجتمعيّة المؤجّلة، وكي أخبرك عن آخر من أزعجني من (حبايبي)، فما زلت أرمق باب مكتبك كلّ يوم كعادة ابتدأت منذ أوّل يوم عمل لي معك.

أنتظرك كي نسافر معاً لنقف الوقفة ذاتها ونحن نطالع معلماً تاريخيّاً حدّثتك عنه قبل سفرنا، ولنردّد العبارات ذاتها التي تمنح المكان سحراً عجيباً، وتحوّله من مجرّد جماد صامت، إلى روح ناطقة!

أنتظرك يا صديقي لأسباب كثيرة.. عد إلينا ولا تطوّل الغيبة، فكلّ شيء يشتاق إليك. وأنتم أيّها الأحبة: فقط..أدعوا له!



الأربعاء، 22 أبريل 2015

في نخل شاذون

ولأنّني أزعم أنّ لديّ عشقاً لتاريخ بلدي يجعلني أسهر كلّ ليلة على قراءة أحد كتبه دون مبالاة بوقت أو بغيره وهي عادة تولّدت معي منذ أن كنت في الصّفّ السّادس عندما اقتنيت كتاب (الفتح المبين) من مكتبة متنقّلة كانت تسيّرها وزارة التراث القومي والثّقافة (وقتها) ثمّ ذهبت كحال أشياء كثيرة جميلة لم تعد باقية!! ولأنّ هذا العشق يجعلني في كثير من الأحيان أتخيّل الأحداث والأماكن والشّخوص الواردة في تلك الكتب وكأنّني أعيش وسطهم، لهذا تراودني الرّغبة بعد كلّ مرّة أقرأ فيها كتاباً أو معلومة تاريخيّة أن أزور المكان الذي وقعت فيه تلك الأحداث، وأن أقف على مكانها، وأن أتخيّل مشاهدها!   

وعندما استيقضت ضحى السّبت قبل الفائت كانت الرّغبة قد تعدّت مرحلة الإلحاح لتدخل مرحلة التّنفيذ، وكان الخيار الأوّل هو الذّهاب إلى حمراء العبريّين، حيث مازال تأثير سطور كتاب (تبصرة المعتبرين) للعلامة الكبير ابراهيم بن سعيد العبري لم يبارح ذاكرتي، كما أنّني قد زرت نزوى وبهلا وتنوف أكثر من مرّة ووقفت على شواهدها الأثرية ومسارح الأحداث بها، بعكس الحمراء التي حظيت بزيارة يتيمة لم يكن كياني التّاريخيّ وقتها قد تشكّل بوضوحه الحاليّ بعد. كانت رحلة جامعيّة اتذكّر منها سواقي مسفاة العبريّين، وبيوتها الفريدة في المعمار، وسؤالي المليء بكل استغراب الدنيا لمن حولي : كيف تمرّ تلك السواقي أسفل الصّخور!! وطعم ثمرة سفرجل أكلتها في بيت الصّديق الشّاعر أحمد بن هلال العبريّ عندما كنّا نتزامل وقتها في نصف جماعات الأنشطة الطّلابيّة الجامعيّة!

ولكنّ الوقت متأخرّ، وموعد وصولي قد يكون في الظّهيرة، فأين سأقضي ذلك الوقت حتّى العصر! وهل سأضمن وجود استراحة تأويني خلال تلك الفترة! أؤجّل رحلة الحمراء لأسابيع قادمة مع وعد لنفسي بتنسيق مسبق ليقفز الخيار الثّاني مباشرة وهو زيارة نخل والعوابي والرّستاق، فالولايات الثّلاث متقاربة، وهي فرصة لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، كما أنّ دليل هاتفي يحوي أسماء أصدقاء وطلبة لي من تلك الولايات أزعم أنّ علاقتي بهم ستجعلهم يستوعبون (جنوني) المفاجئ. لم أكذّب خبراً وإذ بي أهاتف صديقي النّخليّ بدر الجابري لأخبره في كلمات مقتضبة أنّني سأكون معه بعد حوالي ساعة ونصف من الآن، وأنّ عليه أن يفرّغ من وقته ساعة قد تكون كافية للإجابة على تساؤلات كانت محتبسة في وجدان عاشق التّاريخ الذي بداخلي. هكذا بلا إحم ولا دستور، وبدون أن أترك له فرصة الاختيار كانت رجلي تضغط على دوّاسة البنزين في سيّارتي معلنة بداية رحلة جديدة من رحلات البحث عن إبداع الإنسان العمانيّ في بقعة أخرى من بقاع هذا الوطن الجميل.

بعد رحلة توهان متوقّعة اضطرّتني لدخول حارات بركا القديمة وسوقها بدلاً من الانعطاف من الطّريق السريع نحو حلبان فالطّوّ ثمّ نخل اختصاراً للمسافة، وهروباً من زحمة طريق الباطنة، وكلّ ذلك بسبب لوائح الطّريق الإرشاديّة الواضحة (جدّاً)، والتي تفترض فيك أن تكون إمّا من سكّان المنطقة الأصليّين العارفين بدروبها ومسالكها، أو متخصّصاً في علوم الجغرافيا والمساحة، وبعد أن استعنت بأكثر من صديق وعابر طريق ليرشدني إلى خيط يقودني نحو الطّريق الصحيح، أصل إلى نخل، أو شاذون كما كانت تسمّى سابقاً.

 ولأن وقت وصولي كان متأخّراً بعض الشّيء، وشمس الظّهيرة تصبّ حمماً من لهيبها فوق رؤوسنا فقد كانت جولتي سريعة، حيث اكتفيت من نخل بحاراتها القديمة كحارة (العتيك) بقلعتها الشّهيرة التي تحمل اسم الولاية والمحمولة على صخرة ضخمة كمشهد آخر من مشاهد الإبداع العماني الذي يبهرك بشيء جديد متفرّد في كلّ بقعة تصل إليها قدماك، وحارة (الجميمي) ذات الصّباحات الثلاثة، وحارة (الجباجب) القريبة من جامع نخل الشهير، وحارة (الغريض) المبنيّة من الطّين بمعالم سورها العريق وبوّاباته القديمة، وبمساجدها الأثريّة كمسجد الغريض، والمكبّر، وهي مساجد لعبت دوراً مهمّاً في التّاريخ العماني، وشهدت تنصيب أئمّة، وتخريج علماء أسهموا في مدّ إشعاع النّور إلى أقصى مدى يصل إليه، وتأليف كتب أثرت المكتبة العمانيّة على مرّ عصورها، حالها كحال جامع نخل الذي كان موسوعة للوثائق العمانيّة بما احتواه من شواهد، وكتابات كان يمكن لها أن تضيف الكثير لحركة التّأريخ العماني لولا أن امتدّت إليه اليد العبقريّة المبدعة في عصر العلم والتّكنولوجيا لتساوي به الأرض بحجّة إعادة ترميمه، وهي ذات اليد العبقريّة التي امتدّت إلى كثير من الحارات والمنازل والمساجد والمجالس والمدارس الأثريّة لتجعلها أثراً بعد عين بداعي شهر البلديّات، أو لدواعي أخرى متعدّدة قاسمها المشترك الجهل بأهمّيّة هذا التّراث، ومدى ما يمكن أن يضيفه إلى البلد تراثيّاً، وسياحيّاً، واقتصاديّاً، وفكريّاً. لم يكتف القائمين على ترميم جامع نخل بما فعلوه بحقّ الجامع، بل امتدّ تخطيطهم العبقري إلى سوقمة ضخمة ظلّت لمئات السّنين ملاذاً للوافدين إلى الولاية أو القاطنين بها من لهيب الشّمس الحارقة صيفاً، ومنتدى يناقشون فيه قضاياهم المجتمعيّة، ويتبادلون فيه الأشعار والحكم وأحداث التاريخ التي سطّرت حول المكان، وسوقاً يعرضون فيه بضائعهم ومنتجاتهم. كلّ هذا ذهب في غمضة عين، كما ذهب وسيذهب غيرها في أماكن أخرى من هذا الوطن، ثمّ نطلق عقيرتنا بالنّحيب والنّواح ودبج المقالات، وإنشاء الوسوم والهاشتاجات للوم الآخرين والتّنديد بهم عندما يحاولوا صنع تاريخ عجزنا نحن عن الحفاظ على شواهده المختلفة، بينما نكتفي بتناقل كلمات الإشادة والمدح التي تنطلق من فاه هذا، وقلم ذاك، حتّى لو كان صاحبها غير معروف من الأساس!!

في نخل وقفت على قبر العالم الزّاهد أسد بن عبد الله الأغبري الذي كان سليل أسرة عريقة استوطنت حارة الغريض يوماً ما، وأثناء مروري بحاراتها ومساجدها تذكّرت علماءً وقضاة مرّوا على هذه الولاية العريقة التي لا تكاد تمرّ بضع صفحات من أيّ كتاب تاريخ عمانيّ دون ذكر اسمها كابن شايق، وطالوت النّخليّ، ونجدة اليحمديّ، وسعيد بن أحمد الكنديّ شيخ العلامة الكبير جاعد بن خميس، وغيرهم الكثير ممّن خطّوا بإسهامهم الفكري سطوراً مهمّة في سفر التّاريخ العمانيّ الضّخم.

ولأنّني في نخل فلابدّ لي من المرور على الثّوارة بمائها الرّقراق المتدفّق. لا أتذكّر آخر زيارة قمت بها إليها، ربّما كانت في أواخر التسعينات من القرن الماضي ضمن رحلة طلابيّة جامعيّة ما زلت أتذكّر مشهدها كما لو كانت بالأمس: ازدحام في المواقف الضّيّقة القريبة من العين، وأطفال ونساء يخضن الوادي القريب، وثمّة عائلات تفترش الأرض هنا وهناك باحثين عن مكان شبه مناسب للجلوس وإقناع أنفسهم أنّهم في رحلة سياحيّة قطعوا من أجلها عشرات بل مئات الكيلو مترات، وشباب يحتلّون المكان المرتفع القريب من العين بينما صدى غنائهم القبيح، وأصوات طبولهم النّشاز تملأ أرجاء المكان مسبّبة تلوّثاً صوتيّاً قد لا يختلف عن بقيّة أنواع التّلوّث البصريّ الموجود ، ورائحة شواء تنبعث من هنا وهناك، وكثير من أكياس البلاستيك التي لربّما نسي أصحابها في غمرة نشوتهم بالمكام وسحره أن يأخذونها في طريق عودتهم، أو أن يتخلّصون منها في أقرب مقلب قمامة!!

تقترب سيّارتنا من العين وأنا أدعو الله في سرّي أن يكون المشهد قد تبدّل، فعشرين سنة قد تكون كافية لإحداث تغيير فكريّ واقتصاديّ يجعل المكان أكثر جاذبيّة، ولكن نظرة عابرة إلى المكان كانت كافية كي أطلب من مرافقي العودة من حيث أتينا، بحجّة استغلال الوقت في رؤيّة مكان آخر لم أره من قبل!! شيطاني الذي بداخلي كان يوسوس لي: ترى لو كان هذا المكان في (شيانغماي) التّايلنديّة، أو في دولة جارة أعرفها جيّداً فكيف سيكون وضعه! ملعون أنت أيها الشّيطان الرّجيم.

قبل العصر تركت نخل وأنا أتمثّل بيتين لابن رزيق يقول فيهما:

هواك يا جنّة الأخيار شاذون... روح القلوب بحبّ الرّاح مقرون

عليك أزكى تحيّات الإله فلي... قلب بحبّــك والسكــــّان مفتون

الخميس، 16 أبريل 2015

مقــال..والسلام

السّاعة الآن تقترب من الرّابعة من صبيحة يوم الأربعاء، وعبد اللّه خميس ينتظر مقالي الذي كان يفترض أن أسلّمه له ظهر الأمس، لولا التراكمات الفكريّة التي تتوالى على مخّي الذي سيشتكي عليّ يوماً ما وأبت أن تتيح له المجال للتفكير في أيّ موضوع بعد أن وصل إلى مرحلة (الخرس الفكريّ)، وهي مرحلة تختلف عن الخرس العاطفيّ الذي قد يظهر عند بعض الرّجال بعد الزّواج بسنوات، أو بأشهر أحياناً، لأن النتائج في الثانية قد تكون أكثر وخامة، وقد تصل إلى حدّ التعليب (أقصد تعليب أجزاء الرّجل) في جواني لو كانت المرأة من النوع الذي يظهر في أدوار الحموات في الأفلام المصريّة القديمة.

كنت أودّ أن أكتب لكم هذا الاسبوع عن تفاصيل رحلتي الأخيرة إلى نخل والعوابي ضمن سلسلة من الزّيارات والرّحلات التي أقوم بها من حين لآخر لإعادة اكتشاف التاريخ في بلدي العظيم. كانت رحلة ممتعة ومؤلمة في آن واحد، بدأتها بالثّوّارة، مروراً بجامع نخل الذي تفتّقت عبقريّة بعض المخطّطين لأن يهدموه ويعيدوا بناءه من جديد، دون التفكير في مصير ما يحتويه من موسوعات ثمينة تتمثّل في الكتابات التي تزيّن جدرانه وتوثّق لجانب مهمّ من تاريخ عمان العريق، وأنهيتها بالوقوف على أطلال بيت الشيخ، ولكن الكتابة عنها تحتاج إلى (دماغ) عالية، وهذا ما لا يتوافر لديّ في هذه اللحظة.

هل نتكلّم في السياسة! ولكنّي مقاطع للقنوات الإخباريّة منذ حوالي سنتين، كما أنّ الكتابة عن أيّ قضيّة سياسيّة عربيّة حتماّ لن تعجب الكثيرين، وإن نالت رضا بعضهم فلأنّها غالباً توافقت مع (ميولهم) الفكريّة أو السياسيّة في ظلّ تحوّل الكثيرين من المتديّنين والمفكّرين، والمثقّفين، والعقلاء، والمجانين إلى مشجّعي درجة ثالثة في أستاد كرة عربيّ مزدحم، كلّ يطلق حنجرته دفاعاً عن فريقه حتّى لو لم يكن يؤدّي أداءً جيّداً، وحتّى لو لم يكن هو ذاته (أي المشجّع) يرى سير الأداء بفعل التّزاحم، والصّراخ، والعويل، والهتافات المتبادلة التي تنقلب أحياناً إلى تحاذفهم بالطّوب والأحذية وأيّ شيء يقع في أيديهم!!

تبقّت حوالي 600 كلمة، عمّ نتكلّم إذاً! لا بأس من الحديث عن بعض الذّكريات، فليس هناك أسهل من استرجاع بعض الأحداث الماضية خاصّة لو كانت مواقفها ما تزال موسومة في قلبك، ساكنة في وجدانك.

كان والدي يملك (دكّاناً) يعدّ صغيراً مقارنة بمحلات اليوم، ولكنّه كان وقتها (قبل حوالي ثلاثين عاماً) محلاً مهمّاً بالنسبة لمجتمعه الصّغير، عامراً بكثير من السّلع والبضائع من الإبرة للباطلي (نوع من الأدوية الشعبيّة)، وكان بجنب (دكّانته) التي يجلس عليها (سحّارة) يضع فيها بعض الكتب الدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة، أتذكّر منها الآن كتاب (قصص الأنبياء)،و(الطّبّ النّبوي)، وديوان شعريّ ضخم للمتنبّي، وكتيّب أخضر اللّون يتحدّث عن معركة القادسيّة كتب أخي على غلافه اسمه بخطّ جميل عندما كانت خطوط الطّلبة جميلة وواضحة! وكنت أقضي وقتي الصّباحيّ في مطالعة الرّسومات، وتهجّي بعض الكلمات، أو تأمّل نظّارة والدي وهو يطالع في تلك الكتب عند خلوّ الدّكّان من الزّبائن.

أمّا عندما يحين المساء فقد كنّا نتحلّق أنا وبعض إخوتي ممّن لم يلتحقوا بالدّراسة أو العمل خارج القرية حول والدينا للعشاء الذي كان الالتزام بوقته أمراً مقدّساً حاله كالغداء والإفطار، ومن ثمّ الاستماع إلى بعض القصص والمواقف، بينما يتنقّل أبي بمؤشّر مذياعه العتيق بين إذاعتي لندن و(صوت القرآن الكريم من مكّة المكرّمة) التي ما زال صدى مقدّمة برنامجها الشّهير (نور على نور) يرنّ في أذنيّ حتّى الآن، ثمّ أرافق والدتي إلى بيت جدّتي حيث تتجمّع عدد من جاراتها وقريباتها ممّن في سنّها في حديث ليليّ ممتع لا يقطعه إلا صوت تثاؤبي وأنا مستلق على ركبة والدتي حفظها الله.
 
كانت تلك الحصّة اليوميّة اللّيليّة كافية كي أتعلّم أشياء كثيرة ربّما لم تكن المناهج التربويّة الحاليّة بكلّ أنشطتها، وغرف مصادرها الفخمة، وكتبها ذات الألوان الجميلة لتكفي أن تغرسها في داخلي، ففيها استمعت إلى كثير من القصص الأسطوريّة أو الحقيقيّة التي كانت تحوي رسائل تربويّة مهمّة، وفيها تعرّفت على تاريخ مجتمعي وطرق معيشة أهله سابقاً، ومدى تكافلهم وتراحمهم في ظلّ الصّعوبات الحياتيّة التي ماكانوا ليواجهوها لولا تلاحمهم وتكاتفهم، وفيها حفظت كثيراً من الأشعار والأناشيد التي كان بعض أقاربي الكبار يأتون في أجازاتهم ليسمعوها منّي مقابل مبالغ ماليّة على سبيل التّشجيع، ومن بينها (يا الطّيرة فرّي للحدّ..هاتي لي من الكرب ليف..صخّي لا يسمعك حدّ.. وانتي طبعك ضعيف)، وفيها كنت أطلق العنان لعقلي الصّغير كي يسأل أسئلة وجوديّة عن اللّه، والرّسول، والسّماء، والقمر، والنّجوم، وأيّهما أكبر: هل القمر أم الجبل! وهل السّماء أم البحر!!

أتذكّرها كلّ ليلة وأنا أرى ابني في جلسته اليوميّة الكئيبة أمام التلفزيون يتنقّل في ملل من قناة لأخرى، بينما أخته تعبث بــ (الآي باد) علّها تجد لعبة تقتل بها وقت فراغها. أتذكّرها وأنا أشاهد وألمح كلّ يوم مواقف حياتيّة قد يكون الحديث عنها أكثر ايلاماً من السّكوت عنها، عنوانها الإندفاع الكبير نحو اكتساب عادات دخيلة بداعي التحضّر أو مواكبة العصر، أو مسايرة التكنولوجيا، في ظلّ تراجع مخيف للقيم الدينيّة والمجتمعيّة. وبينما كانت والدتي – وغيرها من نساء تلك المرحلة- تغطّي وجهها حياء وخجلاً لو رأت صورة رجل ما في التلفزيون، فإنّ اندماج (بعض) النّساء في المجتمع أصبح مبالغاً فيه بطريقة تكاد تكون سمجة وغير مبرّرة تحت دواعي التحضّر والتمدّن والانفتاح، وكون المرأة شريكة الرّجل!!

ذكّروني أن أبحث عن ديوان المتنبّي في أحد مناديس منزل العائلة، على الأقل أريد أن أعود إلى القصيدة التي أخذت من أحد أبياتها معرّفاً (للبروفايل) الشخصي في برنامج الواتساب، والذي يرى فيه أحد الأصدقاء نوعاً من الشّرك ويدعوني في كلّ مرّة إلى حذفه. يبدو أنّ هناك من تستهويه هواية الإطّلاع على صور ومعرّفات الآخرين في برامج التّواصل الإجتماعي، ومن ثمّ الحكم على شخصيّاتهم من خلال هذه الصّور والمعرّفات. البيت يقول: أريد من زمني ذا أن يبلّغني.. ما ليس يبلغه من نفسه الزّمن.
هل ترون في كلمات البيت شيئاً من الشّرك!! شخصيّاً لم أفكّر في هذا الأمر سوى بعد أن أثار صاحبي الموضوع! هناك أشياء كثيرة نضطر لترك أولويّاتنا الحياتيّة والفكريّة، ونظل نتجادل حولها لفترات طويلة لمجرّد أن بعضنا ينظر إليها من خلال منظار أسود غاية في الضيق!!

انتهت التسعمائة كلمة وأنا لم أنته بعد من مقالي! يبدو أنّ ما كتبته كاف كي أذهب إلى فراشي مستحضراً بيت المتنبّي الشهير "أنام ملء جفوني عن شواردها.."، فقد أوفيت بوعدي لعبد الله خميس وكتبت مقالاً..والسلام.

الأربعاء، 1 أبريل 2015

عن عاصفة الحزم!!

فجأة وبدون مقدّمات شعرت السعوديّة ومن يتبعها من الدّول العربيّة والإسلاميّة أنّ اليمن أصبح في خطر، وأنّ الشرعيّة أصبحت مهدّدة، وأن هناك ظلماً يمارس من قبل فصيل بعينه تجاه بقيّة المكوّنات السّكّانيّة في اليمن، فرأت من باب الواجب الإنساني والإسلامي أن تتدخّل لإرجاع الحقوق إلى أهلها، ووقف الظّلم والحيف عن اليمنيّين، واستعادة الشّرعيّة التي كادت أن تسلب!! فكانت عاصفة الحزم التي شاركت فيها حوالي 10 دول عربيّة واسلاميّة لدوافع مختلفة، قد يكون البحث عن منافع اقتصاديّة، أو الخوف من فقدان مكاسب معيّنة أبرزها بغضّ النظر عن مدى ايمانهم بالشعارات التي تنادي بها الحملة!

شخصيّاً أرى أن عاصفة الحزم تعدّ خطأ سياسيّاً جسيماً لم تتم دراسته بعناية؛ وربّما كان الدّافع ورائها هو خوف السعودية في أن تقع بين كمّاشتين إحداهما من طرف العراق وأخرى من اليمن؛ وقد يكون السّبب كذلك رغبة السعودية في القيام بعمل يعيد لها دورها السابق كحاضن سنّي بعد شعورها بالفشل في سوريا؛ ونجاح إيران في لعب دور إقليمي كبير بالمنطقة.

وقد تكون أيضاً محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه بعد أن أساءت السعوديّة ومن يتبعها التعامل مع الملفّ اليمني من البداية، فهي من أطلق المارد من قمقمه، وهي من دعمت الحوثيّين نكاية بحزب التجمّع اليمني للإصلاح المحسوب على الاخوان، وهي من سهّلت لصالح وأتباعه التحرّك، وهي من أتت بابنه أحمد سفيراً في الامارات تمهيداً لدور مستقبليّ يقوم به بعد التخلّص من العقبات المتمثّلة في الاخوان وبقيّة القوى السياسيّة المعارضة لتوجّهاتها، في تكرار للسيناريو المصري سابقاً، وربّما الليبي والفلسطيني لاحقاً، وفوجئت بعدها بتمدّد الحوثيين وتوسّعهم، وعدم وجود مقاومة من قبل الإخوان أو القوى القبلية والسياسيّة الأخرى، فانقلب السحر على الساحر كما يقال.

وإذا كان بعض مؤيّدي الضربة أو العاصفة قد فرحوا بعدم وجود ردّة فعل مباشرة لإيران، واعتبروا هذا الأمر بمثابة خوف وتراجع ايراني، الأمر الذي طالبوا معه التحالف باستغلال الفرصة والتدخّل في سوريا كذلك، فهم في هذا لا يجيدون قراءة الواقع السّياسي والتّاريخي جيّداً، فأهمّيّة اليمن بالنسبة لإيران قد تكون ثانويّة سياسيّاً ودينيّاً وتاريخيّاً مقارنة بأهمّيّة العراق وسوريا اللاتي تعتبرهن ايران ضمن نطاقها الحيويّ، لأسباب دينيّة تتمثّل في وجود مكوّنات سكّانيّة شيعيّة، ومزارات ومراقد مقدّسة، إضافة إلى العلاقات التاريخيّة، والأحلام المستقبليّة، لذا فاليمن مع بعدها الجغرافي قد تكون ورقة مفاوضات تكسب من خلالها ايران بعض المزايا؛ خاصة وأنّها لا تستطيع الدّخول في مغامرة عسكريّة هناك بسبب إنهاك جهودها الماليّة والعسكرية في عمليّاتها الدائرة بسوريا والعراق.

شخصيّاً أرى أن نتائج الضربة قد تؤدي فقط إلى إيقاف تقدم الحوثيين لبعض الوقت؛ أو إبقاء الوضع كما هو عليه لحين الدخول في مفاوضات؛ خاصّة وأنّني أستبعد التدخل البرّي لحسم المعركة، فهو يعدّ مغامرة كبيرة؛ وما زال هؤلاء يتذكّرون المغامرة المصرية في الستّينات وفشلها؛ كما أن وعورة تضاريس اليمن، وعدم وجود قوات متمرسة على حرب العصابات، ومعرفة الحوثيّين بجغرافيّة بلدهم كون مناطقهم في الأساس جبليّة وعرة، قد يكون عاملاً أساسيّاً لفشلها؛ مع ضعف الاعتماد على قوات يمنيّة للسيطرة على الوضع هناك؛ خاصّة وأنّه لا يوجد فصيل يمني قويّ يمكن الاعتماد عليه في ظلّ تشرذم هذه القوى، وقد يكون اللجوء إلى طاولة المفاوضات هو الخيار الوحيد المتاح لحلحلة الأزمة.

على المدى البعيد قد يكون لهذه الأزمة تداعيات سلبيّة عديدة، فهي ستؤدّي إلى ازدياد الوضع السياسي المستقبلي في اليمن سوءاً، كما سيؤدّي إلى سيطرة محور واحد فقط على السّاحة السياسيّة العربيّة وهو المحور الذي يطلق على نفسه "محور الاعتدال"، وقد رأينا ذلك واضحاً من خلال القمّة العربيّة الأخيرة التي عقدت في مدينة "شرم الشّيخ"، وما نتج عنها من قرارات أهمّها تشكيل القوّة العربيّة المشتركة التي يبدو أنّها ستستخدم لتنفيذ سياسات هذه الدّول فقط، والتي قد يكون من بينها مساندة التيّارات السياسيّة الموالية لها في بعض الدّول العربيّة على حساب تيّارات أخرى بحجّة القضاء على الإرهاب، ولن أستبعد أن نسمع قريباً عن تدخّلات عسكريّة في ليبيا أو غزّة، إضافة إلى أنّها ستعمّق الهوّة بين الجناحين الشيعي والسنّي، وستزيد من حالة الاحتقان المتبادل بينهما؛ وقد تؤدي إلى المزيد من القلاقل من خلال قيام البعض بعمليات انتقام نوعيّة هنا وهناك.

أمّا بالنسبة للموقف العماني من الأزمة فهو برأيي موقف صحيح لعدة اعتبارات لعلّ من بينها: المبادئ السياسية الواردة في النظام الأساسي تنصّ على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، كما أنّه لا مصلحة كبيرة لعمان في دخول الحرب نيابة عن الآخرين؛ أو بسبب نزوات البعض السياسية، أضف إلى ذلك أنّ السّلطنة من أكثر المتأثرين بعدم استقرار الأوضاع باليمن؛ لأنّها جارة تربطنا بها حدود جغرافيّة ممتدّة، وعلاقات انسانيّة واجتماعيّة واقتصاديّة متداخلة؛ وستبقى كذلك إلى مالا نهاية؛ بعكس كثير من الدول الداخلة في التحالف والتي لن تتأثر كثيراً بسبب بعد المسافة نسبياً وعدم وجود حدود مشتركة مع اليمن؛ لذا فإن الحياد العماني قد يجنب السلطنة أيّة ردّات فعل سلبيّة يمنية مستقبلاً، كما أنّ تكلفة الطلعات الجوّيّة مرتفعة من النّاحية المادّيّة؛ وهذا بدوره يمكن أن يسهم في تأزيم الوضع المالي للسلطنة في حالة اشتراكها بهذا التحالف.

الأهمّ من هذا وذاك أنّ السّلطنة لعبت خلال الفترة السابقة دور راعي السلام الذي تثق به كافة الأطراف في حل الأزمات السياسيّة المختلفة؛ لذا فمن المهم أن تبقى على حيادها المعهود كي تلعب دورها القادم كمرجع للأطراف المتنازعة؛ وكوسيط لحلحلة المشكلة، وهو الأمر الذي يتنبّأ كثير من المحلّلين السياسيّين بحدوثه قريباً.

أمّا المخاوف التي تعتري البعض حول إمكانية تأثّر عمان اقتصاديّاً وسياسيّاً من جرّاء عدم دخولها الحلف؛ وبالتالي التأثر سلبيّاً من إمكانية تبنّي دول الخليج الأخرى لموقف مستقبلي سلبي تجاه السّلطنة يتمثّل في عدم مساندتها مالياً في أيّ أزمة مستقبلية، أو مضايقة رعاياها في تلك الدّول فهو كلام مردود عليه؛ فعمان موقفها ثابت في قضايا عديدة كان للبقيّة رأي مغاير بها؛ كما أن عمان لا تعتمد على أحد بشكل مباشر في حلّ أزماتها؛ وإلا لرأيناها توافق بقية دول الخليج في مواقف أخرى كالقضية السورية وإغلاق السّفارة السوريّة، أو الموقف السّابق من قطر، وغيرها من القضايا التي كان لعمان رأي خاص بها.

كشفت العاصفة عن التناقض الواضح في مواقف كثير من المثقّفين المحسوبين على التيّارات السياسيّة والفكريّة المختلفة، ففي الوقت الذي رأينا فيه تأييداً واضحاً من قبل عدد كبير من الدّعاة والمفكّرين والمثقّفين المحسوبين على التّيّارات الاسلاميّة السياسيّة بحجّة القضاء على الخطر المجوسيّ الرّافضيّ الصفويّ!! وتصفية (أذناب) إيران في المنطقة، ومنع المدّ الشيعي، وهم الذين كانوا يتباكون على دماء الأطفال والشّيوخ والنّساء في سوريا ومصر والعراق وغيرها!! فإنّنا رأينا في المقابل رفضاً لما حدث من قبل بعض المحسوبين على التّيّارات اليساريّة والقوميّة، أو التي في حالة عداء مع الإسلام السياسي بحجّة عروبة اليمن، وحقوق الإنسان، وغيرها من الحجج، وهم أنفسهم كانوا سيؤيّدون هذا التّحالف لو كان موجّهاً ضدّ حزب التجمّع اليمني للإصلاح المحسوب على الإخوان، ووقتها سينسون عروبة اليمن، والانسانيّة، وحرمة الاعتداء على النّفس البشريّة، وسيحاولون تبرير ما يحدث بأيّ وسيلة، وهم أنفسهم أيّدوا تدخّل السعوديّة وحلفائها في الشأن المصريّ من قبل، وسيؤيّدونه مستقبلاً لو تمّ توجيهه ضد فجر الاسلام في ليبيا، أو حماس في فلسطين، ولتذهب كافّة المبادئ والمعايير الإنسانيّة إلى الجحيم!!