السّاعة الآن تقترب من الرّابعة من صبيحة يوم الأربعاء، وعبد اللّه خميس ينتظر مقالي الذي كان يفترض أن أسلّمه له ظهر الأمس، لولا التراكمات الفكريّة التي تتوالى على مخّي الذي سيشتكي عليّ يوماً ما وأبت أن تتيح له المجال للتفكير في أيّ موضوع بعد أن وصل إلى مرحلة (الخرس الفكريّ)، وهي مرحلة تختلف عن الخرس العاطفيّ الذي قد يظهر عند بعض الرّجال بعد الزّواج بسنوات، أو بأشهر أحياناً، لأن النتائج في الثانية قد تكون أكثر وخامة، وقد تصل إلى حدّ التعليب (أقصد تعليب أجزاء الرّجل) في جواني لو كانت المرأة من النوع الذي يظهر في أدوار الحموات في الأفلام المصريّة القديمة.
كنت أودّ أن أكتب لكم هذا الاسبوع عن تفاصيل رحلتي الأخيرة إلى نخل والعوابي ضمن سلسلة من الزّيارات والرّحلات التي أقوم بها من حين لآخر لإعادة اكتشاف التاريخ في بلدي العظيم. كانت رحلة ممتعة ومؤلمة في آن واحد، بدأتها بالثّوّارة، مروراً بجامع نخل الذي تفتّقت عبقريّة بعض المخطّطين لأن يهدموه ويعيدوا بناءه من جديد، دون التفكير في مصير ما يحتويه من موسوعات ثمينة تتمثّل في الكتابات التي تزيّن جدرانه وتوثّق لجانب مهمّ من تاريخ عمان العريق، وأنهيتها بالوقوف على أطلال بيت الشيخ، ولكن الكتابة عنها تحتاج إلى (دماغ) عالية، وهذا ما لا يتوافر لديّ في هذه اللحظة.
هل نتكلّم في السياسة! ولكنّي مقاطع للقنوات الإخباريّة منذ حوالي سنتين، كما أنّ الكتابة عن أيّ قضيّة سياسيّة عربيّة حتماّ لن تعجب الكثيرين، وإن نالت رضا بعضهم فلأنّها غالباً توافقت مع (ميولهم) الفكريّة أو السياسيّة في ظلّ تحوّل الكثيرين من المتديّنين والمفكّرين، والمثقّفين، والعقلاء، والمجانين إلى مشجّعي درجة ثالثة في أستاد كرة عربيّ مزدحم، كلّ يطلق حنجرته دفاعاً عن فريقه حتّى لو لم يكن يؤدّي أداءً جيّداً، وحتّى لو لم يكن هو ذاته (أي المشجّع) يرى سير الأداء بفعل التّزاحم، والصّراخ، والعويل، والهتافات المتبادلة التي تنقلب أحياناً إلى تحاذفهم بالطّوب والأحذية وأيّ شيء يقع في أيديهم!!
تبقّت حوالي 600 كلمة، عمّ نتكلّم إذاً! لا بأس من الحديث عن بعض الذّكريات، فليس هناك أسهل من استرجاع بعض الأحداث الماضية خاصّة لو كانت مواقفها ما تزال موسومة في قلبك، ساكنة في وجدانك.
كان والدي يملك (دكّاناً) يعدّ صغيراً مقارنة بمحلات اليوم، ولكنّه كان وقتها (قبل حوالي ثلاثين عاماً) محلاً مهمّاً بالنسبة لمجتمعه الصّغير، عامراً بكثير من السّلع والبضائع من الإبرة للباطلي (نوع من الأدوية الشعبيّة)، وكان بجنب (دكّانته) التي يجلس عليها (سحّارة) يضع فيها بعض الكتب الدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة، أتذكّر منها الآن كتاب (قصص الأنبياء)،و(الطّبّ النّبوي)، وديوان شعريّ ضخم للمتنبّي، وكتيّب أخضر اللّون يتحدّث عن معركة القادسيّة كتب أخي على غلافه اسمه بخطّ جميل عندما كانت خطوط الطّلبة جميلة وواضحة! وكنت أقضي وقتي الصّباحيّ في مطالعة الرّسومات، وتهجّي بعض الكلمات، أو تأمّل نظّارة والدي وهو يطالع في تلك الكتب عند خلوّ الدّكّان من الزّبائن.
أمّا عندما يحين المساء فقد كنّا نتحلّق أنا وبعض إخوتي ممّن لم يلتحقوا بالدّراسة أو العمل خارج القرية حول والدينا للعشاء الذي كان الالتزام بوقته أمراً مقدّساً حاله كالغداء والإفطار، ومن ثمّ الاستماع إلى بعض القصص والمواقف، بينما يتنقّل أبي بمؤشّر مذياعه العتيق بين إذاعتي لندن و(صوت القرآن الكريم من مكّة المكرّمة) التي ما زال صدى مقدّمة برنامجها الشّهير (نور على نور) يرنّ في أذنيّ حتّى الآن، ثمّ أرافق والدتي إلى بيت جدّتي حيث تتجمّع عدد من جاراتها وقريباتها ممّن في سنّها في حديث ليليّ ممتع لا يقطعه إلا صوت تثاؤبي وأنا مستلق على ركبة والدتي حفظها الله.
كانت تلك الحصّة اليوميّة اللّيليّة كافية كي أتعلّم أشياء كثيرة ربّما لم تكن المناهج التربويّة الحاليّة بكلّ أنشطتها، وغرف مصادرها الفخمة، وكتبها ذات الألوان الجميلة لتكفي أن تغرسها في داخلي، ففيها استمعت إلى كثير من القصص الأسطوريّة أو الحقيقيّة التي كانت تحوي رسائل تربويّة مهمّة، وفيها تعرّفت على تاريخ مجتمعي وطرق معيشة أهله سابقاً، ومدى تكافلهم وتراحمهم في ظلّ الصّعوبات الحياتيّة التي ماكانوا ليواجهوها لولا تلاحمهم وتكاتفهم، وفيها حفظت كثيراً من الأشعار والأناشيد التي كان بعض أقاربي الكبار يأتون في أجازاتهم ليسمعوها منّي مقابل مبالغ ماليّة على سبيل التّشجيع، ومن بينها (يا الطّيرة فرّي للحدّ..هاتي لي من الكرب ليف..صخّي لا يسمعك حدّ.. وانتي طبعك ضعيف)، وفيها كنت أطلق العنان لعقلي الصّغير كي يسأل أسئلة وجوديّة عن اللّه، والرّسول، والسّماء، والقمر، والنّجوم، وأيّهما أكبر: هل القمر أم الجبل! وهل السّماء أم البحر!!
أتذكّرها كلّ ليلة وأنا أرى ابني في جلسته اليوميّة الكئيبة أمام التلفزيون يتنقّل في ملل من قناة لأخرى، بينما أخته تعبث بــ (الآي باد) علّها تجد لعبة تقتل بها وقت فراغها. أتذكّرها وأنا أشاهد وألمح كلّ يوم مواقف حياتيّة قد يكون الحديث عنها أكثر ايلاماً من السّكوت عنها، عنوانها الإندفاع الكبير نحو اكتساب عادات دخيلة بداعي التحضّر أو مواكبة العصر، أو مسايرة التكنولوجيا، في ظلّ تراجع مخيف للقيم الدينيّة والمجتمعيّة. وبينما كانت والدتي – وغيرها من نساء تلك المرحلة- تغطّي وجهها حياء وخجلاً لو رأت صورة رجل ما في التلفزيون، فإنّ اندماج (بعض) النّساء في المجتمع أصبح مبالغاً فيه بطريقة تكاد تكون سمجة وغير مبرّرة تحت دواعي التحضّر والتمدّن والانفتاح، وكون المرأة شريكة الرّجل!!
ذكّروني أن أبحث عن ديوان المتنبّي في أحد مناديس منزل العائلة، على الأقل أريد أن أعود إلى القصيدة التي أخذت من أحد أبياتها معرّفاً (للبروفايل) الشخصي في برنامج الواتساب، والذي يرى فيه أحد الأصدقاء نوعاً من الشّرك ويدعوني في كلّ مرّة إلى حذفه. يبدو أنّ هناك من تستهويه هواية الإطّلاع على صور ومعرّفات الآخرين في برامج التّواصل الإجتماعي، ومن ثمّ الحكم على شخصيّاتهم من خلال هذه الصّور والمعرّفات. البيت يقول: أريد من زمني ذا أن يبلّغني.. ما ليس يبلغه من نفسه الزّمن.
هل ترون في كلمات البيت شيئاً من الشّرك!! شخصيّاً لم أفكّر في هذا الأمر سوى بعد أن أثار صاحبي الموضوع! هناك أشياء كثيرة نضطر لترك أولويّاتنا الحياتيّة والفكريّة، ونظل نتجادل حولها لفترات طويلة لمجرّد أن بعضنا ينظر إليها من خلال منظار أسود غاية في الضيق!!
انتهت التسعمائة كلمة وأنا لم أنته بعد من مقالي! يبدو أنّ ما كتبته كاف كي أذهب إلى فراشي مستحضراً بيت المتنبّي الشهير "أنام ملء جفوني عن شواردها.."، فقد أوفيت بوعدي لعبد الله خميس وكتبت مقالاً..والسلام.
كنت أودّ أن أكتب لكم هذا الاسبوع عن تفاصيل رحلتي الأخيرة إلى نخل والعوابي ضمن سلسلة من الزّيارات والرّحلات التي أقوم بها من حين لآخر لإعادة اكتشاف التاريخ في بلدي العظيم. كانت رحلة ممتعة ومؤلمة في آن واحد، بدأتها بالثّوّارة، مروراً بجامع نخل الذي تفتّقت عبقريّة بعض المخطّطين لأن يهدموه ويعيدوا بناءه من جديد، دون التفكير في مصير ما يحتويه من موسوعات ثمينة تتمثّل في الكتابات التي تزيّن جدرانه وتوثّق لجانب مهمّ من تاريخ عمان العريق، وأنهيتها بالوقوف على أطلال بيت الشيخ، ولكن الكتابة عنها تحتاج إلى (دماغ) عالية، وهذا ما لا يتوافر لديّ في هذه اللحظة.
هل نتكلّم في السياسة! ولكنّي مقاطع للقنوات الإخباريّة منذ حوالي سنتين، كما أنّ الكتابة عن أيّ قضيّة سياسيّة عربيّة حتماّ لن تعجب الكثيرين، وإن نالت رضا بعضهم فلأنّها غالباً توافقت مع (ميولهم) الفكريّة أو السياسيّة في ظلّ تحوّل الكثيرين من المتديّنين والمفكّرين، والمثقّفين، والعقلاء، والمجانين إلى مشجّعي درجة ثالثة في أستاد كرة عربيّ مزدحم، كلّ يطلق حنجرته دفاعاً عن فريقه حتّى لو لم يكن يؤدّي أداءً جيّداً، وحتّى لو لم يكن هو ذاته (أي المشجّع) يرى سير الأداء بفعل التّزاحم، والصّراخ، والعويل، والهتافات المتبادلة التي تنقلب أحياناً إلى تحاذفهم بالطّوب والأحذية وأيّ شيء يقع في أيديهم!!
تبقّت حوالي 600 كلمة، عمّ نتكلّم إذاً! لا بأس من الحديث عن بعض الذّكريات، فليس هناك أسهل من استرجاع بعض الأحداث الماضية خاصّة لو كانت مواقفها ما تزال موسومة في قلبك، ساكنة في وجدانك.
كان والدي يملك (دكّاناً) يعدّ صغيراً مقارنة بمحلات اليوم، ولكنّه كان وقتها (قبل حوالي ثلاثين عاماً) محلاً مهمّاً بالنسبة لمجتمعه الصّغير، عامراً بكثير من السّلع والبضائع من الإبرة للباطلي (نوع من الأدوية الشعبيّة)، وكان بجنب (دكّانته) التي يجلس عليها (سحّارة) يضع فيها بعض الكتب الدينيّة والتاريخيّة والأدبيّة، أتذكّر منها الآن كتاب (قصص الأنبياء)،و(الطّبّ النّبوي)، وديوان شعريّ ضخم للمتنبّي، وكتيّب أخضر اللّون يتحدّث عن معركة القادسيّة كتب أخي على غلافه اسمه بخطّ جميل عندما كانت خطوط الطّلبة جميلة وواضحة! وكنت أقضي وقتي الصّباحيّ في مطالعة الرّسومات، وتهجّي بعض الكلمات، أو تأمّل نظّارة والدي وهو يطالع في تلك الكتب عند خلوّ الدّكّان من الزّبائن.
أمّا عندما يحين المساء فقد كنّا نتحلّق أنا وبعض إخوتي ممّن لم يلتحقوا بالدّراسة أو العمل خارج القرية حول والدينا للعشاء الذي كان الالتزام بوقته أمراً مقدّساً حاله كالغداء والإفطار، ومن ثمّ الاستماع إلى بعض القصص والمواقف، بينما يتنقّل أبي بمؤشّر مذياعه العتيق بين إذاعتي لندن و(صوت القرآن الكريم من مكّة المكرّمة) التي ما زال صدى مقدّمة برنامجها الشّهير (نور على نور) يرنّ في أذنيّ حتّى الآن، ثمّ أرافق والدتي إلى بيت جدّتي حيث تتجمّع عدد من جاراتها وقريباتها ممّن في سنّها في حديث ليليّ ممتع لا يقطعه إلا صوت تثاؤبي وأنا مستلق على ركبة والدتي حفظها الله.
كانت تلك الحصّة اليوميّة اللّيليّة كافية كي أتعلّم أشياء كثيرة ربّما لم تكن المناهج التربويّة الحاليّة بكلّ أنشطتها، وغرف مصادرها الفخمة، وكتبها ذات الألوان الجميلة لتكفي أن تغرسها في داخلي، ففيها استمعت إلى كثير من القصص الأسطوريّة أو الحقيقيّة التي كانت تحوي رسائل تربويّة مهمّة، وفيها تعرّفت على تاريخ مجتمعي وطرق معيشة أهله سابقاً، ومدى تكافلهم وتراحمهم في ظلّ الصّعوبات الحياتيّة التي ماكانوا ليواجهوها لولا تلاحمهم وتكاتفهم، وفيها حفظت كثيراً من الأشعار والأناشيد التي كان بعض أقاربي الكبار يأتون في أجازاتهم ليسمعوها منّي مقابل مبالغ ماليّة على سبيل التّشجيع، ومن بينها (يا الطّيرة فرّي للحدّ..هاتي لي من الكرب ليف..صخّي لا يسمعك حدّ.. وانتي طبعك ضعيف)، وفيها كنت أطلق العنان لعقلي الصّغير كي يسأل أسئلة وجوديّة عن اللّه، والرّسول، والسّماء، والقمر، والنّجوم، وأيّهما أكبر: هل القمر أم الجبل! وهل السّماء أم البحر!!
أتذكّرها كلّ ليلة وأنا أرى ابني في جلسته اليوميّة الكئيبة أمام التلفزيون يتنقّل في ملل من قناة لأخرى، بينما أخته تعبث بــ (الآي باد) علّها تجد لعبة تقتل بها وقت فراغها. أتذكّرها وأنا أشاهد وألمح كلّ يوم مواقف حياتيّة قد يكون الحديث عنها أكثر ايلاماً من السّكوت عنها، عنوانها الإندفاع الكبير نحو اكتساب عادات دخيلة بداعي التحضّر أو مواكبة العصر، أو مسايرة التكنولوجيا، في ظلّ تراجع مخيف للقيم الدينيّة والمجتمعيّة. وبينما كانت والدتي – وغيرها من نساء تلك المرحلة- تغطّي وجهها حياء وخجلاً لو رأت صورة رجل ما في التلفزيون، فإنّ اندماج (بعض) النّساء في المجتمع أصبح مبالغاً فيه بطريقة تكاد تكون سمجة وغير مبرّرة تحت دواعي التحضّر والتمدّن والانفتاح، وكون المرأة شريكة الرّجل!!
ذكّروني أن أبحث عن ديوان المتنبّي في أحد مناديس منزل العائلة، على الأقل أريد أن أعود إلى القصيدة التي أخذت من أحد أبياتها معرّفاً (للبروفايل) الشخصي في برنامج الواتساب، والذي يرى فيه أحد الأصدقاء نوعاً من الشّرك ويدعوني في كلّ مرّة إلى حذفه. يبدو أنّ هناك من تستهويه هواية الإطّلاع على صور ومعرّفات الآخرين في برامج التّواصل الإجتماعي، ومن ثمّ الحكم على شخصيّاتهم من خلال هذه الصّور والمعرّفات. البيت يقول: أريد من زمني ذا أن يبلّغني.. ما ليس يبلغه من نفسه الزّمن.
هل ترون في كلمات البيت شيئاً من الشّرك!! شخصيّاً لم أفكّر في هذا الأمر سوى بعد أن أثار صاحبي الموضوع! هناك أشياء كثيرة نضطر لترك أولويّاتنا الحياتيّة والفكريّة، ونظل نتجادل حولها لفترات طويلة لمجرّد أن بعضنا ينظر إليها من خلال منظار أسود غاية في الضيق!!
انتهت التسعمائة كلمة وأنا لم أنته بعد من مقالي! يبدو أنّ ما كتبته كاف كي أذهب إلى فراشي مستحضراً بيت المتنبّي الشهير "أنام ملء جفوني عن شواردها.."، فقد أوفيت بوعدي لعبد الله خميس وكتبت مقالاً..والسلام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.