الأربعاء، 22 أبريل 2015

في نخل شاذون

ولأنّني أزعم أنّ لديّ عشقاً لتاريخ بلدي يجعلني أسهر كلّ ليلة على قراءة أحد كتبه دون مبالاة بوقت أو بغيره وهي عادة تولّدت معي منذ أن كنت في الصّفّ السّادس عندما اقتنيت كتاب (الفتح المبين) من مكتبة متنقّلة كانت تسيّرها وزارة التراث القومي والثّقافة (وقتها) ثمّ ذهبت كحال أشياء كثيرة جميلة لم تعد باقية!! ولأنّ هذا العشق يجعلني في كثير من الأحيان أتخيّل الأحداث والأماكن والشّخوص الواردة في تلك الكتب وكأنّني أعيش وسطهم، لهذا تراودني الرّغبة بعد كلّ مرّة أقرأ فيها كتاباً أو معلومة تاريخيّة أن أزور المكان الذي وقعت فيه تلك الأحداث، وأن أقف على مكانها، وأن أتخيّل مشاهدها!   

وعندما استيقضت ضحى السّبت قبل الفائت كانت الرّغبة قد تعدّت مرحلة الإلحاح لتدخل مرحلة التّنفيذ، وكان الخيار الأوّل هو الذّهاب إلى حمراء العبريّين، حيث مازال تأثير سطور كتاب (تبصرة المعتبرين) للعلامة الكبير ابراهيم بن سعيد العبري لم يبارح ذاكرتي، كما أنّني قد زرت نزوى وبهلا وتنوف أكثر من مرّة ووقفت على شواهدها الأثرية ومسارح الأحداث بها، بعكس الحمراء التي حظيت بزيارة يتيمة لم يكن كياني التّاريخيّ وقتها قد تشكّل بوضوحه الحاليّ بعد. كانت رحلة جامعيّة اتذكّر منها سواقي مسفاة العبريّين، وبيوتها الفريدة في المعمار، وسؤالي المليء بكل استغراب الدنيا لمن حولي : كيف تمرّ تلك السواقي أسفل الصّخور!! وطعم ثمرة سفرجل أكلتها في بيت الصّديق الشّاعر أحمد بن هلال العبريّ عندما كنّا نتزامل وقتها في نصف جماعات الأنشطة الطّلابيّة الجامعيّة!

ولكنّ الوقت متأخرّ، وموعد وصولي قد يكون في الظّهيرة، فأين سأقضي ذلك الوقت حتّى العصر! وهل سأضمن وجود استراحة تأويني خلال تلك الفترة! أؤجّل رحلة الحمراء لأسابيع قادمة مع وعد لنفسي بتنسيق مسبق ليقفز الخيار الثّاني مباشرة وهو زيارة نخل والعوابي والرّستاق، فالولايات الثّلاث متقاربة، وهي فرصة لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، كما أنّ دليل هاتفي يحوي أسماء أصدقاء وطلبة لي من تلك الولايات أزعم أنّ علاقتي بهم ستجعلهم يستوعبون (جنوني) المفاجئ. لم أكذّب خبراً وإذ بي أهاتف صديقي النّخليّ بدر الجابري لأخبره في كلمات مقتضبة أنّني سأكون معه بعد حوالي ساعة ونصف من الآن، وأنّ عليه أن يفرّغ من وقته ساعة قد تكون كافية للإجابة على تساؤلات كانت محتبسة في وجدان عاشق التّاريخ الذي بداخلي. هكذا بلا إحم ولا دستور، وبدون أن أترك له فرصة الاختيار كانت رجلي تضغط على دوّاسة البنزين في سيّارتي معلنة بداية رحلة جديدة من رحلات البحث عن إبداع الإنسان العمانيّ في بقعة أخرى من بقاع هذا الوطن الجميل.

بعد رحلة توهان متوقّعة اضطرّتني لدخول حارات بركا القديمة وسوقها بدلاً من الانعطاف من الطّريق السريع نحو حلبان فالطّوّ ثمّ نخل اختصاراً للمسافة، وهروباً من زحمة طريق الباطنة، وكلّ ذلك بسبب لوائح الطّريق الإرشاديّة الواضحة (جدّاً)، والتي تفترض فيك أن تكون إمّا من سكّان المنطقة الأصليّين العارفين بدروبها ومسالكها، أو متخصّصاً في علوم الجغرافيا والمساحة، وبعد أن استعنت بأكثر من صديق وعابر طريق ليرشدني إلى خيط يقودني نحو الطّريق الصحيح، أصل إلى نخل، أو شاذون كما كانت تسمّى سابقاً.

 ولأن وقت وصولي كان متأخّراً بعض الشّيء، وشمس الظّهيرة تصبّ حمماً من لهيبها فوق رؤوسنا فقد كانت جولتي سريعة، حيث اكتفيت من نخل بحاراتها القديمة كحارة (العتيك) بقلعتها الشّهيرة التي تحمل اسم الولاية والمحمولة على صخرة ضخمة كمشهد آخر من مشاهد الإبداع العماني الذي يبهرك بشيء جديد متفرّد في كلّ بقعة تصل إليها قدماك، وحارة (الجميمي) ذات الصّباحات الثلاثة، وحارة (الجباجب) القريبة من جامع نخل الشهير، وحارة (الغريض) المبنيّة من الطّين بمعالم سورها العريق وبوّاباته القديمة، وبمساجدها الأثريّة كمسجد الغريض، والمكبّر، وهي مساجد لعبت دوراً مهمّاً في التّاريخ العماني، وشهدت تنصيب أئمّة، وتخريج علماء أسهموا في مدّ إشعاع النّور إلى أقصى مدى يصل إليه، وتأليف كتب أثرت المكتبة العمانيّة على مرّ عصورها، حالها كحال جامع نخل الذي كان موسوعة للوثائق العمانيّة بما احتواه من شواهد، وكتابات كان يمكن لها أن تضيف الكثير لحركة التّأريخ العماني لولا أن امتدّت إليه اليد العبقريّة المبدعة في عصر العلم والتّكنولوجيا لتساوي به الأرض بحجّة إعادة ترميمه، وهي ذات اليد العبقريّة التي امتدّت إلى كثير من الحارات والمنازل والمساجد والمجالس والمدارس الأثريّة لتجعلها أثراً بعد عين بداعي شهر البلديّات، أو لدواعي أخرى متعدّدة قاسمها المشترك الجهل بأهمّيّة هذا التّراث، ومدى ما يمكن أن يضيفه إلى البلد تراثيّاً، وسياحيّاً، واقتصاديّاً، وفكريّاً. لم يكتف القائمين على ترميم جامع نخل بما فعلوه بحقّ الجامع، بل امتدّ تخطيطهم العبقري إلى سوقمة ضخمة ظلّت لمئات السّنين ملاذاً للوافدين إلى الولاية أو القاطنين بها من لهيب الشّمس الحارقة صيفاً، ومنتدى يناقشون فيه قضاياهم المجتمعيّة، ويتبادلون فيه الأشعار والحكم وأحداث التاريخ التي سطّرت حول المكان، وسوقاً يعرضون فيه بضائعهم ومنتجاتهم. كلّ هذا ذهب في غمضة عين، كما ذهب وسيذهب غيرها في أماكن أخرى من هذا الوطن، ثمّ نطلق عقيرتنا بالنّحيب والنّواح ودبج المقالات، وإنشاء الوسوم والهاشتاجات للوم الآخرين والتّنديد بهم عندما يحاولوا صنع تاريخ عجزنا نحن عن الحفاظ على شواهده المختلفة، بينما نكتفي بتناقل كلمات الإشادة والمدح التي تنطلق من فاه هذا، وقلم ذاك، حتّى لو كان صاحبها غير معروف من الأساس!!

في نخل وقفت على قبر العالم الزّاهد أسد بن عبد الله الأغبري الذي كان سليل أسرة عريقة استوطنت حارة الغريض يوماً ما، وأثناء مروري بحاراتها ومساجدها تذكّرت علماءً وقضاة مرّوا على هذه الولاية العريقة التي لا تكاد تمرّ بضع صفحات من أيّ كتاب تاريخ عمانيّ دون ذكر اسمها كابن شايق، وطالوت النّخليّ، ونجدة اليحمديّ، وسعيد بن أحمد الكنديّ شيخ العلامة الكبير جاعد بن خميس، وغيرهم الكثير ممّن خطّوا بإسهامهم الفكري سطوراً مهمّة في سفر التّاريخ العمانيّ الضّخم.

ولأنّني في نخل فلابدّ لي من المرور على الثّوارة بمائها الرّقراق المتدفّق. لا أتذكّر آخر زيارة قمت بها إليها، ربّما كانت في أواخر التسعينات من القرن الماضي ضمن رحلة طلابيّة جامعيّة ما زلت أتذكّر مشهدها كما لو كانت بالأمس: ازدحام في المواقف الضّيّقة القريبة من العين، وأطفال ونساء يخضن الوادي القريب، وثمّة عائلات تفترش الأرض هنا وهناك باحثين عن مكان شبه مناسب للجلوس وإقناع أنفسهم أنّهم في رحلة سياحيّة قطعوا من أجلها عشرات بل مئات الكيلو مترات، وشباب يحتلّون المكان المرتفع القريب من العين بينما صدى غنائهم القبيح، وأصوات طبولهم النّشاز تملأ أرجاء المكان مسبّبة تلوّثاً صوتيّاً قد لا يختلف عن بقيّة أنواع التّلوّث البصريّ الموجود ، ورائحة شواء تنبعث من هنا وهناك، وكثير من أكياس البلاستيك التي لربّما نسي أصحابها في غمرة نشوتهم بالمكام وسحره أن يأخذونها في طريق عودتهم، أو أن يتخلّصون منها في أقرب مقلب قمامة!!

تقترب سيّارتنا من العين وأنا أدعو الله في سرّي أن يكون المشهد قد تبدّل، فعشرين سنة قد تكون كافية لإحداث تغيير فكريّ واقتصاديّ يجعل المكان أكثر جاذبيّة، ولكن نظرة عابرة إلى المكان كانت كافية كي أطلب من مرافقي العودة من حيث أتينا، بحجّة استغلال الوقت في رؤيّة مكان آخر لم أره من قبل!! شيطاني الذي بداخلي كان يوسوس لي: ترى لو كان هذا المكان في (شيانغماي) التّايلنديّة، أو في دولة جارة أعرفها جيّداً فكيف سيكون وضعه! ملعون أنت أيها الشّيطان الرّجيم.

قبل العصر تركت نخل وأنا أتمثّل بيتين لابن رزيق يقول فيهما:

هواك يا جنّة الأخيار شاذون... روح القلوب بحبّ الرّاح مقرون

عليك أزكى تحيّات الإله فلي... قلب بحبّــك والسكــــّان مفتون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.