يقع المقهى على
شارع التحرير ،ويطل على ميدان الدقي، لا يختلف كثيراً عن بقية المقاهي الشعبية
المصرية الأصيلة، ويمتاز باتساعه وبساطة ديكوراته، وارتفاع سقفه كحال كثير من
البنايات التي يعود تاريخ إنشائها إلى ما قبل ثورة 1952 وما بعدها بقليل. ترى كم
من المبدعين قد مروا عليه، وكم من الحكايات والأسرار قد احتفظت بها أركانه. كان
المقهى ممتلئاً عن آخره، و لحسن حظي كانت هناك طاولة خشبية وحيدة ما تزال شاغرة في ركن قصي به.
أنادي القهوجي كي
أطلب كوباً من الشاي الكشري بينما صوت أم كلثوم ينبعث من جهاز تسجيل عتيق:
وبي مما يساورني
كثير ... من الشجن المؤرق لا تدعني
تعذب في لهيب
الشك روحي .. وتشقى بالظنون وبالتمني
الله.. مقهى مصري
صميم وكوب شاي كشري وأم كلثوم .. ما هذا
الحظ الجميل؟ ها هي بعض أحلامي تتحقق في أول أسبوع من إقامتي التي ستمتد لأربع
سنوات قادمة . أحلام معجونة بطعم الشاي بأنواعه المختلفة فتلة وكشرى وخمسينه،
والفول والفتة والعكاوي والسمين والكوارع، ورائحة العطارة والبهارات الشرقية في
الأحياء الفاطمية، ومنظر النيل ساعة
العصاري، وشموخ الأهرامات، وقداسة الأزهر والكاتدرائية، وهيبة العلماء والأساتذة،
وآخر نكتة خرجت من رحم معاناة يومية.
من طاولتي أتأمل
من حولي بينما أنا سارح مع (ثومة) في ثورة
شكها المحمومة، أغلب رواد المقهى من المصريين الذين كانوا يوماً ما يشكلون طبقة
تدعى الطبقة المتوسطة، يلعبون الطاولة والشطرنج ربما لنسيان ما لا يريدون تذكره من
هم يومي، وبعض الشباب اليمني يتحاورون بصوت مرتفع. هل هي روح الشهيد الزبيري(1) تتجسد في المقهى مرة
أخرى؟
أنشغل بقراءة الصحف،
معظم أخبارها تتركز حول انتخابات مجلس
الشعب، ومفاجأة مقاعد الإخوان، ومطالبة
المعارضة بحرية الرقابة على الانتخابات ،وموظفي وزارة
المالية الذين أجبروا على التصويت ليوسف بطرس غالي، عناوين عريضة أخرى تتحدث عن
شائعة العثور على صناديق انتخابية في تسع
محافظات، والمظاهرات صاخبة في قنا بعد العثور على صناديق انتخابات في الترعة،
وملابسات سرقة صندوقي انتخاب في السويس. تصريح لنبيل لوقا بباوي(1) يصف أحزاب المعارضة بأنها دورات مياه وشقق مفروشة،
وآخر لرفعت السعيد(2) يتهم الإخوان كالعادة بأنها باعت المعارضة، ومقال لمجدي مهنا (3) في "المصري اليوم"
حول قيام الإخوان بدعم بعض المرشحين الأقباط أمثال منى مكرم عبيد، ومجدي خله.
أنتهي من قراءة بعض الصحف وأعود
إلى ممارسة هواية التأمل. يقترب مني قهوجي
يبدو من ملامحه أنه في الخمسينيات من العمر، أحاول التباسط معه فأسأله:
- هو صحيح إن صدام حسين كان بيجلس هنا؟
قبل أن أكمل سؤالي كانت إجابته حاضره :وأنا بنفسي كنت بجيب له القهوة
بتاعته.. الله يرحمه.
أقول لنفسي "لو صح كلام الرجل
فهذا يعني أنه التحق بالعمل في المقهى وعمره حوالي خمس سنوات أو أقل أو أكبر بقليل
" لا يهم . أحاول أن أطيل الحوار معه فأسأله مرة أخرى:
-
انتخبت مين؟
-
وانتخب ليه؟ كتر خير الحكومة . هي اللي بتنتخب
بدالنا . لازمتها إيه البهدلة والمشورة ، ما هيه النتيجة معروفة، واللي عاوزينه
حينجحوه.
-
سمعت اللي حصل معاكم هنا في الدائرة؟
-
حصل إيه، أصل بعيد عنك
محسوبك مقاطع الجرايد والتلفزيون. كل الأخبار شبه بعض مفيهاش غير الهم والنكد.
-
بيقول لك حازم صلاح أبو إسماعيل بتاع الإخوان
فاز بمقعد الفئات عن دائرة الدقي والعجوزة، راحت الدكتورة آمال عثمان اللي كانت بتنافسه متصله بالريس وهي بتعيط، فالريس قال
لها دموعك غالية يا آمال، وكلها ساعتين والنتيجة اتقلبت.
-
يا رب يولعوا فبعض. وتقولي انتخبت مين؟ متستغربش
يا باشا اللي بيحصل ده . إحنا البلد معانا ماشيه كده ومش عارفين آخرة كل ده إيه.
بالأمارة هو الباشا ليبي ولا سعودي ؟
-
أنا من سلطنة عمان.
-
أجدع ناس " يقولها وكأنه يسمع عن البلد
لأول مرة" .
-
إلا قل لي باشا: انتوا يحصل معاكو نفس الكوسة والعك اللي معانا في
الانتخابات؟
-
إحنا عكسكم. الانتخابات نزيهة وشفافة والحكومة بتترجانا
ننتخب المرشح الكويس اللي حيخدم الناس، بس إحنا بنختار العكس. حاجة تشبه قلة
الوعي كده.
يضرب الرجل كفيه ببعضهما ربما مستغرباً من حال
الدنيا، ثم ينصرف عني حاملاً همومه مع كوب الشاي الفارغ ، وأتبعه أنا متأبطاً ما
بقي من صحف لم أقرأها بعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)مناضل
سياسي وشاعر يمني راحل. كان من رواد المقهى في الخمسينيات.
(2)
دكتور ولواء شرطة سابق وعضو مجلس شورى وصاحب رسائل دكتوراه عديدة. له مقولات
ولوحات لم تستطع عقول أشهر منافقي مبارك تأليفها مثل"80 مليون مصري يؤيدون
الرئيس مبارك"، " الجنين في بطن أمه يؤيد مبارك". يحضر الدكتوراه
السابعة عن عبقرية ثورة 25 يناير.
(3)رئيس
حزب التجمع اليساري. برغم أنه محسوب على المعارضة إلا أنه أفنى عمره في معارضة التيار السياسي الإسلامي .
(4) صاحب مقال يومي وبرنامج أسبوعي بعنوان (في
الممنوع)، اتسمت كتاباته بالعقلانية والاعتدال .توفي عام 2008 بعد صراع مع مرض
التهاب الكبد الوبائي. دمعت
تأثراً عندما كتب وصيته بعد شعوره بدنو أجله فإذا به يوصي حكومة الحزب الوطني ب7 ملايين مواطن مصابين بالتهاب الوباء الكبدي ويراهم أجدر بأن يحتلوا رقم واحد في أولويات الحكومة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.