الثلاثاء، 4 سبتمبر 2012

في مقاهي المحروسة (1)


عندما تذكر مصر تتبادر إلى الأذهان عدداً من المفردات المرتبطة بها، كالنيل، والأهرام، والفول والطعمية، والمآذن، والريف بكل تناقضاته، والشخصية المصرية الجميلة بخفة دمها وحلاوة روحها.

غير أنه  لا يمكن الحديث عن مصر دون الإشارة إلى مقاهيها المختلفة، والتي شكلت ذاكرة وجدانية لكثير من الأحداث التي مرت بها المحروسة على مر السنين ، ذلك أن تلك المقاهي كانت تجسد ملمحاً من الحياة المصرية بمختلف تجلياتها وتناقضاتها واختلاف مشاربها.

وخلال إقامتي في القاهرة لأربع سنوات كاملة مرت كحلم جميل لم أفق منه بعد، كانت لي حكايات جميلة مع تلك المقاهي المنتشرة في كل شبر من الخريطة المصرية،  وكان ترددي اليومي على هذه المقاهي حاملاً في يدي عدد لا بأس به من الصحف اليومية، أو كتاب اشتريته قريباً من سور الأزبكية، من المتع التي كنت أحرص عليها، وأحرص كذلك على أن يشاركني بها كل من يزورني، في محاولة مني لإبراز خريطة ثقافية جديدة لمصر لا تقتصر فقط على شارع جامعة الدول، وحي المهندسين، والأهرامات، وشارع الهرم، مثلما يختصر البعض مصر في هذه المفردات.

خلال جولاتي تلك اقتربت من روح أم كلثوم في مقهاها الشهير في شارع الألفي بك بوسط البلد، وفي (جروبي)تجسدت أمامي إبداعات أمير الشعراء أحمد شوقي وأنا أجلس في الركن الذي كان يلتقي فيه بأصدقائه من الباشوات وعلية القوم ، وناقشت أحمد فؤاد نجم (الفاجومي) في آراءه السياسية بينما كنا معاً في ذلك المقهى المتواضع في هضبة المقطم،  بينما كان حرارة الشوق إلى الوطن تسري في أوصالي عند كل زيارة لي إلى قهوة (الصادق)، أو قهوة العمانيين كما يحلو لزملاء الدراسة تسميتها.

لذا كان التفكير في تدوين هذه الذكريات الجميلة في كتاب  يشتمل على  سلسلة من المقالات التي تجسد ذكرياتي في مقاهي المحروسة ، بحيث أتحدث في كل مقال عن مقهى معين ذاكراً تاريخه، وسارداً لمواقف إنسانية شخصية أو عامة عايشتها في ذلك المقهى، وأضافت لثقافتي الكثير من التجارب عن طبيعة هذا البلد العريق، وأبدأ هذه السلسلة بمقدمة عامة حول  تاريخ المقاهي في مصر، وأنواعها، وأنشطتها المختلفة، وما تمثله هذه المقاهي من سجل تاريخي مهم لكثير من الأحداث التي شهدتها المحروسة ، وهي مقدمة اعتمدت في كتابتها على معلوماتي العامة التي اكتسبتها من تجربتي الشخصية مع هذه المقاهي، ومن الرجوع إلى عدد من المصادر التي تناولت تاريخ هذه المقاهي ، والتي سيتم الإشارة  إليها في نهاية السلسلة.

في مصر، لم تكن المقاهي مجرد مكان للتلاقي أو الاستراحة، أو تناول شراب معين، بقدر ما كانت متنفساً فكرياً واجتماعياً، ففيها كانت تعقد الصفقات، وترسم السياسات، وتشكل الأحزاب، وتروى الأسرار، وتتشكل الثقافات والأفكار المختلفة. باختصار، كانت المقاهي المصرية عالماً متكاملاً من السحر والنشوة الممتزجة بالفن والأدب والتسلية والترفيه، وعندما يقول المصري " أنا رايح قهوتي"، فإنك قد تدرك مدى التأثير الذي يحدثه المقهى في شخصيته، لدرجة الشعور بالانتماء إليه، والإحساس بأنه جزء لا يتجزأ من شخصيته ، وجدول حياته اليومية.

وحول بدايات نشأة المقاهي في مصر يذكر محمد أبو الوفا في مقاله (مقاهي القاهرة وحدات تشكيل الرأي العام) قصة طريفة حدثت في بداية القرن السادس عشر الميلادي, "حيث وقع في مصر حدث كبير آثار جدلاً فكرياً وفقهياً واسعاً، وذلك عند وصول أول شحنة من البن اليمني إلى البلاد فانقسمت الآراء حول شرعية تناول مشروب (القهوة), حيث كان الناس يتناولون هذا المشروب في السر خوفاً من المفتي ومن عيون البصاصين, إذ كان يُقبض على كل من يشرب القهوة ويقدم للمحاكمة، واستمرت القهوة تشرب في تلك الفترة بمكان سري أطلق عليه (مقهى) نسبة إلى المشروب, وبعد التصريح بشرب القهوة في العلن أخذ المقهى شكل مبنى بسيط توضع فيه منصات خشبية لإعداد المشروبات وتفرش عادة بالحصر والأبسطة الصوفية (الكليم)".

وبرغم اجتهادات بعض المثقفين والأدباء المصريين لتوثيق تاريخ هذه المقاهي أمثال الأديب جمال الغيطاني (ملامح القاهرة في 100 سنة)، وأحمد محفوظ (خبايا القاهرة)، والراحل سمير سرحان (على المقهى), ومحمد عبد الواحد (حرائق الكلام في مقاهي القاهرة)، إلا أنه  لا يوجد حتى الآن أي مرجع تاريخي خاص يدون تاريخها بشكل متسلسل ومتكامل، وإن كانت هناك بعض الإشارات المتناثرة هنا وهناك  من خلال ما كتبه بعض المستشرقين، ففي كتابه  «المصريون المحدثون» ذكر المستشرق الإنجليزي «إدوار دلين» إن القاهرة "بها أكثر من ألف مقهى  في مطلع القرن التاسع عشر"، كما وصف المقهى بأنه " غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود تقوم على طول الواجهة ما عدا المدخل ويتردد على المقاهي أفراد الطبقة السفلى والتجار وتزدحم بهم عصرا ومساء وخاصة في الأعياد الدينية".

كما تناول كتاب "وصف مصر " الذي تم إعداده إبان الحملة الفرنسية على مصر بعضاً من تاريخ  هذه المقاهي في زمن الحملة، حيث  يذكر الكتاب أنه " يوجد بمدينة القاهرة بها حوالي 1200 مقهى بخلاف مقاهي مصر القديمة، ولا يوجد في هذه المقاهي أثاثات على الإطلاق وليس بها ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية ولا يوجد سوى «دكك» مقاعد خشبية تشكل نوعا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبنى".

وقد مثلت المقاهي في فترة من الفترات  متنفساً ترفيهياً وأدبياً مهماً  لروادها، فقد كانت تعج بالرواة الشعبيين من رواة السير الشعبية، وأصحاب الشعر العامي، والأدباتية، والغوازي، كما كانت مكاناً للسجالات والمناظرات الأدبية المختلفة.
كما لعبت المقاهي دوراً مهماً في الحياة السياسية والوطنية، فهناك مقهى (متاتيا ) ، ويعتبر الأشهر على الإطلاق تاريخيا ًبين مقاهي القاهرة لارتباطه بأسماء صنعت تاريخ مصر والوطن العربي أمثال جمال الدين الأفغاني، وعبد الله النديم، وسامي البارودي، وسعد زغلول وغيرهم. وكان مقهى (جروبي)بميدان طلعت حرب ملتقى للأدباء والسياسيين والتكنوقراط  الذين تعلموا في أوروبا وتشربوا مبادئ الديمقراطية الليبرالية، كما شهد مقهى ريش الكائن في شارع طلعت حرب في وسط البلد كثيراً من السجالات السياسية، وفيه تم اكتشاف مطبعة سرية لتنظيم 1919م.









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.