الثلاثاء، 11 سبتمبر 2012

في مقاهي المحروسة (2)


بعد أن تناولنا في المقال السابق تاريخ المقاهي في المحروسة ، وما تمثله بالنسبة للشخصية المصرية، أستكمل معكم في هذا المقال الحديث عن أشهر المقاهي المصرية ودورها في مجالات الحياة الأدبية والاجتماعية والفنية المختلفة، وما طرأ عليها من تغيير، فقد لعبت المقاهي دوراً مهماً في الحياة الفكرية والأدبية والفنية في مصر،  لعل من أشهرها "مقهى الفيشاوي"  الكائن في خان الخليلي بحي الجمالية قرب جامع الحسين، والذي يتجاوز عمره المائتي سنة، وزادت شهرة هذا المقهى بعد أن أصبح المكان المفضل للأديب نجيب محفوظ الذي كتب بعض رواياته الرائعة والخالدة على هذا المقهى وأهمها الثلاثية الخالدة (بين القصرين) و(قصر الشوق) و(السكرية) وهى أحياء تحيط بالمقهى.

وهناك مقهى (الحرافيش) وهو مصطلح يقصد به أولاد البلد البسطاء باللهجة العامية المصرية، وقد تمت تسميته بهذا الاسم نسبة  إلى رواية الأديب العالمي نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، وذلك لوجود ركن خاص كان يرتاده نجيب محفوظ كل أسبوع هو وعدد من أصدقائه ومريديه, ويضم المقهى مكتبة تحتوي على أهم كتب وأعمال محفوظ.

أما قهوة (قشتمر)  التي خلدها نجيب محفوظ في رواية تحمل نفس الاسم ، فقد كانت ملتقى للأدباء وعلى رأسهم  نجيب محفوظ، إلى جانب الأديب المعروف إبراهيم عبد القادر المازني والذي كان يسكن مقابلاً  للمقهى أمام واجهته المطلة على شارع هارون.

ويعد مقهى (ريش) شاهداً على نبوغ كثير من المبدعين ، وارتبطت به عدد من الأعمال الأدبية ، حيث كتب فيه أحمد فؤاد نجم قصيدة (يعيش أهل بلدي)، وعنه ألفت الكاتبة الصحفية عبلة الرويني كتابها(مقهى ريش) الذي شهد بداية تعارفها بزوجها الشاعر الراحل أمل دنقل، وتناوله الأديب المسرحي نجيب سرور بالسخرية في قصيدته (بروتوكولات حكماء ريش)، كما استقرت به ندوة نجيب محفوظ الأسبوعية لفترة من الزمن بعد إغلاق ندوته في مقهى الأوبرا.

ومن المقاهي الأدبية الشهيرة كان هناك مقهى (الكتبخانة)» أمام دار الكتب في باب الخلق، وكان من رواده حافظ إبراهيم والمطرب عبد المطلب والشيخ عبد العزيز البشرى والشيخ حسن الآلاتى، أما (بار اللواء) المقابل لمبنى جريدة الأهرام القديم في شارع شريف فقد كان معظم جلسائه من الشعراء والسياسيين والظرفاء أمثال مصطفى كامل، والشيخ عبد العزيز جاويش، والعزب موسى، وكامل الشناوي، والشاعر البائس عبد الحميد الديب، بينما كان توفيق الحكيم، وعبد القادر المازني، والصحفي محمد التابعي، والشاعر إبراهيم ناجي من أشهر رواد مقهى (الرتز) الذي حلت مكانه بعد ذلك عمارة "الايموبيليا" الشهيرة.

وهناك مقاهي أخرى ارتبطت كذلك بالأدباء والمثقفين كمقهى (أوبرا بار) بميدان الأوبرا، وقهوة (عبد الله) بميدان الجيزة، ومقهى    ( إنديانا ) بالدقي والذي كان الرئيس الراحل صدام حسين دائم التردد عليه ، ومقهى التجارة في شارع عماد الدين، و"المقهى العالي" بشارع محمد علي، ومقهى "المهدي" بالسيدة زينب، ومقهى "عرابي" بباب الشعرية، إضافة إلى مقاهي وسط البلد كمقهى (لاباس)، و(علي بابا)، و(زهرة البستان)، و(التكعيبة)، و(مانولي)، ومقهى (البورصة) الذي كان مكاناً لالتقاء الصحفيين كل مساء، ومقهى (الندوة الثقافية) بباب اللوق، وغيرها.

وبالإضافة إلى المقاهي السابقة فإنه يمكن أن نلمح أنواعاً أخرى من المقاهي تخصصت لخدمة فئات معينة، ففي حي (زينهم) بالسيدة زينب كان هناك مقهى خاص بفئة الطباخين، حيث يحضر الزبائن لمفاوضتهم حول ما يطلبونه من أصناف، وزمن إعدادها، والأجرة المطلوبة، كما كان للخطاطين والنساخين والرسامين والمجلداتية والمذهبتية مقهى في حي الحسين على مقربة من مكتبة "الحلبي" الشهيرة المتخصصة في طبع أمهات الكتب، أما المشايخ وطلبة الأزهر فقد كانت لهم مقاهيهم الخاصة في حي الحسين وأشهرها "قهوة شعبان"، واشتهر "مقهى عكاشة" الذي أنشأه في الأربعينيات أولاد عكاشة أصحاب الفرقة المسرحية المشهورة ، كمكان للاستماع إلى الموسيقى من خلال الأسطوانات التي يوفرها المقهى مقابل مبلغ مالي معين ، بينما كان المقهى التجاري الكائن في أول شارع محمد على ، منتدى للآلاتية والمطربين، ورواده من الفنانين المتخصصين في إحياء الأفراح، كما كان للسينمائيين والكومبارس والمسرحيين مقاهيهم الخاصة بشارع عماد الدين، كمقهى "الفن» المقابل لمسرح نجيب الريحاني، والذي اتخذ منه  بعض صغار الفنانين والكومبارس مكاناً للالتقاء وعرض مواهبهم على المخرجين ، أما مقاهي ميدان باب الخلق فقد كانت ملتقى للمشتغلين بالمحاماة وأصحاب القضايا بحكم قربها من محكمة باب الخلق، كما اشتهر ميدان "باب الشعرية" بانتشار عدد من المقاهي لفئات من الحرفيين،  كالمنجدين،  وعمال الأفران المتخصصون في خبز العيش والشطائر، أما وراء دار الكتب (الكتبخانة) في باب الخلق فكان يقع مقهى (الديوك)، ويستقطب هواة الديوك الهندية ومهارشتها. ومن أغرب مقاهي القاهرة مقهى (الخرس)، ذلك أن معظم رواده يتحدثون بالإشارة، يجيء كل منهم عبر مسافة بعيدة ليلتقي بالآخرين، ولا يزال هناك العديد من المقاهي الخاصة بأبناء محافظات  الصعيد والدلتا والنوبة، يجتمعون بها، وتقوم بدور مهم في تشغيل العمالة وحل مشاكلهم.

وبعد أن كانت معظم المقاهي تتركز في وسط القاهرة بحكم الحركة الثقافية والسياسية بها،  فقد شهدت أطراف القاهرة ظهور مقاهي لعبت دوراً مهماً في الحياة الفكرية المصرية ، كمقاهي  ليالي الحلمية ،  وفرساى، وخان الموناليزا ،  والحرافيش ،  وونيس في شارع فيصل، وذلك بسبب انتقال عدد كبير من الأدباء والصحفيين للسكن في هذا الشارع الشعبي، و مقاهي جروبي و(الأمفتريون) في مصر الجديدة، والأخير تم افتتاحه عام 1919، وكان  الناقد الكبير عبد القادر القط من أشهر رواده.

أما اليوم فقد تغيرت الخريطة الثقافية لهذه المقاهي، فقد أدت سياسة الانفتاح الاقتصادي إلى إزالة كثير من المقاهي التاريخية، وحلت محلها محلات لبيع الأحذية والحقائب النسائية، وفقدت مقاهي أخرى دورها الفكري بسبب ابتعاد روادها عنها، وعدم مواكبتها للتطور المادي الذي طرأ على الحياة  المجتمعية في مصر،  كما ظهرت أنماط غريبة من المقاهي العصرية الحديثة هي أقرب إلى النمط الغربي منه إلى النمط الشرقي، وأصبح نظام "المينيمم تشارج"، هو السمة السائدة لها، وحلت قنوات الموسيقى محل الطاولة والشطرنج وحجر النرد، بينما تم استبدال شاي الخمسينة، وحمص الشام، والقهوة السادة، والسوبيا، والكركديه، والعناب بمشروبات غريبة الاسم كالموكا، واللاتيه، والاسبرتو، والكاوبيتشينو، في دلالة على أن الزمن لم يعد نفسه.

ترى هل مازال المصري يقول "أنا رايح قهوتي".






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.