ربّما لن يغفر لي صديقي
(النزواني) ما فعلته ذات مغربيّة ساحرة في ثالث أيّام العيد، عندما انتزعته من
عالمه الخيالي، وهو يحتسي شاياً أسوداً بنكهة الريحان بينما رجلاه تداعبان زبد
البحر، ونسمات الكوس الباردة تلعب بما تبقّى من شعيرات رأسه في ذلك المنتجع
السياحي الذي يقع بين قريتي السويح وأصيلة التابعتان لولاية جعلان بني بو علي،
والذي أحسن صاحبه اختيار مكانه على تلّ ربوة تطلّ على بحر العرب، وتحيط به (عروق)
الرمل الناعمة من كلّ جانب، ذلك أنّ الليل كان قد أطلّ بعباءته السوداء، والدنيا
أصبحت ظلاماً، وبالتّالي كان لزاماً علينا أن نعود إلى غرفتنا التي حجزناها بشقّ
الأنفس في قلب سوق الأشخرة التي تبعد عن المكان بمسافة تزيد عن العشرين كيلو من
الأمتار.
أمّا لماذا هذا المقال، فالحكاية
أيّها القرّاء الأعزاء أنّني ارتكبت في هذا العيد نفس الخطأ الذي أرتكبه في كل عيد
أو إجازة سابقة، ألا وهو الذهاب إلى ساحل جعلان المطلّ على بحر العرب بغية الحصول
على نسمات باردة تنعش الروح وتننسيني بعضاً من حرّ العامرات المقيت التي تسير
بذكره الرّكبان.
وقد تقولون: وما المشكلة في
ذلك؟ (فالدنيا ربيع.. والجوّ بديع.. قفّل على كل المواضيع)، وكلّنا يعرف روعة جوّ
جعلان خلال الصيف بل والعام كّله، فما بالك بساحل بحر العرب من رأس الحد وحتى
صلاله، وما بالك بالأشخرة وهوائها العليل الذي لأجله تشدّ الرحال، وفي سبيله تهون
النفوس والأموال.
دعوني إذاً أحكي لكم هذه
المغامرة التي عشتها أول أيام العيد، خرجت من مركز الولاية ظهراً عاقداً العزم على
قضاء وقت جميل بصحبة كتاب كنت قد أجّلت قراءته تحسّباً لهذا اليوم، وبرفقة قهوة
سوداء بنكهة الهيل والزعفران صنعت خصيصاً للجوّ الذي كنت آمله، كان الجو منعشاً
ولكن مع بعض التيّارات الهوائيّة التي تجعلك تقبض على مقود سيارتك كمن يقبض على
مال يخشى سرقته، خوفاً من أن تنحرف سيارتك يميناً أو يساراً ويحدث ما لا يحمد
عقباه. بمجرّد أن بدأت في دخول الطريق المؤدي إلى الأشخرة وما حولها من قرى
وتجمّعات سكّانية، شعرت وكأنّني انتقلت إلى إحدى حلبات السّباق العالميّة، أو
كأنّني دخلت إحدى غرف الإثارة في مدينة ألعاب ضخمة، ذلك أن معظم من كان يمرّ من
خلفي أو بجواري لديه معتقد أن رجولته ستكون ناقصة لو لم يقد بسرعة 150 كيلو فما
فوق، وسط تيّارات هواء عنيفة، وفي ظلّ كثبان رمل ترحّب بك بعد كل كيلو تقطعه في
طريقك. واصلت طريقي في خوف وسط رغبة عارمة في كتابة وصيّتي، فمن يدر فربّما لن
أكمل مشواري وسط ظروف وأجواء جنائزيّة كهذه.
كانت أصيلة محطّتي الأولى.
قرية جميلة على ساحل بحر العرب، تتميّز بجوّ خرافي كبقيّة القرى المطلّة على
الساحل، ولكن مع عدم وجود خدمات إلا القليل منها كالبقيّة كذلك، أكملت سيري باتجاه
السويح شمالاً، ومن ثمّ عدت أدراجي إلى أصيلة كمحطة وسيطة، ومنها إلى الأشخرة عبر
الطريق الساحلي الذي يربط بينهما. لم أجد موطأً لقدم من كثرة السياح الذين افترشوا
أي شيء يقابلونه أمامهم على البحر وسط عشوائية مؤلمة، والشباب الذين اعتقدوا أن
اكبر حلم يمكن أن يفكّر فيه انسان هو امتلاك سيارة قديمة من طرازات معيّنة وكتابة
عبارات وأبيات رومانسيّة لا تعبّر عن واقعهم الشخصي، او لصق صور لأشخاص ربّما لم
يقرأوا عنهم سطراً واحداً، وممارسة هواية التفحيط، لذا لم أمكث بالأشخرة سوى بضع دقائق أقفلت بعدها
عائداً إلى جعلان وأنا أدعو الله أن أنام وأصحو لأجد أن الإجازة انتهت، وبالتالي
العودة إلى مسقط حيث الحياة ممثلة في الهاتف والانترنت والمجمّعات والمقاهي
الجميلة...ألخ.
أمّا لماذا (للمرة المليون)
كل هذا التشاؤم والتبرّم فالأمر بكل بساطة وبدون أيّة محاولة للتقعّر في الكلام أو
استخدام ألفاظ ومصطلحات تنم عن ثقافة عالية، أو حسّ كتابيّ جميل، فهي كالآتي: هذه
المناطق وتلك السواحل أيها المسئولين عن قطاع التنمية والسياحة والاقتصاد هي مناطق
يمكن أن تدرّ ذهباً على البلد، ويمكنها أن تكفيكم رغبة أبنائها في مطالبتكم
بالوظائف، ويمكن كذلك أن توجّه قطاعاً كبيراً من السياّح المحليين والوافدين
إليها. هل تعلمون لماذا؟ أولاً لأن جوّها معتدل طوال العام، ثانياً هي تتميّز بجوّ
منعش طوال فترة الصيف لا يقلّ روعة عن جوّ ظفار باستثناء زخّات المطر، ثالثا
تتميّز بمصائد وفيرة نتيجة وقوعها على بحر العرب، رابعاً تمتاز بتنوّع بيئي
وجيولوجي فريد، خامساً يمتاز سكّانها بالطيبة والكرم والاحتفاء بالغريب بشكل كبير،
ويمكن أن أعدّ لكم بقيّة مميّزاتها حتى الألف لو أردتم. يعني من الآخر بيئة واعدة
لعشرات المشاريع في مجالات السياحة والصيد وتعليب الأسماك وغيرها.
أمّا ما هو وضعها الحالي
فخذ معك: استثمارات سياحيّة ضئيلة جداً وبجهود فرديّة برغم عشرات الوعود
والتصريحات الرّنّانة، وبنية تحتيّة متهالكة جداً، فلا اتصالات أرضيّة سوى في
الأشخرة، ولا انترنت، ولا شوارع منارة، ولا نزل ايواء كافية، ولا دورات مياه
آدميّة، ولا متنزّهات، ولا ولا ولا ولا...ألخ.
من الآخر، من سيأتي إلى هذه
المناطق لن يجد سوى جوّاً منعشاً قد يكون مزعجاً عندما تشتدّ الرياح قليلاً وذلك
لقلّة المباني، وعدم وجود أشجار (كالنارجيل) تصدّ تلك الرياح، ولن يجد سوى فندق أو
اثنين غالباً ما يكون محجوزاً بأكمله أيام المناسبات، أما المظلات فغالبها حوّلته
الظروف البيئية إلى منحوتات سيريالية تصلح للمشاركة بها في معرض فنّي وجودي، وعليك
عزيزي السائح أن تنسى رفاهيّة الإنترنت، والمقاهي، والمأكولات الصينيّة
والأوروبيّة، بل وحتّى العمانيّة ما لم تكن قد أحضرت قدور الطبخ معك، وقبلها بحثت
عن مكان مناسب للطبخ، وآخر للإقامة.
والحل؟ الحل يعرفه
المسئولين جيداً، كتبناه هنا عشرات المرات، ورفع إليهم عشرات أخرى، وكثيرة هي
الندوات والورش والمؤتمرات التي تطرقت إليه. فقط عندما ستأتي الإرادة ستظهر تلك
الحلول من تلقاء نفسها إلى السطح ويمكن أن تكون واقعاً جميلاً أتمنى أن أعيش جزء
منه يوماً ما.
على طاولة الشاي التي
جهّزها لنا صديقي صاحب منتجع (بحر العرب السياحي) ضحكت بأسى وهو يخبرني عن معاناته
في سبيل إنشاء هذا المنتجع، وعن مبالغ ايجار الأرض والضرائب التي يدفعها سنوياً
برغم عدم وجود أيّ ترويج حكومي للمنتجع، وعن (تناكر) الماء التي تلتهم ايرادات
المنتجع لأنه لا ماء حكومي يصل إليه، وعن ساعات الانتظار التي يقضيها في الشوارع
الموصلة إلى المنتجع ليلا بانتظار وصول فوج سياحي نتيجة الظلام الدامس الذي يلفّ
الشوارع بسبب عدم انارتها، وكانت قمّة التراجيديا عندما أخبرنا عن السائح الذي
قدّم بلاغاّ ضدّه بسبب اضطراره للتوقف في (تحويلة) قريبة من المنتجع لم يكتمل
العمل بها منذ سنوات سبع اعتقد السائح أنّه كمين ارهابي دبّره صاحب المنتجع له.
بالمناسبة.. ما أخبار
الواجهة البحرية للأشخرة التي تم (التصريح) عن انشائها منذ شهور!
د.محمد بن
حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.