جريدة الرؤية - الاثنين 17/10/2011م
في الوقت الذي توجـﱠــه فيه عشرات الألوف من الناخبين إلى صناديق الاقتراع لاختيار من يمثلهم في مجلس الشورى، وفي الوقت الذي فرح فيه الكثير من الموظفين بعدم ذهابهم إلى أماكن عملهم في هذا اليوم، بحجة ممارستهم لواجبهم الانتخابي، كان (العم) راشد نائماً ملء جفونه تحت ظل صخرة كبيرة اعتاد أن يرتاح بجوارها، بعد أن عاد من رحلته الصباحية اليومية في متابعة أحوال مزرعته المتواضعة، والتي تبدأ بعد صلاة الفجر، برغم سنوات عمره التي تجاوزت الثمانين، وكأنه غير مكترث بما يحدث حوله من حراك.
قد تكون سنوات عمره الكبيرة، وتواضع هيئته، وانشغاله اليومي بطلب الرزق، هي من بين الأسباب التي جعلته يبدو بعيداً عن المشهد، ولهذه الأسباب ربما لم يأته من يقنعه بأهمية تفعيل بطاقته الانتخابية،وممارسة حقه الانتخابي كمواطن صالح، وربما لم يسمع بمصطلحات كالانترنت و"الفيس بوك" و"التويتر" ومنتديات الحوار، كي يجد من يحاوره من خلف الشاشة حول أهمية الاختيار المناسب للمرشح، أو بمقاطعة التصويت كون المجلس قاصر السلطات. وربما لم يأت من (يدس) في يده ورقة مالية كي يختار (فلان) كونه المرشح الأنسب للقضاء على الفساد، و لم يستدعه (رشيد) القبيلة ليحثـﱠـه على ضرورة اختيار (علان)ابن القبيلة، والذي سيسهم في الحد من المحسوبية، وقد تكون (أميته) القرائية قد منعته من الاطلاع على البرنامج الانتخابي للمرشح (ترتان )، والذي يؤكد على أن (صوتك أمانة)، ولهذا فإن عليك أن ترشح صاحب البرنامج لا أن تختار غيره.
وربما لأحد هذه الأسباب كذلك لم يحرص على أن يفتح الراديو صباح ذلك اليوم ليستمع إلى جمل وعبارات رنانة من نوعية( العرس الديمقراطي )، و(الوعي العالي للمواطن)، و(قمة النضج الفكري) ، وعلى أن حرص المواطنين الكبير على إنجاح العملية الانتخابية، واقتناعهم بأهمية الدور الذي يقوم به المجلس هو من دفعهم نحو التوجه إلى صناديق الاقتراع منذ الصباح الباكر، وحتى قبل أن تبدأ العملية الانتخابية، لكي يختاروا من يرونه مناسباً. وهي عبارات ما زالت تؤكد على سيادة مناخ (التطبيل) الإعلامي الفج، في الوقت الذي كانت فيه (باصات) النقل الجماعي تنقل مئات المرشـﱢــــحين إلى صناديق الاقتراع، وفي ذات الوقت الذي كانت فيه (القدور) تفوح بما لذ وطاب في الساحات القريبة من بيوت بعض المترشحين.
ومع أن كثيراً من المترشحين قد حرصوا على (الزج) بفئة كبار السن والمعوزين أمثاله، في برامجهم الانتخابية، فإنـﱠﱠﱠـه لا يبدو مهتماً بمعرفة أسماء المرشحين الفائزين بعد أن انفض السامر، أو بما سيفعلونه من أجله، وأنا الذي لم يقدر لي أن رأيته يوماً ما مشغولاً بغير (جونيته) التي يحملها على ظهره في رحلة عودته وإيابه، وربما كذلك لأنه يدرك أن مثل هذه البرامج قد وضعت لمجرد( الشو ) الإعلامي، أو التسول الانتخابي لأصوات أمثاله، فأين هذه البرامج طوال الفترات الماضية؟ ولماذا لا يتم تذكرهم سوى في مواسم الانتخابات؟
قد لا يهتم العم (راشد) في غفوته تلك، بمعرفة أن هناك من ينظر للأمر بسوداوية قائمة على حقيقة تحمل في طيـﱠـاتها أن الوعي بأهمية المجلس ودوره ما زال ضعيفاً وسط شرائح مجتمعية كبيرة، وأن السلبية (القاتلة) ما زالت تسيطر على فئات لا بأس بها من الشباب الذين يمكن أن يحدث على أيديهم التغيير المجتمعي الايجابي، وعلى أن سطوة المال، وانتشار ثقافة (القبيلة أولاً) مازالت تسهم في تحديد هوية كثير من الفائزين بمقاعد المجلس، وأن كل الجوانب الايجابية التي أبداها كثير من المترشحين من أفكار نيـﱢـرة ، وحماس متـﱠـقد، وطيبة زائدة، وكرم حاتمي، وتواصل مجتمعي ملحوظ، وحرص على خدمة الناس، ، قد تذهب إلى بيات شتوي وصيفي مطوﱠل حتى الدورة القادمة.
وربما لن تحدثه أحلامه عن فريق آخر متفائل كثيراً بالتجربة الحالية، ويرى فيها مقدمة لتجربة أكثر نضجاً في المراحل القادمة، ولتحول سياسي قادم في أداء المجلس بدلاً من الدور الاجتماعي الغالب حالياً، وأن هذا الفريق يراهن على فوز عدد من الشخصيات الجديدة التي ستأتي من خارج إطار ثقافة (المال والقبيلة)، وأن مجرد فوزهم يعد انتصاراً لفكرة التغيير التي يراهنون عليها مستقبلاً، ومبررهم في تفاؤلهم هذا هو حدوث إرهاصات كثيرة تدل على ذلك ، فلأول مرة يتم الحديث بشكل جاد عن أدوار حقيقية للمجلس ينبغي أن يقوم بها كالتشريع ومراقبة أداء الحكومة، بعد أن كانت الفكرة السائدة هي أن دور العضو ينحصر في مرافقة البعض لمقابلة المسئول الفلاني، أو المطالبة بخدمة مجتمعية معينة، أو كفالة شخص ما، ولأول مرة تطرح مصطلحات سياسية كسيادة دولة القانون، والعدالة الاجتماعية، والتغيير، والشفافية، ومكافحة الفساد،بعد أن كان الحديث عنها يعد من التابوهات المحرمة، ولأول مرة يتم وضع برامج انتخابية لكل مرشح، ولقاءات جماهيرية، وإدارة للحملات، بعد أن كان الاعتماد في السابق على السمعة القبلية أو الوضع المادي. صحيح أن كثير من هذه البرامج كانت غير ناضجة، وصحيح أن بعض المرشحين لم يكونوا على وعي كاف بما تتضمنه برامجهم من أفكار (كبيرة)، ولكن كل ذلك من شأنه أن يثير حراكاً مجتمعياً مهماً خلال الفترة القادمة ، ويمكن أن تأتي الدورة الثامنة من عمر المجلس بعد (4) سنوات ، وقد تغيرت مفاهيم ومصطلحات كثيرة، ويمكن أن يلاحظ وقتها نضجاً أشمل في البرامج المقدمة، وتحديداً أدق لمحاور هذه البرامج، ووعياً أكبر في مدى تقبل المجتمع لدور المجلس وأهميته، وانحساراً ملحوظاً لعمليات التلاعب المتعلقة بالترشح، في ظل هذا الوعي، وحرصاً أكبر في عملية الترشح، خاصة في ظل اهتمام عدد من الشباب المثقف بخوض التجربة، وفي ظل انفتاح (جزئي) في حرية طرح بعض وسائل الإعلام، وفي ظل ثورة تكنولوجية هائلة متمثلة في المنتديات السياسية ومواقع التواصل الاجتماعي، بشرط أن لا يمنع هذا التفاؤل من تسليط سهام النقد لأية ممارسات مجتمعية خاطئة أو قاصرة، لأنه بدون النقد والحوار والنقاش الفكري فلن يصل المجتمع إلى ما يصبو إليه، وما زال هناك مخاض عسير للوصول إلى تجربة بعض المجتمعات المتقدمة ديمقراطياً، فالعبء الأكبر في التغيير يقع على المجتمع بمؤسساته المجتمعية، ومهما تغيرت مئات القوانين، وأعطيت آلاف السلطات والتشريعات، فلن يحدث ذلك التغيير المنتظر في ظل سلبية المجتمع.
قد يكون الأمر الوحيد الذي يشغل ( العم راشد) في غفوته الصباحية هو ماذا سيفعل خلال الساعات القادمة من عمل، وما كمية المحصول الذي سيجمعه في نهاية اليوم، وهل سيجد من يقف له كي يوصله إلى المكان الذي اعتاد أن يبيع فيه محصوله المتواضع كل يوم؟
إنني أفكر جدياً في أن أقنع بعض زملائي كي نختاره مرشحاً لنا في الدورة القادمة، وقتها لن يتضمن برنامجه الانتخابي سوى جملة واحدة فقط "قليل من الكلام..كثير من العمل"
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.