جريدة الرؤية - الاثنين 10/10/2011م
تذكرون "أبو فاطمة"، صديقي القديم الذي حدثتكم عنه قبل فترة قريبة. اتصل بي منذ يومين طالباً لقائي على وجه السرعة. ذهبت إليه في مكانه المعتاد، وبعد السلام و السؤال عن الأخبار سألته: ما الذي يشغلك يا أبا فاطمة لدرجة أنك تستعجل لقائي؟ رد علي : لدي أمر يحيرني فقلت أسألك علــﱠــك تستطيع مساعدتي في إيجاد تفسير له.قلت له: وما هذا الأمر الذي يشغلك ويؤرق منامك؟ فأجاب : قرأت تصريحاً قبل أيام لمعالي رئيس مجلس إدارة بنك الإسكان العماني يتحدث عن تحقيق البنك لصافي أرباح قدره (9)ملايين ريال عماني في العام الفائت.
قلت له: وماذا في ذلك؟ أرى أن الخبر عادي ولا يستحق تلك الحيرة، بل يستحق التحية والتقدير. ما الذي يجعلك تعتبر هذا الخبر لغزاً يصعب عليك فهمه؟
نظر إلي نظرة تمعن وبعد فترة صمت قصيرة بادرني بسؤاله: قل لي أنت من يملك هذا البنك،و ما الهدف من إنشاءه؟ أجبته: حسب علمي فالحكومة تساهم فيه بحوالي (60%)، وبقية النسبة لصناديق حكومية،وهو يسعى إلى دعم الحركة العمرانية في البلاد من خلال إتاحة الفرصة للمواطن لامتلاك المسكن الصحي ليعيش حياة كريمة، إيمانا من الحكومة بأن قضية الإسكان هي الركيزة الأساسية والعمود الفقري لباقي عوامل التنمية الأخــرى.
هنا قال أبو فاطمة: كلام نظري جميل ويستحق التصفيق، ولكن هل هذا هو الواقع فعلاً؟ أنا وأنت هل نشعر بواقعية هذا الكلام؟ قل لي كيف مولت بناء بيتك؟
قلت له مرتبكاً: أخذت قرضاً من بنك تجاري بفائدة تقدر بنسبة (7%)، واستلمته بعد أسبوع من طلبي للقرض.
رد علي: أنت مواطن محدود الدخل بمقياس الحالة الاقتصادية الراهنة التي نعيشها، أليس من الأولى أن تذهب لبنك الإسكان العماني بدلاً من ذهابك لبنك تجاري خاص؟
رددت: بلى، ذهبت أكثر من مرة ، واستفسرت عن آلية الحصول على القرض، فأجابوني بأن نسبة الفائدة ستكون (8%) لأن دخلي يتجاوز (600) ريال، وأن علي أن أنتظر الدور، ولو كنت مستعجلاً فيمكن أن يتم تسريع دوري مقابل أن تكون نسبة الفائدة (9%)، وأخذوا بياناتي، ووعدوني بالاتصال، وحتى وقتك هذا لم يتصلوا بي.
رد علي بغضب: "بالذمة هذا كلام يقال"؟ بنك تساهم فيه الحكومة بحوالي (60%)،ومخصص أساساً لمساعدة المواطن، وتكون فيه نسبة الفائدة أعلى من فوائد البنوك التجارية؟بأي منطق يمكن لنا استيعاب هذا الكلام؟ ماذا يعني أن راتبك أكثر من (600) ريال أو حتى ألف ريال؟ هل هذا بالضرورة دليل على حسن وضعك الاجتماعي والاقتصادي؟ ألا يعي هؤلاء المسئولين تغير كثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية ، وحالة الغلاء التي نعيشها؟ ألا يدركوا أنه يمكن أن تكون لديك التزامات اجتماعية كثيرة قد تكون أكثر بكثير من التزامات كثير ممن تقل مداخيلهم الشهرية عنك؟بما أن البنك حكومي ، وبما أن الهدف منه هو مساعدة المواطن في تأمين المسكن المناسب ، فماذا سيضيرهم لو اقتصرت فائدة البنك عند 1% مثلاً، كمصاريف إدارية ، ما دامت اشتراطات البنك قادرة على جعلك تدفع قسطك أولاً بأول دون تأخير؟إذاً لا تلم الشباب إذا توجه أكثرهم للبنوك الخاصة، وللجمعيات الأهلية، فبنك الإسكان أصبح ينطبق عليه المثل القائل"أسمع جعجعة ولا أرى طحناً".
والسبب في كل ذلك يا أبا فاطمة؟
قال: السبب ببساطة أن بعض المسئولين لا يريدوا أن يرهقوا أنفسهم في التفكير ولو لدقائق محدودة، لو فكروا قليلاً لوجدوا أن هناك أشياء كثيرة بحاجة لتغيير، لأن الزمن والظروف والتحديات قد تغيرت، ما زالت النظرة العامة تجاه الوزارة تنحصر في تخطيط وتوزيع الأراضي، وكذلك المساهمة في بناء بعض المساكن المتعلقة بفئة الضمان الاجتماعي.مازالوا لم يعوا أن مسألة المسكن صارت أحد مؤشرات ميزان التنمية البشرية،وأن توفير المسكن بالإضافة إلى التعليم والصحة يشكلوا ثالوثاً اجتماعياً مهماً لا يجب التفريط في أحدها.
قلت له: تتكلم كثيراً يا أبا فاطمة دون أن تقدم لي مقترحاً وحيداً .
رد علي: المقترحات كثيرة، ولو قام المسئولين بعمل صفحة على "الفيسبوك"، أو تخصيص مساحة تواصل معينة لأتتهم مئات المقترحات الوجيهة والمهمة. خذ معك على سبيل المثال :مادامت الحكومة تخصص مئات الملايين سنوياً لقطاعي التعليم والصحة، فأين هي حصة الإسكان؟ تخيل معي لو تم تخصيص مبلغ (100) مليون ريال سنوياً مثلاً لقطاع الإسكان، فكم من المشاريع الإسكانية سيتم إنشائها، وكم من القروض الميسرة سيتم توفيرها للمواطنين؟ لو افترضنا أن الحكومة ستقدم مبلغ (20) ألف ريال لكل شاب كمساهمة في بناء منزل ملائم، فهذا يعني أن هناك حوالي (5000) شاب يمكن أن يستفيدوا من هذه الخدمة سنوياً، وهو عدد معقول ومناسب، ووفق خطة زمنية محددة سيمكننا ذلك من توفير المسكن الملائم لقطاعات كبيرة من المواطنين، فما بالك لو تم ضخ جزء كبير من هذا المبلغ السنوي في ميزانية بنك الإسكان،مع الحديث عن فوائد مخفضة، فهذا يعني أن ما ستدفعه الحكومة باليمين ستأخذه بالشمال، لأن الأقساط سيتم اقتطاعها مباشرة من رواتبهم الشهرية.
خذ معك مقترح آخر: لو قامت الحكومة مثلاً بمشروع إسكاني وطني في كل ولاية يقوم على أساس توفير الأرض وكامل الخدمات المتعلقة بها، والمساهمة في بناء الوحدة السكنية بنسبة معينة قد تصل في بعض الحالات ل50% من قيمة الوحدة، ويأخذ هذا المشروع زخماً إعلاميا باعتباره سيسهم في الحد من مشكلة الإسكان، ويتم "إغراء" التجار والمقاولين في الاشتراك فيه بتقديم بعض المواد كالحديد والاسمنت على سبيل المثال بالمجان بواقع حصة معينة لكل منزل، أو عمل تخفيضات في سعر المتر المربع، مقابل أن تقوم الحكومة بمنحهم بعض الامتيازات كالإعفاءات الضريبية مثلاً، ألن يكن الوضع أفضل من الوضع الحالي ؟ خاصة أن البعض يترك أرضه الحكومية التي دفع رسومها، لأنها تقع في مكان بعيد لا تتوافر به الخدمات، ويضطر لشراء أرض قريبة بسعر عال، مما يؤثر على الوضع الاقتصادي لقطاع من المواطنين.
ختم أبو فاطمة كلامه وهو يستعد للذهاب: يا صديقي الكلام كثير وما أسهله، ولكن الأهم التنفيذ، متى ما اعتبرنا أن قضية الإسكان توازي في أهميتها قضايا أخرى كالتعليم أو الصحة أو الأمن، فإننا نستطيع أن نقدم خدمات أكثر ملامسة لوضع المواطن،وحجم تطلعاته، خاصة وأننا لا نعاني من كثافة سكانية عالية، أو قلة موارد، بقدر ما نحتاج لشيء من التنظيم، وإعادة النظر في كافة جوانب العملية الإسكانية بشيء من الهدوء والدقة، وقتها سنجد أننا قادرين على ابتكار الكثير من الحلول.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.