جريدة الرؤية - الاثنين - 3/10/2011
يجود علي أستاذي ربيع عنبر – وهو باحث مهتم بالموروث المحلي وله جهوده البارزة والواضحة في هذا المجال – بنفحات تاريخية جميلة من حين لآخر ، حين يدعوني لحضور بعض اللقاءات مع عدد من الشخصيات التي كان لها دور في صناعة التاريخ المحلي من خلال مجالاتهم المختلفة، سواء كانوا رواة تاريخ وأنساب، أم "نواخذة" سفن، أم بحارة، أم "وساتيد"، أم مهتمين بالفنون العمانية المغنـﱠـاة، أم شعراء، أو غيرهم من المجيدين في المجالات المختلفة.
وتقودني قدماي أحياناً نحو مجالس بعض "الوجهاء" الذين كانت لهم تجارب مجتمعية سياسية واجتماعية متنوعة، كي أقضي وقتاً مشوقاً بحضرة التاريخ العماني المروي، وأشعر وقتها كأني "تلميذ" صغير في مدرسة أساتذتها هم العمالقة الذين مروا بخبرات عديدة صقلت فكرهم، وأضافت لمعرفتهم الشيء الكثير.
لحظات جميلة أعيشها في حضرة هؤلاء، فعمق تجربتهم، وغزارة معلوماتهم، وتنوع اهتماماتهم، من الأمور التي تميز حواراتي معهم، والتي أستقي منها ما يجعلني أتشوق للقاءات أخرى .
وبرغم سعادتي وإعجابي بمدى الفائدة والحصيلة الثقافية المتنوعة التي أخرج بها من خلال مجالستي لأمثال هؤلاء "الكبار" ، برغم ألمي لما وصل إليه حال الكثير منهم، من قلة تقدير، وضعف اهتمام، ولعل ما يزيد ألمي هو ملامح الأسى التي تعتريهم عند سؤالي لهم: أين المجتمع من كل ما تملكونه من خبرة وإمكانات.
مازالت ذاكرتي تحتفظ بتفاصيل حوار أجريته يوماً ما مع أحد أصحاب الماحات (ورشة حدادة) ، وأذكر أنني سألته يومها عن نصيحته لشباب المستقبل، فقال لي: لا أنصحهم بشيء، فأنا بعد (55) سنة من العمل المتواصل في هذه الحرفة، لا أجد في هذه الورشة اليوم ما يسد رمقي بعد أن نافستني العمالة الوافدة ، وما حرصي على وجودي اليومي بها إلا لكي أمنع نفسي من البكاء على ماض رحل، ولكي يجد رفاقي مكاناً يواسون فيه أنفسهم، بعد سنوات طوال من العمل المتواصل في مختلف المجالات.
كما ما زلت أتذكر قصة "الصائغ " الصوري الذي أدهش الأديب العالمي المشهور وعبقري الرواية العربية "الطيب صالح" عندما زاره يوماً في محله، وجادله في تفسير بيت شعر عربي يتعلق ب"السيوف الهندية واليمانية". وقتها اعترف الطيب صالح ببراعة هذا العماني الذي ربما لم يهاجر يوماً إلى الشمال كما فعل هو.رأيت الألم على محيا هذا "الصائغ" عندما زرته يوماً، وهو نفس الأمر الذي تكرر في زيارات متناثرة لأصحاب حرف أخرى.
يتألم هؤلاء عندما تتعامل معهم وسائل الإعلام المحلية المختلفة، والجهات المسئولة عن الثقافة، باعتبارهم" أنتيكات" يمكن استضافتهم لدقائق بمقابل مادي بسيط لا يتوازى مع ما يمتلكونه من خبرات، وبغير مقابل في كثير من الأحيان، حالهم كحال الآخرين الذين لا يمتلكون "ربع" ما يمتلكه هؤلاء، وكأن الشهادة أو الشباب هو وحده من يبني الوطن.
كما يتألمون عندما يشاهدون برامج إعلامية يقدمها أمثالهم في دول أخرى، يقدمون فيها عصارة فكرهم وتجربهم، ويشعرون من خلالها بمدى التقدير والامتنان تجاههم من خلال إتاحة مثل هذه المساحات الإعلامية ليقدموا لمجتمعهم رؤيتهم وتصوراتهم في المجالات التي برعوا فيها.
ويتألمون أكثر عندما يسمعون عن رغبة بعض المؤسسات الثقافية والفنية في تلك الدول، في تقديم السير الذاتية لأمثالهم ،من خلال كتب مطبوعة، أو تحويلها لبرامج وثائقية أو فنية، تحفظ تاريخهم، وفي نفس الوقت تحقق أعلى المبيعات، باعتبارهم شاهداً على كثير من التجارب والأحداث المختلفة على مدى سنوات طويلة .
وهنا ينبغي علينا أن نتوقف قليلاً لكي نقيــﱢـم تعاملنا تجاه هؤلاء ، ونتساءل مع أنفسنا: ماذا قدمنا لهؤلاء الذين عايشوا ظروفاً صعبة في أوقات معينة، فلم يستكينوا، وشاركوا بكل همة ونشاط، ورغبة صادقة، في بناء لبنات الوطن، دون انتظار لتكريم، ألا نخشى أن نفقدهم يوماً دون أن نستفد مما يحملونه من خبرات حياتية يحتاجها المجتمع، وتعينه على التقدم والمنافسة.
هل فكـــﱠــر أحد معدي البرامج الإعلامية في تخصيص برنامج يقدمه بعض هؤلاء، كل يتحدث في مجاله، وهل خطر ببال أحد المنتجين في تقديم مسلسل أو فيلم وثائقي مستوحى من تجربة أحدهم؟ وهل اهتمت بعض مؤسسات التعليم العالي المختلفة في استضافة بعض هذه الشخصيات في تقديم محاضرات مختلفة كل في مجال تخصصه، يتم من خلالها ربط ما يدرسه الطلاب بتاريخ بلدهم في أي مجال كان، كما يحدث في بعض البلدان الأخرى؟ومتى سنرى المذكرات الخاصة بالعديد من الشخصيات العمانية التي أثرت البلد بعطاءاتها في مختلف الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية المختلفة.
ربما كانت هناك تجارب ومحاولات في هذا المجال، ولكن كثير منها كانت تجارب خجولة لم تكتمل، ولم تكن بالشكل الذي يشعر هؤلاء من خلالها بالرضا والامتنان.
وفي نفس الوقت ينبغي علينا أن نعيد العشرات من الحرفيين المجيدين في المجالات المختلفة، والذين تدهورت أوضاعهم الاقتصادية، وهجر كثير منهم حرفته، بسبب منافسة العمالة الوافدة الرخيصة له في مجال عمله، وبسبب عدم وجود قوانين حامية ومشجعة له، وذلك من خلال إيجاد قوانين وتشريعات تحمي الحرف الأصيلة التي يعملون بها ، ومن خلال ترويج منتجاتهم ، وتسويقها في الأسواق والمعارض المحلية والدولية، ومن خلال توفير الأسواق الشعبية التي تجعلهم أكثر استقراراً وبالتالي أكثر إنتاجاً، وبنفس الوقت تحافظ على الإرث الحضاري للوطن.
إن أمثال هؤلاء كثر في مجتمعنا العماني، هم بحاجة فقط لمن يمنحهم شيئاً من الاهتمام والتقدير، فهي دعوة للقائمين على الجهات المنوط بها أمر الثقافة، ووسائل الإعلام المختلفة لتقديم تجربتهم للجيل القادم بالشكل الذي يتناسب وعطاءهم، فما أحوج هذا الجيل إلى من يقدم لهم خلاصة خبرة هؤلاء وكفاحهم وتضحياتهم، علـﱠـهم يجدون فيها ما يعينهم على مواجهة كثير من التحديات، ويرون فيها القدوة الإيجابية، في زمن اختلطت فيه كثير من القيم بتحديات العولمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.