الأحد، 23 أكتوبر 2011

"رفقـاً بهم"


    جريدة الرؤية - الاثنين -24/10/2011م
كنت بالمستشفى لزيارة أحد معارفي عندما سمعت ذلك البكاء الذي يقطـــع نياط القلوب "بأموت" "بأموت". بحثت عن مصدر الصوت فوجدته لصبي لم يتجاوز الحادية عشرة من العمر ، كان  متدثـــراً بلحاف السرير،           و إحدى يداه ملفوفة بالجبس، بينما عيناه غارقتان في الدموع . اقتربت منه وسألته: لم تبكي يا بني؟ وما الذي سيجعلك تموت؟ أجابني: يدي تؤلمني بشدة من جراء العملية التي أجريت لي صباح اليوم، ولا أستطيع النوم، وليس هناك من يخفف عني ألمي. قلت له: وأين والدك؟ رد علي : والدي متوفي منذ سنتين، وأنا أكبر إخوتي،  وأمي في البيت مع إخوتي لأنها لا تستطيع أن تتركهم لوحدهم، وبيتنا في قرية بعيدة عن المستشفى. سألته: ومن يرافقك إذاً؟ قال: معي خالي، ولكنه لا يجلس معي كثيراً، وهو طوال الوقت خارج الغرفة.

لا أعلم لم تذكرت وقتها كثيراً من المشاهد المؤلمة لعدد من مظاهر اليتم التي ما برحت ذاكرتي تحتفظ بها طوال سنين مضت. هل جال في خاطري صالح وإخوته جيراننا البعيدين والذين خرجوا من المدرسة تباعاً بعد وفاة والدهم، وأكبرهم لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، لأنهم ربما لم يجدوا من يشعرهم بأن الحياة فيها كثير من الأشياء الجميلة؟ وهل سأنسى ملامح تلك الطفلة ذات العشر سنوات بملابسها البالية، وشعرها المنكوش، وقد اقتربت  مني يوماً في أحد ميادين القاهرة طلباً لبعض المال كي تتمكن من شراء وجبة عشاء لأخيها الصغير الذي كانت تمسكه بإحدى يديها؟ وهل سأسامح ذلك الصديق الذي  أرسل لي بريداً الكترونياً يحوي صورة تم التقاطها في إحدى دور الأيتام لطفل رسم صورة  لوالدته على الأرض ونام بحضنها؟ بل وهل سأغفر لصديق آخر ما فعله بمشاعري حين عرض علي صورة طفلة تبكي على قبر أمها، وهي تحمل حقيبتها المدرسية ؟وقتها ظلت الصورتان تراودان مخيلتي وتقلق منامي لعدة ليال قبل أن أتناساهما كما يفعل كثير من البشر عندما تتغلب قسوتهم على مشاعرهم.

أتساءل أحياناً عندما تقترب مني ابنتي ذات السنتين ، لتوقظني من نومي العميق،  كي أشاركها لعبها ولهوها، وابتسامتها تغطي وجهها، بينما صدى ضحكاتها يملأ أرجاء الغرفة. ترى لو لم أكن موجوداً على هذه الحياة، فهل ستجد من يلاعبها؟و هل هناك من سيتحمل إزعاجها البريء له دون غضب أو تبرم؟ وهل ستلاقي من سيحتضنها في حنان لو سالت دموعها بسبب ملامح قسوة بسيطة لم تحتملها؟ ومن سيعتني بها إن مرضت في ليلة ما؟

وأتساءل كذلك عندما تتغلـــى علي "موده " في دلال كي آخذها إلى مسقط في عطلة نهاية الأسبوع ، أو عندما تتصل بي ليلاً قبل عودتي إلى البيت كي أحضر لها عشاءً  تحبه، أو تنتظر عودتي ظهراً من عملي كي تبشرني بعلامة كاملة حصلت عليها في إحدى المواد، أو تطلب مني أن أشرح لها درساً صعـب عليها فهمه. ترى هل يستطع أقرانها الأيتام أن يفعلوا مثلها؟ وهل يجدوا من "يتغلوا عليه" كي يلبي لهم طلباتهم؟ وهل هناك من سيربت على ظهورهم في حنان أبوي، وهل يجدون من يقوم بتغطيتهم ليلاً خوفاً عليهم من برد الحياة؟

كل ذلك يجعلني أتساءل في ألم:كل منا يعرف في محيطه الأسري أو العائلي أو المجتمعي عدداً من الأيتام، فماذا فعلنا لأجلهم؟ وما هي مظاهر اهتمامنا بهم؟ وهل تتعدى تلك المظاهر بعض العطف والشفقة، وقليلاً من الملابس والمال في بعض المناسبات؟

كان المجتمع في السابق متماسكاً متكافلاً  رحيماً ببعضه البعض. كان للواحد منا عشرات الآباء والأمهات والأخوة، و كانت كثير من الأسر المقتدرة تحتضن اليتامى وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بهم وحماية حقوقهم، وكان الرجل يكفل جاره ويعتني بأحوال أسرته في غيابه أو وفاته، وكانت المرأة تعتبر نفسها أماً بديلة لأبناء من تتوفى من جاراتها أو قريباتها، فتحسن الاعتناء بهم، وتحاول تعويضهم عن حنان الأم، بل إن بعضهن يصعب عليها أن ترى ابن جارتها يصرخ من الجوع لمجرد أن والدته قد تأخرت في جلب الماء، أو إعداد الطعام، فتبادر إلى إرضاعه حتى ولو لم يطل غياب والدته عنه. وكانت الجدات يحطن أحفادهن بالرعاية الكافية، والعناية الكبيرة، فهن الصدر الحنون لهم لو ضايقتهم قسوة (مبررة ) من والدهم، أو أزعجهم عتاب (مطلوب ) من أمهم، فيكون التعويض بفتح صندوق الهدايا، وسرد القصص والحكايات القديمة، و(هدهدة) ذلك الحفيد في حنان حتى ينام، فما بالكم لو كان هذا الحفيد يتيماً؟

أما الآن فلربما تغير المشهد كثيراً، وفقدنا في زحمة ما ندعيه من تسارع العصر، وهموم الحياة كثيراً من قيمنا وعاداتنا الجميلة في عدد من أنماط العلاقات الإنسانية، لعل من بينها الاهتمام بكفالة الأيتام ورعايتهم، فلم يعد المجتمع يعطي هذه الفئة الاهتمام (الإنساني) الكافي الذي تحتاجه.

إن هؤلاء الأيتام ليسوا بحاجة فقط إلى أن نتصدق عليهم ببعض المال أو الهدايا، أو أن ندرجهم ضمن الفئات التي تستحق الإعانة، أو أن (تحسن) عليهم بعض الجهات بعدد من المقاعد الدراسية،فهذه أمور مفروغ منها ، وواجب ديني على الحكومة والمجتمع أن ينفذه ويقوم به على الوجه الأكمل، ولابد من المراجعة الشاملة، والتفعيل الأمثل لصناديق الزكاة، والأوقاف، والرعاية الاجتماعية، بحيث تؤدي دورها المطلوب لخدمة هذه الفئة في هذا المجال.

هم ربما لا يهمهم كثيراً كذلك  إقامة الجمعيات الخيرية ، والتي قد يقتصر دورها فقط على تقديم القليل من المساعدات المادية والعينية، والكثير من الشو الإعلامي، أو أن نخصص لهم يوماً واحداً في السنة كي نتذكرهم فيه، ونتعامل معهم يومها كأنهم (أنتيكات ) للعرض، وننظم لهم بعض الفعاليات الترفيهية،ونهديهم بعض الهدايا التذكارية البسيطة، مع شيء من الكلمات الموشـــاة بحلو الكلام عن اليتيم وأهمية الاعتناء به، بينما نقضي باقي الوقت في التقاط الصور التذكارية مع راعي المناسبة، وفي التأكيد على أهمية أن تظهر صورنا في أخبار الصحف المحلية في اليوم التالي، مع ملاحظة أن كثير من هذه النوعية من الحفلات لا يراعى فيها الجانب النفسي لليتيم أحياناً، فبدلاً من أن تدخل الابتسامة في قلبه، فإنها تجدد في نفسه الألم والحزن، وتصر على أن تشعره بأن هناك ما ينقصه بعكس أقرانه الآخرين.

هم بحاجة لاهتمام من نوع آخر، بحاجة لمن يشعر بهم ويحس بما يعانوه. بحاجة لمن يكون لهم الأب الحنون، والأم الرءوم، والأخ الوفي، بحاجة لمن يهتم بمطالبهم النفسية قبل المادية، دون أن يشعرهم بالشفقة والتمييز بينهم وبين غيرهم من فئات المجتمع.

هم بحاجة إلى من يوفر لهم الإرشاد والتوجيه الثقافي والسلوكي، خاصة في سنوات مقتبل الحياة، وفترة المراهقة، ولو اهتم بعض منا بأن (يحتضن) يتيماً يعرفه، فيغدق عليه حنانه في غير مبالغة، ويراعي حاجاته النفسية، ويحاول تقويم تصرفاته السلوكية، ويكون قريباً منه بنصائحه وإرشاده كي يتلمس خطوات حياته حتى يصبح قادراً على تولي مسئولياته، لأصبح مجتمعنا في خير كثير.

مهما قلنا أو فعلنا ، فلن ندرك أبدا كيف هو شعور من يكتشف في لحظة أنه بدون أب أو أم، وصدق تعالى حين قال"وأما اليتيم فلا تقهر".


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.