الاثنين، 8 مايو 2017

في بلاد القدّيس جورج (3)

الساعة العاشرة من صباح أول يوم لنا في جورجيا. كنت قد انتهيت من جولتي الاستكشافيّة الصباحيّة في شارع روستافيلي الشهير، ويمكن القول إنني تعرّفت على نصف معالم المدينة خلال تلك الجولة. تذكّرني تبليسي بمدينة الرباط المغربيّة، حيث المدينة (ملمومة)، واضحة المعالم، ذات تصميمٍ هادئ غير مزعج للعين، يمكن أن تحفظ طرقاتها بعد جولة أو اثنتين وكأنها قرية صغيرة لا عاصمة لدولة!

يصل أسامة ليأخذنا في جولة اليوم الأول التي خصصناها لمعالم العاصمة. أسامة شابٌ عراقي يعمل مرشداً في شركة السياحة التي يملكها صديقي المصري كريم البنهاوي الأصل، الشبراوي النشأة. ابن بنها العسل الذي أتى ليجرّب حظّه وينجح في جورجيا المشهورة بالعسل كشهرة الهند بالفلفل. يا لمفارقات الأيام! وأقدارنا بيد السماء يا نهر البنفسج! لم أعتد التعاقد مع مكاتب سياحيّة، ولا الاستعانة بأدلاء أو مرشدين في أيّ بلدٍ أزوره، تاركاً كل شيء للتجربة والاستكشاف، وبعضٍ من حصيلةٍ معرفيّة بسيطةٍ عن البلد التي أنتوي زيارتها، فلا روعة تعادل لهفة استكشاف الأماكن، ولا جمال يوازي الانبهار بالمجهول! لكنني كسرت القاعدة هذه المرة لأسبابٍ عدّة أهمّها رغبتي في توفير إقامة مثاليّة لمرافقي الذي يصحبني لأول مرّة طوال الأيام الثمان التي سنقضيها وأنا الذي اعتدت السفر وحيداً كذئبٍ متفرّد، وقد يعود ربّما إلى قلقٍ داخليّ من المجهول في بلدٍ ليس معروفاً جداً بالنسبة لي، ولم أذاكره جيّداً كما فعلت في رحلاتي السابقة!

تبدأ جولتنا من شارع روستافيللي مروراً بذات الأماكن التي مررت عليها صباحاً باتجاه ميدان الحريّة حيث محطة توقفنا الأولى. أشير بإصبعي إلى الماكدونالدز الذي كان ظهوره تحدياً لحقبة ثمانين عاماً من الثقافة الإشتراكيّة، ثم إلى مبنى الاوبرا بتصميمه الأندلسيّ. يليه مبنى البرلمان القديم لجورجيا بأعمدته العالية كأنك في قلب بيزنطه القديمة! والمتحف الوطنيّ الجورجيّ، وكنيسة كاشفيتي بقبّتها المدبّبة التي لن تجدها سوى في كنائس جورجيا. لا شيء أكثر من الكنائس هنا، كما هي الجوامع في إسطنبول، والمآذن في القاهرة. وسط استغراب من أسامة وأحمد، فكيف لي أن أعرف كل هذا وأنا الذي ما زالت رجلي ساخنة، أو بالأحرى يفترض أنها المرّة الأولى التي أرى فيها هذه المعالم!! لم أخبرهم بالطبع أنني قطعت هذا الشارع صباحاً ومررت على كل حجر فيه بينما هم يتدثّرون بفراشهم هرباً من لسعة بردٍ قارسة في مدينة تسمى بمدينة الدفء! 

تقف السيارة في إحدى نواصي ميدان الحريّة بساحته الواسعة، وفنادقه الراقية، ومقاهيه (الشيك) التي تحيط به. يعد هذا الميدان قلب العاصمة، وهو يمثّل ذات الأهميّة التي يمثلها ميدان التحرير في القاهرة، أو الكونكورد في باريس، ومنه تنطلق المظاهرات والأحداث الساخنة، بل إنّه كان الساحة الرئيسية زمن الثورة الجورجية عام٢٠٠٣. يميّز الميدان عمود شاهق الارتفاع عليه تمثال ذهبي. نأخذ جولة سريعة في ساحته، وبعضاً من صورٍ سنبعثها فيما بعد هنا وهناك. يقترح علينا أسامه أن نجرّب الكاشابوري أو (الخاشبوري كما يطلق عليه البعض) وهي فطيرة مصنوعة من عجينة تشبه عجينة البيتزا مغطاة بالجبن. المطبخ الجورجي مطبخ متنوّع، وهو متأثر بلا شك بالمطبخ الروسي، وهناك العديد من المطاعم الجورجيّة الراقية التي تقدّم الطعام الجورجيّ الصميم الذي يشتهر بلذّته ووفرة كميّاته المقدّمة وتنوّع أطباقه، فهناك الخينكالى وهي وجبة شبيهة بالزلابية تطهى مع البطاطس ولحم البقر والجبن أو الفطر، وهناك (كاشابورى أدجارولى) وهو عجينة على شكل قارب تغطي سطحها الجبن الذائب تتوسطها بيضة مسلوقة. على الرغم من تنوّع ولذة الأطباق التي يقدّمها المطبخ الجورجي إلا أن التخوّف من طريقة الذبح، أو عدم توافق المكوّنات مع الشريعة الإسلاميّة يجعل العديد من السيّاح العرب والمسلمين ينفرون من تلك المطاعم مفضّلين عليها المطاعم التركيّة والإيرانيّة التي تقدّم نفسها بكلمة (حلال) الموضوعة على واجهة مداخل تلك المطاعم! 

من مقهى دونكين دوناتس الذي يقع على ناصية ساحة الميدان والذي تناولنا فيه إفطارنا الصباحيّ المكوّن من أقداح الشاي والقهوة وأطباق الخاشبوري، نكمل جولتنا حيث ندخل شارع (كوت أفخازي) المؤدي إلى تبليسي القديمة، وهو شارع يشابه الشوارع المنتشرة في منطقة السلطان أحمد في إسطنبول القديمة حيث مكاتب السياحة، والمطاعم الكلاسيكيّة، والمقاهي المفتوحة، والبازارات، وحيث الكنائس المتلاصقة والبيوت القديمة التي رمّمت وحوّلت إلى نزل وحانات ومطاعم لنصل بعدها إلى ميدان تبليسي القديمة، حيث نلمح لافتةً ضخمة كتب عليها باللغة الإنجليزيّة عبارة (أنا أحب جورجيا) وحولها العديد من السيّاح الذي يلتقطون السيلفي أو الصور الجماعيّة أمامها.

تتميّز المدينة القديمة بشوارعها الضيقة وأبنيتها المحافظة على خصائص العمارة القوقازيّة فأغلب المباني هنا مؤلّفة من طابقين أو ثلاثة، كما أنها تتميّز بمشربيّات ونوافذ واسعة وكأنك في قلب مدينة شرقيّة. الساحة التي هبطنا فيها تعجّ بالحركة والنشاط: بازارات تعجّ بأنواع الهدايا والتذكارات، وأخرى لعرض وبيع السجّاد. مجموعة من أصحاب السيارات حولوا مركباتهم إلى معارض مفتوحة للبرامج السياحيّة التي يقدّمونها، بعض الباعة من الرجال والنساء من مختلف الأعمار يبيعون العسل والعصير الطازج الذي يتم عصره أمامك. جرّبت بعدها شرب كوب من عصير الرمّان فندمت ألف مرّة على كل لحظة واتتني لشربه ولم أفعل! مجموعة من الحمّامات الكبريتيّة المبنيّة من الطين والفخار والتي تعد من أسباب شهرة البلد سياحيّاً. مسجد الجامع المبني على الطراز الفارسي والذي يعدّ الوحيد في المدينة وتقام به صلاة الجمعة. عدد من البيوت ذات الطابقين والثلاثة التي تطل على الساحة وعلى النهر الصغير الذي يفصلها عنه. وسط جوّ منعش لا يخلو من لسعة برد خفيفة نواصل جولتنا وسط كل هذا حتى نصل إلى الشلال الذي ينبع منه النهر ثم نعبر جسراً علّقت على أطرافه مجموعة من الأقفال كتبت عليها أسماء العشّاق والمحبّين كتقليدٍ اشتهر به المكان، أو لارتباطه بأسطورةً أو خرافةٍ معيّنة! لنصعد بعدها سلّماً حديدياً يصلنا إلى الحارة المعلّقة والتي تتميّز بإطلالتها الجميلة على المدينة، ونظافتها الشديدة، وحسن تنسيق بيوتها، وكأنك في رقعة شطرنج لا وسط حارة سكنيّة! لنعاود الصعود حتى نصل قلعة ناريكالا الشهيرة.

د. محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.