الثلاثاء، 8 يوليو 2014

"رمضانيّات"


(1)

في إحدى برامج المسابقات الإذاعيّة التي تصحو فجأة  في هذا الشهر الفضيل من بياتها السّنوي، طرحت مذيعة إحدى القنوات الإذاعيّة الخاصّة هذا السؤال: ما عاصمة الخلافة العربيّة الإسلاميّة زمن الدولة العبّاسيّة؟

لم تكد المذيعة تنتهي من إكمال طرح السؤال حتّى يتّصل أحدهم، وهو نموذج للشاب الذي تستطيع وأنت تسمع نبرات صوته أن تتخيّل لون دشداشته وكمّته، وشكل لحيته التي لابد أن تمر على حلاق تركيّ مساء كلّ يوم، ويمكن أن تستنتج كذلك هواياته التي ليست من بينها بالطبع قراءة الكتب.

بعد السلام والسؤال عن الأخبار، وبعد أن تطلب منه الإجابة يأتي الجواب الخالد: " ماشي خيارات"؟  فتردّ عليه المذيعة : عندك خيارين. دمشق، أم بغداااااااااااااد، أم بغداااااااااااد. بعد فترة من الحيرة والتردّد برغم كلّ المحاولات الجبّارة التي بذلتها المذيعة للتلميح بالإجابة، إلا أنّ صاحبنا : نتوكّل على الله ونقول دمشق.

على قناة أخرى وبعد أن أسهبت المذيعة في شرح قصّة المثل أتى السّؤال كالآتي : أكمل المثل التالي "عادت حليمة لـعادتها....". يتّصل أبو فهمي وهو متصل لا يختلف عن نظيره السابق. اعطنا الإجابة يا أبا فهمي، الإجابة هي البخل.

 تنذهل المذيعة من الإجابة وتقول لأبو فهمي: أنت بالتأكيد تمزح معنا، هيا قول الإجابة الصحيحة. يفكّر أبو فهمي قليلاً ويستحضر كلّ الموسوعات الثقافيّة التي يحتفظ بها في عقله الباطن ليجيب مرّة أخرى: زين نقول السّمن؟

المسكينة لا تعلم أنّ أبو فهمي كان جادّاً في إجابته، وأنّه باستثناء بضعة معلومات عن ميسّي ورونالدو وريال مدريد وبرشلونه وكأس العالم، والواتساب، وطرق تزيين السيّارات، وأهم محلات الحلاقة فإنّ الحصيلة الثقافيّة الجادّة تكاد تكون فارغة، وليس وحده من يعاني من ذلك، بل كثير من أبناء هذا الجيل الذين لم يقرأوا مجلّة ماجد، ولم يتربّوا على المسابقات الثقافيّة المدرسيّة أو المجتمعيّة. هو باختصار الجيل الذي يصطدم بك في كلّ مرّة تذهب إلى مجمّع تجاري، أو تمشي في ممرّات إحدى الكلّيّات الخاصّة والعامّة كذلك، أو لا يعطيك وجهاً في أيّ جلسة تجمعكم معاً لأنّه مشغول (لشوشته) بمحادثة إلكترونيّة مع مستقبل وهمي.

تذكّرت كيف كنّا نتعارك من منّا سيقرأ مجلّات "ماجد" أو " باسم" أو "مشاعل" أوّلاً، ومن منّا سيسعده الحظ للمشاركة في مسابقة المدرسة، أو الفريق، أو النادي الثقافيّة. تذكرت كذلك افتخاري وفرحتي في كلّ مرة أحصي فيها عدد المشاركين من السلطنة في البرامج الثقافيّة التي تعدّها إذاعة كالبي بي سي، أو الفائزين في مسابقة مجلّة " العربي" الثقافيّة، أو المساهمات الثقافيّة  والرسومات العمانيّة المنشورة في مجلات الأطفال السالف ذكرها.

(2)

أمّا الإعلانات التجاريّة المسموعة فذاك موّال آخر، وللأسف فإنّ كثيراً من هذه الإعلانات تمتاز بالسماجة وثقل الدم، وتحاول أن تصوّر المستهلك العماني وكأنّه مستهلك ساذج يلهث وراء أيّ عرض، ويصدّق أيّ كلام يقوله هذا الإعلان أو ذاك، كالإعلان الذي يبشّر فيه الزوج زوجته بأنّ مشاكلهم الماليّة في طريقها للحلّ من خلال زيارتهم للمحلّ الفلاني وتعبئتهم لكوبون الشراء الذي سيؤهّلهم للحصول على عشرة آلاف ريال مرّة واحدة، وكأنّه لا كوبونات أخرى سيتم تعبئتها من قبل الآخرين، وبالأخص من العمالة الوافدة، أو كالإعلانات ذات الجينات  الواحدة والتي تتحدّث عن فتاة  تخبر صديقاتها عن منتج أو عرض معيّن فتبادر الأخريات في نفس التوّ واللحظة إلى (الركض) نحو مصدر ذلك العرض أو المنتج للحصول عليه قبل فوات الأوان.

إعلان آخر يتحدث عن انتهاء مشكلة المواطن السكنية، وقدرته (أخيراً)على بناء منزل العمر، وذلك من خلال العرض (الخيالي) الذي يقدمه هذا البنك من خلال فوائده البسيطة،  والغريبة أنّ هذا المواطن يصدّق العرض ويركض جرياً كما يفعل الآخرون في بقيّة الإعلانات، نحو البنك وكأنّه لم يتعلّم من دروس الماضي في تعاملاته البنكيّة، وكأنه لا يعيش وسط مجتمع يعاني أغلب أفراده من التزامات مصرفيّة تكاد تقصم الظهر والوسط كذلك، أو تلك المؤسّسة المتخصّصة في الأدوات المنزليّة والتي اختارت لإعلاناتها عن تخفيضاتها السنويّة الوهميّة شخصاً علاقته باللغة العربيّة كعلاقتي برياضة (اليوجا)، وبعد أن كنت أغيّر المؤشر في كلّ مرّة أسمعه فيها، أصبحت متلهّفاً لانتظار وصلته الإذاعيّة كي أتخيّل ردّة فعل الخليل بن أحمد وسيبويه وبقيّة طلابهم تجاه هذا الإعلان لو سمعوه، وكنت أسأل نفسي في كلّ مرّة أسمعه: هل الرجل سيء جدّاً في النّحو إلى هذا الحدّ البشع، أم إنّها حيلة من المؤسّسة المعلنة لاجتذاب أكبر عدد من المستهلكين؟

المشكلة في بعض هذه الإعلانات أنّها تحاول تقمّص دور (السوبرمان) أو المنقذ من المشاكل المختلفة للمستهلك، أو أن تلعب دور مؤسّسة الضمان الاجتماعي، المشكلة كذلك أن بعض من يقدّمها أو يشارك فيها يكاد يتخلّى عن ضميره ورسالته مقابل العائد المادّي الذي سيحصل عليه، فجلّهم يعلمون أنّ هذه الإعلانات لا تعبّر عن حقيقة المضمون، وأنّ هدفها هو جذب المستهلك بأيّ طريقة كانت. وقد نعذر البعض في بعض الإعلانات التي قد لا تؤثّر على صحّة وسلامة المستهلك، ولكن المصيبة في من يشترك في تقديم إعلان حول منتج غذائي أو تجميليّ مضر بالصحّة أو بالجسد، ثمّ يأتي ليقول لك إنّه منتج طبيعي 100%، أو أن يصوّر لك لهفة أطفال العائلة على تناوله في وجبات الطعام الرئيسيّة وهو يعلم علم اليقين أضرار هذا المنتج وتأثيراته.

من أغرب الإعلانات التي سمعتها ذلك الإعلان الذي يقول " سيّارة لك، وسيّارة للعيلة.. السما مطّرت ذهب وأنا ما أدري"، ولعلّ وجه الغرابة في هذا الإعلان يعود إلى أنّ كلمة (العيلة) باللهجة العامّيّة العمانيّة تعني "بنت البقرة".

ولا أعلم كيف تمرّ هذه الإعلانات من مقصّ الرقيب دون إبداء أيّة ملاحظات كهذه. وهل أصبح المواطن ساذجاً إلى هذا الحد في نظر البعض ؟ فلنكثر من  هذه الإعلانات دامها ستساهم في حل مشاكلنا بهذه البساطة.

(3)

في الوقت الذي يخشى فيه المجتمع من التأثير السلبي لبعض أدوات التواصل الاجتماعي وتحديداً (الواتساب) إلا أنّ هناك بعض المجموعات الشبابيّة التي تجمع نخبة من جيل الخبرة والشباب من مختلف التوجهات الفكرية والثقافية والعلمية التي استطاعت أن تطوّع وسيلة كهذه كي تكون أداة ايجابيّة يتم استغلالها في مناقشة القضايا المجتمعيّة المختلفة، وطرح الحلول والمبادرات ، بل إنّ بعضها قد نجح في الخروج من فضاء التكنولوجيا إلى حيّز الواقع، عبر إدارة وتنظيم  سلسلة من الفعاليّات الفكريّة والاجتماعيّة المختلفة، الرامية إلى الإسهام في دفع الحراك الشعبي وتفعيل الحوار الوطني.

ما لمسته الأسبوع الفائت من دعاية وإعلان وتنظيم وإدارة وحسن تعامل في ندوة "التراث والثقافة العمانية " التي دشّنها صالون صوت عمان الثقافي، كباكورة لفعالياته الثقافيّة خلال هذا الشّهر الفضيل كان فوق مستوى الوصف، فمن يرى ذلك التنظيم والحضور لن يعتقد مطلقاً أنّ وراء تلك الفعاليّة مجموعة من الشباب جمعهم الفضاء الإلكتروني عبر تطبيق الواتساب. ذلك أن الفعاليّة كانت فوق قدرة مؤسّسات بأكملها، فما بالك بمجموعة من الشباب المتحمّس.

حقّاً إنّها عمان.

د.محمد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.