لم يكن هناك من صوت يعلو فوق صوت الشموع مساء الاثنين
الفائت في العامرات، تلك الولاية المحسوبة اسماً على محافظة مسقط، وهي ليست كذلك
على أرض الواقع، وبدلاً من أن يهدي الجيران بعضهم بعضاً طبقاً من (الفتّة)، أو
شيئاً من (اللقيمات)، أو أيّ شيء له علاقة بالشهر الفضيل كما جرت العادة الجميلة
التي نتذكّرها شهراً واحداً طوال العام ثمّ ننساها بقيّة السنة، وكأن الفقراء
والمحتاجين لم يخلقوا سوى في رمضان، وكأنّ حقوق الجيرة لا يصحّ أن نتذكّرها سوى في
هذه الأيام، كانت الشموع هي البديل عن كلّ تلك الأطباق اللذيذة، وكان منظراً
عاديّاً أن تفتح باب بيتك لتجد أبناء الجيران وهم يحملون كيسة بها بعض الشموع
وعلبة كبريت. أمّا السّبب وراء تصدّرها المشهد في ذلك اليوم فهو تفاجئ جزء كبير من
سكّان تلك الولاية بانقطاع التيّار الكهربائي عن منازلهم منذ الثالثة والنصف عصراً
فجأة ( بدون إحم ولا دستور) ولأجل لا يعلمونه، ولأسباب لا يعلمون عنها شيئاً كذلك.
وقد يقول البعض: لماذا كلّ هذا التهويل لمجرّد انقطاع
الكهرباء لعدّة ساعات (أو حتّى لأيّام)، صحيح أنّنا في شهر صوم يمتاز بطول ساعات
نهاره، وصحيح أنّ العامرات هي حالة
استثنائيّة عندما يأتي الحديث عن درجات الحرارة، بفضل سيوحها الجرداء، وجبالها
وهضابها ووهادها السّوداء التي تخزّن الحرارة نهاراً لتنفثها ليلاً كتنّين أسطوري،
ولكن كلّ هذا وذاك لا يلغي أن ننظر إلى الجانب الممتلئ من الكأس، فلعلّ هناك من
حكمة وجوانب ايجابيّة أراد المسئولون عن الكهرباء غرسها فينا من خلال قطع التيّار
لأكثر من خمس ساعات متواصلة، ولم يجدوا أفضل من هذه الأيّام المباركة لذلك، كالإحساس
بالآخرين في الدول التي تنقطع فيها الكهرباء بالساعات الطّويلة والأيام، أو تحقيق
شيء من مقاصد هذا الشهر الفضيل من خلال التعود على الصبر والتحمل، أو ربّما العودة
لحياة البساطة التي فقدناها، عندما كنّا نفطر على ضوء سراج خافت في ألفة وحميميّة
مفتقدة.
صحيح أنّ تلك الدول التي تعاني من انقطاعات الكهرباء
الطويلة لا تتمتّع بأجواء خلابة كجوّ العامرات، وصحيح أنّ السبب غالباً وراء تلك
الانقطاعات هي ظروف قهريّة كالحروب والتوتّرات الأمنيّة، ومعلوم أنّ تحقيق مقاصد
الشهر الفضيل لها ألف وجه ليس من بينها تعذيب الناس بقطع مرفق حيويّ كالكهرباء، ومؤكّد أن طبيعة تصميم
البيوت الحاليّة، وصغر مساحة (الأحواش) لا تسمح بقضاء أوقات حميميّة كتلك التي كان
يقضيها آبائنا في الباحات المفتوحة، تحت ظلال أشجار وارفة لم يعد لها وجود في
عالمنا الحالي، وبالقرب من مصادر تلطيف وتبريد كالأفلاج والعيون، ولكن كلّ هذا لا
ينبغي أن يجعل نيّتنا سيّئة فنسيء الظنّ بالآخرين لمجرّد أنّ الكهرباء قد قطعت
لبضعة ساعات.
صحيح أنّي حاولت الاتصال أكثر من 5678643257 مرّة بمكتب
طوارئ كهرباء العامرات دون أن أتلقّى أيّ رد منهم، وصحيح كذلك أنني اتصلت عدد مرات
مشابهة للرقم السابق بالخطّ الساخن ليأتيني الردّ في كلّ مرّة بالعبارة الخالدة "جميع موظّفينا مشغولون بخطوط أخرى"،
وصحيح أيضاً أنّني قد( استعوضت )الله في بضعة كيلو جرامات من اللحم البلدي،
والسّمك الطازج التي تعرضت للتلف، وصحيح أنّي أخذت أطفالي لأحد المجمّعات
التجاريّة المكيّفة بالرغم من حاجتي وقتها للراحة من جرّاء يوم عمل مرهق، إلا أنّ
هذا كلّه يجب ألا يفتّ في عضدي، وعليّ أن أبقى (ريلاكس) طوال الوقت، وأن أجد
لإخواني (مسئولي الكهرباء) سبعين عذراً، وأنا شخصيّاً سامحتهم برغم أنّهم لم
يبلغوني برغبتهم المسبقة في قطع التيّار، ولم يردّوا على اتّصالاتي المتكرّرة،
وفداهم الّلحم والسّمك الذي فسد.
المشكلة للأسف في البعض الذي يحاول أن يكون سوداويّاً طوال الوقت، وأن يصنع من الحبّة
قبّة كما يقال، فيأتي ليصدّع رأسك بعبارات وجمل وأسئلة من قبيل : أين هي ثقافة إدارة الأزمة؟
وكيف لمرفق حيوي أن ينقطع لساعات أو لأيّام دون أيّة حلول احتياطيّة؟ وما ذنب كثير
من البسطاء الذين ربما يكونوا قد استلفوا من أجل شراء بضعة كيلوغرامات من اللحم لا
يأكلونه سوى في الأعياد والمناسبات بعد أن تجاوز الكيلو البلدي منه حاجز السبعة
ريالات ثمّ يذهب كلّ هذا هباء منثورا؟ وما ذنب كبار السنّ والأطفال وذوي
الاحتياجات الخاصّة كذلك؟ ولماذا لا أملك الحقّ كمواطن أن أقاضي شركات الكهرباء
والمياه والاتّصالات في حالة تعرّضي لأضرار نفسيّة، أو تعرّض بعض أدوات منزلي
للتلف، بينما هم يملكون الحقّ في أن يقطعون الخدمة في أيّ وقت يشاؤون؟ ولماذا ليس
من حقّي كذلك أن أحظى بأدنى درجات الشفافيّة من قبل هذه الشركات كأن يتمّ الردّ
على اتصالاتي المتكرّرة، أو أن يصلني
(مسج) بتوقيتات القطع كي أتمكّن من أخذ احتياطاتي اللازمة؟ بل ولماذا تتكرّر هذه
المواقف دون أيّة وقفة جادّة، أو محاولات لتصحيح مسار عمل تلك الشركات؟
أنت قلتها بنفسك: لماذا تتكرّر هذه المواقف بنفس الصورة.
راجع سجلّ انقطاعات المياه والكهرباء خلال السنوات الأخيرة لتكتشف أنّ كلّ ما
تتحدّث عنه من مصطلحات فضفاضة كثقافة إدارة الأزمة وغيرها ما هي إلا وهم. لو كانت
هناك إدارة أزمة لما انفجرت أنابيب المياه مرّة كلّ ثلاثة أشهر وبنفس النسخة
الكربونيّة لنظيرتها السابقة، ولما انقطعت الكهرباء قبل حوالي سنتين عن قطاع جعلان
لمدّة ثلاثة أيّام متوالية سكنوا خلالها الفنادق والشقق الفندقيّة في الولايات
المجاورة، ولما ولما...ألخ.
يا عمّ كبّر دماغك. أيّ إدارة أزمة تتحدّث عنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.