الاثنين، 1 أبريل 2013

في شقة مصر الجديدة


في مقاهي المحروسة (9)


في شقة مصر الجديدة

فبراير 2007.. كنت قد انتقلت للإقامة في 4 شارع نهرو بمصر الجديدة خلف حديقة (الميريلاند) الشهيرة، بعد أن عانيت الأمرين من التنقل اليومي ما بين (المهندسين) حيث أسكن سابقاً، و(منشية البكري) حيث كليتي العريقة، وهي مسافة كنت أحتاج لقطعها إلى ركوب عدة مواصلات، فمن ناصية شارع محيي الدين أبو العز أركب التاكسي أو الميكروباص  الأزرق المزدحم كعادته  حتى محطة جمال عبد الناصر، أو (الإسعاف) كما يحلو لبسطاء المصريين تسميتها في حي بولاق الشهير، ومنها أستقل مترو الأنفاق  لأنزل في محطة (سرايا القبة) حيث أسوار قصر القبة  تطل على ثلاث محطات متتالية، ومنها كنت أواصل طريقي إلى الكلية مشياً على قدمي مروراً ببعض الشوارع الجانبية، وممارساً لهوايتي الخالدة في تأمل البشر والمكان.

.
أعشق مصر الجديدة، وكثيراً ما كنت أتردد عليها وأتجول في شوارعها العريقة، ذلك أن كليتي كانت على مرمى حجر من ميدان ( روكسي )الشهير ، أحد أعرق ميادين مصر الجديدة والمشهور بطراز عمارته الإسلامي، وبمحلات الأحذية والحقائب النسائية الممتدة على جانبيه، ومحل العبودي الشهير للفساتين المطل على أحد نواصيه، وكنت أستمتع بقضاء فترة (الظهرية) في مطاعم  ومقاهي عريقة ناهزت القرن من العمر، كجروبي  أو (الامفتريون) ، بينما تتكفل كافيهات (بالميرا) أو (هاريس) بقهوة الصباح مع جريدة يومية تحمل من الهموم أكثر مما تحمله من نوافذ ضيقة للفرح.

ما يميز مصر الجديدة عن غيرها من الأحياء القاهرية الأخرى هو العراقة الممزوجة بالرقي، وارتفاع مستوى سكانه ثقافياً واجتماعياً، فهذا الحي الذي أسسه  البارون البلجيكي (امبان) في مطلع القرن العشرين لكي يكون متنفساً لسكان القاهرة من زحام وسطها، يعد واجهة القاهرة من الجهة الشرقية، وكان معروفاً عنه أنه حي (الباشوات) والسياسيين الكبار، وكنت أجد متعة في التجول بين شوارعه بقصورها ذات الأسوار المنخفضة وأشجار الفواكه المختلفة التي تظللها، وكثيراً ما وقفت على مدخل عمارة كان يقطنها (العقاد)، أو مررت بأخرى يملكها (أحمد أمين)، أو لمحت أخريات لمشاهير آخرين برزوا في عالم السياسة والفكر والأدب والاقتصاد.

يعد شارع (نهرو) من أرقى شوارع مصر الجديدة والقاهرة قاطبة قبل ظهور المدن الجديدة التي صممت على أنماط غربية في دلالة (فجة) على ما آلت إليه مصر من طبقية مقيتة، ويبدو من اسمه أنه  أنشأ في خمسينيات القرن الماضي بعد تأسيس منظمة عدم الانحياز، حيث كان من عادة عبد الناصر أن يطلق أسماء من يحبهم من  الثوار وقادة التحرر في العالم على عدد من الشوارع والميادين، لذا فلم يكن مستغرباً أن يكون بعض جيران بنايتي من المشاهير، فالبناية التي تجاورني كان يسكن بها ابن أخ (السادات)، والفيللا الملاصقة لها هي ملك لهدى عبد الناصر وزوجها حاتم صادق، وعلى بعد بضعة بنايات تقع شقة مملوكة لعلاء مبارك ، ثم فيللا لعلي صبري، وأسماء شهيرة أخرى.

كانت شقتي عبارة عن استديو يتكون من غرفة نوم كبيرة وصاله متوسطة الحجم وركن يحتوي على المرافق الأخرى، وقد علمت فيما بعد أنها مملوكة لأحد ضباط المخابرات، لذا لم أستغرب  أثاثها الكلاسيكي المنتقى بدقة، وموقعها المختار بعناية بحيث تطل على حديقة (الميريلاند) حيث مساحات الخضرة الممتدة بلا حدود، وحيث العشاق يتناجون  تحت ظلال كل شجرة.

كانت عادتي في كل ليلة أن أنزل من الشقة في حدود العاشرة متأبطاً كتاباً أو رواية أو صحيفة يومية بينما ينبعث من (الهيدفون) تسجيلاً لسهرة كلثومية  جميلة من سهرات إذاعة الأغاني من القاهرة، وكانت هوايتي المعتادة أن أتسلى بعد الأشجار الضخمة المغروسة على امتداد سور حديقة الميرلاند، حتى أصل إلى مطعم (مؤمن) الشهير الواقع في شارع (السباق) خلف الحديقة. وبعد أن أطلب وجبتي المعتادة أتوجه إلى محل (المالكي) للألبان المجاور لمؤمن حيث (أم علي) تفوح برائحتها الزكية، وحيث (الرز باللبن) الأصلي، ومنه إلى ركني اليومي في كافيه (لافينون) الواقع بينهما، وهو مقهى متوسط الرقي يبدو من اسمه أنه ليواكب التطور الاجتماعي الكبير الذي يشهده الحي، وحالة التغير التي تشهدها مصر في كل دقيقة والتي تستنزف كثيراً من تاريخها وفكرها وتراثها.

ما يميز المقهى هدوءه التام، و(ستايله) الغربي، وموسيقاه الخفيفة، وأنواره الخافتة، وإطلالته على الميرلاند، فباستثناء بعض (العشاق) من أبناء الحي الهادي والذين يأخذون ركناً قصياً، تكاد تكون الباحة الخارجية مكتوبة باسمي كل ليلة  لا ينازعني فيها سوى اقتراب حمادة وحسين مني، وهما كل طاقم المقهى باستثناء صاحبه، والأول شاب من حي (الشرابية) ، بينما ينتمي الآخر لحي (المطرية) القريب، وهما حيان شعبيان تختلف ملامح الحياة فيهما كلياً عما هو في حي الباشوات.

لا أعلم ما الذي حل بي في تلك الليلة . كنت في مساء الجمعة ومساءات الجمعة دائماً ما تكون كئيبة بالنسبة لي، وهي متلازمة لم أستطع التخلص منها، فما بالكم بالغربة، وبالسكن وحيداً في حي لا يعرف عنه بقية الطلبة العمانيون سوى أنه يقع في مكان ما في مصر. كنت أجلس على الكنبة الرئيسية التي تتوسط الصالة، وأطالع اللاشيء على شاشة تلفزيون مقابلة. شيء ما بداخلي قال لي فلتستمع إلى فايزة أحمد علها تحيل هذا الجو الكئيب إلى آخر مفعم بالجمال، وليتني ما سمعت له، فلم تصدق فايزة خبراً حتى انطلق صوتها "حبيبي يا متغرب.. قرب لي قرب.. بتسافر الجوابات.. مليانة بالآهات.. مليانة بالحنين...." أغنية مؤلمة  كألم فقدان أمل. قاسية كقسوة قلبها. هل قلت أمل؟ لا عليكم. هو الهذيان إذاً.

لماذا يا فايزه. ألم تجدي غيري لتمارسي عليه قسوتك وجبروتك. في ألم أضغط على  زر (فيشة) الكهرباء كي لا أترك لها فرصة التمادي في تعذيبي ولو لثوان قصيرة  قادمة ، وفي سرعة عجيبة ارتديت ما وجدته أمامي من ملابسي، واخترت من مكتبتي كتاباً عن النكتة السياسية، وتعمدت عدم حمل هاتفي النقال معي، فقد يفعلها ويبث هماً آخر من الهموم التي قمت بتخزينها فيه.

إلى نفس المقهى أتجه. هذه المرة أمشي صامتاً وجلاً  وكأني أمر بالمكان لأول مرة. لا طرب أصيل ينبعث، ولا أشجار معمرة تعد. لا شيء من هذا كله. على مقعدي المعتاد أجلس. يأتيني حماده بكوب الشوكولاتة الساخنة وكأس الماء المعتاد. في هدوء مستغرب أشكره، ثم أفتح الكتاب  ممنياً النفس بنكتة مصرية أصيلة قد تخرجني مما فيه.

يراقبني حمادة من بعيد، ثم بفضول  مصري أصيل ممتزج بأصالة أبناء الأحياء الشعبية يقترب مني ليقول: شكل المزاج مش رايق يا دكتور النهارده، مش حسألك عن السبب بس أنا عارف إزاي أخليك تنبسط وترجع ضحكتك زي ما كانت.

يدخل حماده المقهى ليعبث بجهاز ما هناك، لينبعث بعده صوت اذاعي جهوري يذكرك بإذاعة (صوت العرب) في ستينيات القرن الماضي ليقول: أعزاءي المستمعين ،أنتم على موعد مع أولى حفلات ليالي الصيف من مدينة المنصورة حيث ستغني المطربة الكبيرة فايزة أحمد عدداً من أغانيها الخالدة، وستكون البداية مع أغنية" حبيبي يا متغرب".

بلا شعور ووسط دهشة حمادة وزميله الآخر واستغرابهم أغادر المقهى مسرعاً  تاركاً  الكتاب ومبلغ نقدي كان في جيبي، دون أن أنتظر بقية الحساب.
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.