الاثنين، 25 مارس 2013

إلى بطين.. أشد الرحال (1-2)


إلى بطين.. أشد الرحال (1-2)

عندما علمت أن أستاذ الجيل أحمد بن عبد الله الفلاحي على وشك الانتهاء من كتاب جديد يتحدث فيه عن مرابع الطفولة وذكريات الصبا في قريته (بطين) أدركت أنه لن يكون كتاباً عادياً يوثق لبقعة عزيزة من عمان كحال بقية الكتب التي تناولت هذا الجانب، ذلك أن من يعرف فكر الفلاحي وأسلوبه الكتابي، أو من حضر جلساته الأدبية الشيقة سيدرك مبكراً أنه سيكون كتاباً استثنائياً جامعاً لمتع كثيرة، لذا فقد كنت أترقب بلهفة موعد معرض الكتاب بعد أن قرأت إعلانات صحفية عدة تؤكد على أن الكتاب سيكون حاضراً في هذا المعرض.

كانت علاقتي ببطين علاقة مسافر بلوحة إرشادية على الطريق، فباستثناء بعض زملاء السكن المنتمين إليها سنوات الدراسة الجامعية، لم أكن أعرف عن هذه القرية سوى أنها تقع في وادي نام التابع لولاية إبراء، وكنت أتخيلها قرية صغيرة تحيط بها بعض الجبال، وتنتشر بها عدد من مزارع النخيل ومحاصيل أخرى بسيطة، ويجري فيها فلج صغير يكاد لا تسمع لمائه خرير، وبضع مئات من السكان، قرية عمانية صرفة كبقية القرى التي تقع في داخل عمان، وتكاد تتشابه معالمها حتى لتشك أنها نشأت بطريقة (الكوبي بيست)، ثم عرفت أن الأديب الكبير الأستاذ أحمد الفلاحي ينتمي إليها فأدركت حينها أنها ليست كباقي القرى، وأنه لابد من سر يحيط بهذه القرية وإلا لما أنجبت موهبة فذة وموسوعة شاملة كأستاذنا متعنا الله بعمره.

إلى معرض الكتاب شددت رحلي تسبقني لهفتي الشديدة في البحث عن هذا الكتاب واقتنائه وقضاء سهرة جميلة بصحبته، مع إدراكي المسبق أنها ستكون سهرة قصيرة سرعان ما تنقضي مع انبلاج نور فجر اليوم التالي، فأي كتاب للفلاحي مهما كان عدد صفحاته لا يمكن أن يمكث في يديك سوى لبضعة ساعات سرعان ما تتمنى لو أن لديك خاصية (الريستور) كي تعود لقراءته مرة أخرى وكأنك تقرأه لأول مرة.

في إحدى المكتبات وجدت ضالتي ونقدت البائع مبلغه دون حاجة للفصال أو النقاش، فمن ذا الذي سيجرؤ على أن يفاصل في درة أدبية يكتبها فطحل مثل أديبنا الرائع، وأي إهانة ستلحق بالكاتب ( أي كاتب) إذا ما علم أن القارئ له يستغلي فكراً هو خلاصة تجربة طويلة مع الإبداع ، وسهر طويل مع صياغة الحرف.

وكي أقنع نفسي فقد اشتريت بلا اهتمام كبير عدداً من الكتب الأخرى هي في الغالب كتب كنت أقتنيها ثم فقدتها لأسباب مختلفة، سرعان ما غادرت المعرض بعدها باحثاً عن أقرب ركن جميل يصلح للاحتفاء بأحمد الفلاحي وكتابه، فكان اختياري على ردهة بحرية جميلة في أحد الفنادق المسقطية الراقية. ترى هل هناك علاقة بين الفلاحي والرقي؟ وهل هناك عامل مشترك بينه والبحر؟ هل هو الامتداد في كل الاتجاهات. هل هي سعة الأفق. أوليس الفلاحي بحراً من الأفكار والمعرفة وأشياء أخرى كثيرة؟ فقط يختلف عن البحر في هدوء أمواجه، وعذوبة ماءه، وصفاء منبعه.

بعد أن أكملت كافة استعداداتي لولوج عالم الفلاحي الجميل من شاي منعنع وأغنية كلثومية رائعة بصوت المؤلمة آمال ماهر، وبينما أمد يدي للبحث عن الكتاب في الكيس الذي يحمل شعار معرض الكتاب الدولي إذ بي أفاجأ بأن الكتاب غير موجود، وبعد فترة من البحث والتنبيش عنه هنا وهناك اكتشفت أنني من فرط اللهفة والفرحة باقتنائه قد نسيت الكتاب في المعرض، وأنه لا حل سوى العودة مرة أخرى أو الانتظار للغد لشراء نسخة أخرى. لن أستطيع العودة مرة أخرى اليوم، فالزحمة كفيلة بالقضاء على ما تبقى لدي من أعصاب وأنا الذي أكرهها ككره مشجع الملكي للبرشا أو العكس كي لا يزعل البقية. ما الحل إذاً؟ غداً آخر يوم وربما لا تسمح لي ظروف السفر إلى البلد بالذهاب إليه. ما الحل ما الحل. أمممم ليس هناك سوى أحد حلين: إما أن أتصل بالأستاذ وأطلب منه صراحة وبدون استحياء أن يهديني نسخة موقعة، وإما أن أذهب إلى جريدة الرؤية التي قامت بطباعة ونشر الكتاب، وهي فرصة للسلام على الأحباب الذين لم أرهم منذ بضعة أشهر بسبب ظروف الحياة المختلفة، وفرصة كذلك للحصول على نسخة من الكتاب. ولكن الأستاذ لا يحمل هاتفاً نقالاً كبقية البشر، ومريدوه لا يتركونه دون أخذه إلى ندوة هنا، أو محاضرة هناك، أو فعالية فكرية في مكان آخر. هو الحل الثاني إذاً.

على بركة الله أخذت بعضي ( لم أجد تفسيراً لهذه العبارة برغم سنوات مكوثي الأربعة في مصر) وذهبت إلى الجريدة. وبعد السلام والعتاب والسؤال عن الأحوال أعلنتها صريحة أنني أتيت للبحث عن كتاب (بطين) ولن أخرج بدونه، فكان الرد البارد كبرودة ماء الجبل الأخضر في فجر يومي صيفي: للأسف فلانة المسئولة عن المخزن غير موجودة اليوم. يعني بالعربي وبكل لغات الدنيا لن أحصل على الكتاب لأن جدولي اليومي في بقية الأيام مزدحم من فجره وحتى عشيته. هل كتب علي ألا أقرأ هذا الكتاب؟

قبل يومين من الآن وبينما كنت أتبادل أطراف الحديث مع مديري بالعمل، وهو شخصية إعلامية مرموقة يشار إليها بالبنان والسبابة والإبهام كذلك، وأعشق الحوار معه كعشقي لإفطار أمي قبل سنوات طويلة من الآن، ومنه أستقي كثيراً من أفكار شخبطاتي المتواضعة إذ بظرف (مكلبظ) يسلم إليه، وبينما هو يفتح المظروف أمامي إذ تلوح لي كلمة بطين، فما كان مني إلا أن أنتزع الكتاب من يده وأهرول إلى مكتبي تاركاً إياه سارحاً مع دهشته واستغرابه وأنا أقول في سري : على جثتي لو استطعت أن تسترجع الكتاب مني قبل الغد، وأهلاً بالمعارك إذا كان ثمن الانتصار فيها ملحمة فكرية تضيف إلى نفسك المتعبة ساعات استثنائية من السعادة الحقيقية في ظل ركام من الهموم والقلق.

هذه المرة لم أفكر في انتقاء المكان الذي سأحتفي فيه بالكتاب، فقط انتهيت سريعاً مما في يدي من أعمال، ثم اتصلت بالبيت كي أخبرهم أن لدي أعمال مهمة ستعوقني عن الحضور للغداء وهم الذين لا أشاركهم الغداء سوى مرة كل أسبوع لارتباطي المسائي اليومي بالتدريس في إحدى الكليات البعيدة عن مقر سكني، بعدها تأبطت الكتاب إلى أقرب مقهى صادفته ومع كوب الزعتر بدأت في تصفح الكتاب تارة من البداية وحيناً من النهاية، ومرات من المنتصف وكأني أقول له بالعامية المصرية (آكلك منين يا بطة)، وهي كناية عن الفرحة الشديدة واللهفة اللا متناهية تجاه الطرف الآخر أياً كان. (يتبع)

د. محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.