الأربعاء، 13 مارس 2013

زينب.. نحن لا نستحقك

زينب.. نحن لا نستحقك


"تابعوا أخبار العاشرة. سيعرض لقاء مع الطالبة زينب محمد فاضل الحراصية من قرية طيمساء بنزوى وحصلت على نسبة 92%  في الفصل الأول، علماً بأنها طالبة معاقة تكتب عن طريق مسك القلم بفمها".

وصلني هذا الخبر في هاتفي بينما كنت في طريقي ليلاً عائداً من رحلة عملي المضنية التي تبدأ مع إشراقة الصباح ولا تنتهي إلا عندما يغفو نصف سكان المدينة والتي تتوزع ما بين عمل مكتبي طويل، وساعات تدريس جامعية يومية منهكة، وخربشات اعلامية هنا وهناك. كنت وقتها أشعر بشيء من الضيق والتشاؤم والتساؤل الملح: إلى متى سيستمر هذا الوضع، ولماذا أنا وحدي من كتب عليه أن يعاني بينما الآخرون في راحة ونعيم.

بعد أن سكبت دموعي الزائفة قليلاً وأبديت تأثري الذي انتهى بعد دقائق من قراءة الخبر ومطالعة الصور الملحقة، طلبت من مرسلي ، بعض المعلومات عن هذه الفتاة التي تناسيت أنا وكثيراً من المثقفين المتحذلقين وجودها بيننا في وسط غمرة اهتمامنا بقضايا أخرى كنا نراها أكثر إثارة وتشويقاً.
لم تولد زينب معاقة، أصيبت بعد ذلك بمرض جعلها معاقة الأطراف الأربعة، لكن هذا الأمر لم يثنها أن تقبل على الحياة بتفاؤل وأمل، فألحت على والدها أن يدخلها المدرسة أسوة بأخواتها وبنات جيرانها.

أتى بها والدها إلى المدرسة، وفي استحياء يغلفه الرجاء طلب من المديرة أن تقبلها ولو لأيام كي لا يكسر بخاطرها ويحرمها من لحظة سعادة يمكن أن تعيشها. فما كان من تلك المديرة الفاضلة، والمربية الواعية، والنتاج الجيد لمخرجات التربية إلا أن قبلتها كطالبة، وشجعتها، ووقفت بجانبها، وكانت لها الأم والأخت والصديقة والمعلمة، وأشعرتها أن العطاء الانساني لا يوقفه عائق، ولا تحده حدود، وأن الإعاقة قد تتلاشى برغم وجودها كواقع. فقط هو التفاؤل والإصرار والإرادة والرغبة الصادقة ونبذ المستحيل. فكان الغراس على قدر التربة الخصبة، وعلى قدر الماء المسكوب عليها. كان الغراس زينباً القوية، المصرة، المتفاءلة.. زينب الأنموذج الإنساني النادر.

عذرا زينب. لن أسألك كيف كنت تمسكين بالقلم واية آلام كنت تعانيها في سبيل ذلك، ولن أسألك كيف كنت تتفوقين في الأنشطة المختلفة، فمثلك لا يسأل بل منه يتعلم أمثالي من المتشائمين. وأنت أيتها المديرة الفاضلة هل أعدت ورفيقاتك الوجه التاصح للتربوي الناجح؟ بالطبع نعم.

زينب.. اتفقت كل قواميس المعاني على ان اسمك يعني الشجرٌ حَسَنُ المنظرِ طيّبُ الرائحةِ أزهاره جميلة بيضاء اللون فوّاحة الرَّائحة، فهل خلقك الله لكي تبثي في دواخلنا شيئاً من هذا النقاء، وهل أرسلك كي تكسري فينا كثيراً من الصلف والجمود والسوداوية والتشاؤم والتبرم وقلة العطاء برغم أشياء كثيرة منحنا إياها، وبرغم ترف كبير يعيش فيه كثير منا.

عذراً زينب لأنك كشفت كثيرا من سوءاتنا.. عذراً لأنك قمت بتعريتنا أمام أنفسنا.. عذراً لأنك كشفت عن أقنعة كثيرة كان ينبغي لها أن تكشف، وعذراً لأنك أشعرتينا بأن كل ما فعلناه في حياتنا يتلاشى مع يوم مرير من أيامك التي لا يقدر الصخر على تحمل قساوتها لولا إرادة من حديد، وقدرة من فولاذ، وأمل لا ينتهي.

عذراً زينب. من أنت كي نهتم بك. لست الفنانة المعروفة، ولا مصممة الأزياء المشهورة، ولا سيدة المجتمع المرموقة. أنت مجرد زينب، فتاة بسيطة معاقة، ربما كانت نظرتنا لك على أنك زيادة لا حاجة لنا بها، أو عالة علينا. ربما كنا نمن عليك وأمثالك بحفل سنوي، أو بمناسبة بها كثير من البهرجة وقليل من الصدق، نتذكر فيها بكثير من الكذب والنفاق أن هناك فئة يجب أن نهتم بها، وأنها جزء لا يتجزأ من المجتمع، وأنها قادرة على العطاء، وأنها وأنها.. كثير من الكلام المزيف، بينما في دواخلنا ننتظر الحفل كي ينتهي، وكي نخرج من القاعة بأسرع وقت كي نبتعد عن رؤية نواظركم، وكي لا نشعر أننا سجناء مثلكم، فالحياة بالنسبة لنا هي المتعة، وهي الحرية، وهي السفر، وهي الواتساب، وهي الحبيب، وهي المقهى، وهي الملعب، وهي السينما، وهي أشياء كثيرة قد لا تستمتعي أنت بها. ثم نرفع لمسئولينا ما قمنا به من عمل انساني كبير قمنا به كي يرفعونه إلى مستوى أعلى، وكي تبرز وسائل الإعلام مدى تكافلنا وتوادنا وإحساسنا بالآخر. هل رأيت أيتها المتسامية زيفاً  أكثر من ذلك؟ لا تتضايقي أيتها الطاهرة فأنت وحدك من تقف لك ملائكتك احتراماً وتقديراً.

عذرا زينب فما زالت دموعي تنسكب وأنا أكتب هذه الكلمات. ليست دموع الشفقة، بل هي دموع الخجل، والاعجاب. الخجل عندما أتذكر ضيقي وتبرمي وامتعاضي لمجرد أنني لست سعيداً طول الوقت، وأن كل أحلامي لا تتحقق في وقت واحد. الخجل كذلك عندما يلامس قلمي قضايا زائفة كثيرة ويتجاوز حقيقة جميلة هي تجربتك الإنسانية الرائعة التي لن تستطع كل دورات البرمجة العصبية واللغوية والذاتية وغيرها، وكل الكتب الأكثر مبيعاً في العالم والتي نقبل عليها دون فهم لمعناها والتي تتناول السعادة وتطوير الذات وتنمية النفس وغيرها من العناوين البراقة. أقول لن تستطع كل تلك البرامج والكتب أن تقدم تجربة حقيقية رائعة كتجربتك، ولن يستطيع كل أولئك المدربون والخبراء والمستشارون وزملاء الأكاديميات المختلفة أن يرسموا مشهداً واقعياً واحداً من مشاهد حياتك اليومية المختلفة.

عذراً زينب.. سيحتفون بك الآن كثيراً.. ربما وجدوا فيك أخيراً خبراً صحفياً مثيراً أو مادة إعلامية دسمة. ستزعجك كاميراتهم بأضوائها الزائفة، وستبقع ثيابك حبر أقلامهم، وستصدع آذانك صوت ميكروفوناتهم، وسينوهون عنك بمواقعهم الالكترونية المختلفة وكأنك صيد ثمين سيضيف إلى هذا أو ذاك شيئاً من رصيده المهني. ولعلك تتساءلين في صدق وبراءة: لماذا اهتموا بي الآن، وأين هم عني سابقاً. هي الحياة هكذا يا زينب فلا تهتمي كثيراً وفاجئيهم كل مرة بأنك أكثر قوة وصلابة عن ذي قبل.

ترى كم من زينب بيننا قد رحلت في صمت، وكم من زينب موجودة بيننا الآن، وكم من زينب ستأتي.. عذراً زينب.. وعذراً لكثير من أمثالك. فنحن لا نستحقكم.

تحدثكم هنا زينب " أنا زينب "..
فتاة في ربيع العمر قوية عزم لا أهرب..
وقلبي قلب عصفور رقيق بالأمل يطرب..
وأحلام كثيرات بلون الحب يتخضب..

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.