الأحد، 10 مارس 2013

مقال للنفاق


مقـال.. للنفاق "

".. لم يكن في عمان إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى، فلا شوارع ولا مبانٍ حديثة ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل  أشبه ما تكون  بما يسمى حظر التجول".

".. أول شيء تعلمته في مسقط هو أن صحة الشعب ضعيفة، والشيء الثاني الأسوأ، هو أن السبب الأساسي لذلك هو الحالة الاقتصادية.. إن الصحة هي سلعة يمكن شراؤها، ولكن لأن العمانيين لا يملكون الماء فهم لا يستطيعون شراء ذلك الشيء الثمين".

" .. كانت عمان مركزاً بغيضاً للملاريا.. أما أمراض المعدة فالمسؤول عنها هو هذا العدد الكبير من الذباب.. وينتشر الجذام في كل مكان.. بينما يعد الجدري سوطاً مدمراً فيها.. وتنتشر كذلك أمراض العيون حيث يبلغ عدد العميان في عمان الآلاف.."

" .. كنا نرى عمالقة من ذوي اللحى السوداء أتوا من بلاد بعيدة عن مسقط، أقول كنا نراهم وقد أتوا زحفاً بسبب الملاريا التي افترستهم حيث أن مسقط كانت تعج بأسراب البعوض، ولم يستطع غريب أن يهرب من الإصابة بالحمى.."

" .. هناك حقيقة يجب ألا نغفلها، وهي أننا إذا وضعنا مستشفيات أمريكا في أعيننا فلن نستطيع القول بأن ما بمطرح يسمى مستشفى.. في حقيقة الأمر ما لدينا هو منزل للعناية بالمرضى، لا يوجد راديو، ولا أسرة، ولا شيء آخر.. فقط يوجد بالحجرة ركن واحد مملوء بكيس كبير للفحم، وكمية من أخشاب الوقود، وفراش فوق الأرض، ودائماً توجد الأواني وقدور القهوة، وأهل المريض يقومون بشراء أصناف الطعام، ويقومون أيضاً بعملية الطهي في نفس المكان".

" .. وفي عمان يجب أن يشتري كل انسان من المكان المدين له، ولكن هذا النظام وصل بعدد قليل من الرجال إلى أن يصبحوا مليونيرات، لكنه جعل عدداً كبيراً منهم فقراء".
" .. أما موارد عمان فهمي شمسها وأمطارها وتربتها، فالشمس هناك تكفي مدينتين، بينما لا تكفي الأمطار مدينة واحدة. لهذا ينظر الزائر إلى عمان وهو مشفق عليها ويتساءل: لماذا يريد الناس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطيع أن يستخرج الحياة من هذه المنطقة المليئة بالجبال".

" .. وتعتبر الضرائب شيئاً جديداً في عمان، إذ يجب أن يزيد الدخل بعد أن انخفضت الرسوم الجمركية، ونتيجة لذلك رحل ملاك الحدائق إلى زنجبار، أو الهند، أو إلى أي مكان آخر حيث تقل الأعباء.. هكذا كان المواطن العماني محاصراً حتى في قوت يومه..".
".. إن الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله..".

كانت هذه عمان السابقة، لا أقول عمان في مجمل تاريخها الحضاري والفكري الممتد عبر قرون طويلة من العطاء والتأثير على بقاع عديدة من العالم، ولكني أتحدث عن مرحلة بعينها سبقت مرحلة النهضة التي نعيش في ظلها، ونرتوي من معين خيرها.

وكأني أسمع من يقول لي: لماذا كل هذا؟ ألا يعرف الناس كل ما سبق، ألم يملوا من تكراره عليهم صباح مساء، ألم يتكفل بعض (المطبلين) بالحديث عنه آناء الليل وأطراف النهار. ألم تملوا من النفاق والمزايدة.

أممم .. لا لشيء يا صديقي وأخي وابن وطني وشريكي فيه. السبب أبسط مما تتوقع، وهو أنني صحوت مبكراً لأجد أن محفظتي ونظارتي الشمسية الجديدة التي ابتعتها بالأمس، وعطري الذي أعتز به لسبب لن أخبرك عنه مازالت في مكانها برغم إهمالي المتكرر في قفل الشباك الخلفي لسيارتي، أضف إلى ذلك الجو الرائع والسماء الملبدة بالغيوم، كل ذلك أعطاني إحساساً بالتفاؤل والأمل، فأدركت برغم قراءتي لعشرات الكتب المتعلقة بالحرية والديمقراطية والاشتراكية والبعثية والعبثية والوجودية والقومية والخنفشارية والحلمنجية وسيل آخر من المصطلحات المتشابهة أنني أعيش في بلد رائع تحقق لي سياسة نظام حكمه كثيراً مما نادت به هذه النظريات ولم تطبق على أرض الواقع في معظم الدول التي تبنتها، فأردت مجاملته ببضع كلمات قد لا يقرأها غيري. هل هذا يكفي كي يكون سبباً لكل ما كتبت؟ لست مقتنعاً؟ عادي. اعتبرني منافقاً.

وأنت أيها الوطن الجميل.. لا تفرح كثيراً بكل هذا المدح، وإذا كنت قد سلمت هذه المرة من انتقادي لتصرفات (بعض) أبناءك الذين يختصرونك في مجرد عزبة لهم ولمنتفعيهم، أو يرون فيك كرسياً للوجاهة، أو مطية لتحقيق مكاسب اجتماعية أو اقتصادية دون اعتبار لشركاء آخرين يقاسمونهم فيك، فهو لأنني اعتقدت أنك تستحق شيئاً جميلاً دون منغصات ولو لمرة واحدة. اعتبرها استراحة محارب قصيرة. فلأني أحبك فسأعود عما قريب لمحاولة إزالة بعض النقاط السوداء عن ثوبك الناصع البياض. لست وحدي، ولكن برفقة كثير من الشرفاء من أبناءك مهما اختلف مسارنا الفكري، ومهما تباينت توجهاتنا الايديولوجية، فنحن تأكيداً نتفق على حبك.  

ولكن يا صديقي المعاتب.. هل ما زال "الناس مرضى في عمان، لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن.. وهل مازالوا جياعاً فقراء، لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء.. وهل مازالوا جهلاء ، لأنه لم تفتح مدرسة يتعلمون فيها"، وهل مازالت عمان "قطعة من العالم القديم.. دجل وترﱠهات وخزعبلات.. وظلام فوق ظلام.. وأناس طيبون يروحون ويغدون"، وهل الوقت هو أرخص السلع في عمان؟ وهل عادت الأسنان تخلع بالدوبارة؟ وهل مازال الناس يأكلون المكرونة بالسكر.

هكذا كانوا يقولون.. فما رأيك أنت.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.