"هل
نحن فاشلون؟"
"إن خطر الموت جوعاً، أو من العوز والفاقة، لا
يهددان حياة ساكن الجزيرة العربية رغم كل الظروف ، فحالة ضيق ذات اليد هذه يسهم في
معالجتها عاملان: أولها أهله الذين لا يسمحون له بتردي وضعه إلى هذا الحد،
وثانيهما هو ذلك التقليد الصحراوي الممتع المتبع باستضافة أي عابر سبيل لمدة ثلاثة
أيام. إنه مظهر رائع من مظاهر الديمقراطية في الجزيرة العربية".
جملة عابرة كتبها "هارولد ديكسون" الوكيل
البريطاني السياسي في الكويت في كتابه المهم (عرب الصحراء) والذي ألفه في
ثلاثينيات القرن الماضي وقدم من خلاله وصفاً حياً وكاملاً لحياة البدو في شبه
الجزيرة العربية. أما الدافع لاقتباس هذه العبارة فهو المشهد المؤلم الذي رأيته بالأمس
القريب وفي حوالي الساعة الثانية عشر ليلاً على رصيف شارع جانبي من شوارع
العامرات. عجوز سبعينية تفترش الأرض وبيدها بضعة أكياس تحتوي على قليل من الطعام،
تنادي على المارة الذين قل عددهم كثيراً في تلك الساعة المتأخرة بأن يجودوا عليها بأي شيء، بينما دموع
الألم وقسوة الزمان تبلل ردائها البالي.
لا أعلم أي شيطان قاس بداخلي ذلك الذي جعلني أتعامل مع
المشهد بشيء من الحزن والألم الوقتي، ثم نسيان كل ذلك وذهابي إلى فراشي ونومي الهانئ
وكأن شيئاً لم يكن، وكأنه لا جريمة حدثت أمامي قبل قليل، علماً بأنه لم يكن المشهد
الأول من نوعه، فما زال منظر المرأة التي رأيتها عصر يوم بارد في حي الخوير الراقي وهي
تفتش في بعض الأكياس السوداء المكدسة في مجمع قمامة كبير يجاور بناية سكنية فخمة تحتل
واجهتها لافتات لعدد من المحلات والمطاعم الراقية، ماثلاً في مخيلتي،
وما برح منظر الرجل الخمسيني الذي لم يجد سوى أحد الوافدين كي يستجديه طلباً
للمساعدة بينما أربعة من أبناءه يرقبون المشهد في درس مستقبلي مؤلم (يعشعش) في ذاكرتي، ومازال التحقيق الصحفي الذي
نشرته إحدى صحفنا المحلية عن الوضع الانساني الصعب لامرأة طاعنة في السن لا تجد
مأوى يقيها مفاجئات ما تبقى لها من أيام في رصيد عمرها يحتفظ بمساحة كبيرة من مخي
الذي يوشك على التهالك من جراء أشياء كثيرة ليس أقلها مشاهد كهذه.
ترى هل أنا مبالغ وسوداوي
في طرحي هذا، أم هذا هو الواقع. أوليس المجتمع مازال بخير، أوليس هناك الكثير من أشكال التكافل والتواصل
تعم مجتمعنا من أقصاه لأقصاه. أو لسنا نزور مرضانا، ونعزي موتانا، ونفرح لعرساننا،
ونتذكر جيراننا في رمضان؟
ولكن ماذا عن حالات التسول الفردي والجماعي
التي كنا نراها في المناسبات، وأصبحنا الآن نراها كل الحين، وماذا عن الظواهر التي
نطالع أخبارها هنا وهناك والتي تتعلق
بالتفكك الأسري، أو العقوق العائلي، أو الجريمة، أو تعاطي المخدرات وغيرها من
المظاهر الغريبة التي لم يعتدها مجتمعنا وتزايدت كثيراً في الفترة الأخيرة.
أولا أجد في كل هذا مبرراً لدق ناقوس خطر
يهدد نسيج المجتمع وتماسكه؟وهل تعقد العلاقات الاجتماعية، وتسارع
نمط الحياة، وتحسن المستوى المعيشي وبالتالي عدم الحاجة للآخر، وكذلك وجود مؤسسات
حكومية تعنى بأمر بعض الفئات التي هي بحاجة إلى اهتمام ورعاية هي مبررات حقيقية
تجعلنا نتجاهل الآخر ولا نهتم به كما
يعتقد بعض المثاليين؟
إذاً أين خصوصية
مجتمعنا الثقافية والاجتماعية المستوحاة من تعاليم الدين الحنيف، وقيمنا العربية
الأصيلة التي تستوجب علينا أن نكون أكثر حرصاً على الآخر دون أن ننتظر دوراً
حكومياً، أو تدخلاً لجمعيات حقوق إنسان كما يحدث في مجتمعات أخرى انشغلت بمادية
الحضارة، ولهثت وراء ما يدعى بالتطور والتمدن، حتى استيقظت على مشاكل اجتماعية
كثيرة أحدثت شروخاً وتصدعات مســت واقعها
الاجتماعي. وأين تشدقنا الدائم بالتكافل والتواصل والترابط مادامت هذه العجوز أو
تلك تعاني الأمرين دون التفاتة حانية، أو يد تمسح عنهن هموم الزمن وتقلباته. وأين هي
ثقافة (المواطنة) التي استنزفنا الكثير من
الحبر والأشرطة في الحديث عنها ليل نهار. ترى هل كانت دموع تلك العجوز تحمل سخرية
مؤلمة تجاهنا؟ هل أعلنها بأعلى الصوت أن كل خططنا في هذا المجال فاشلة وأننا
جميعاً يعترينا الفشل، وأن كل ما نفعله هو مجرد (هباء) لا يساوي شيئاً ما دمنا قد
عجزنا أن نجعل تلك (الأم) تنام باطمئنان ما تبقى لها من أيام عمرها؟ هل نحن فاشلون
بالفعل؟ وهل يعفينا كل تقدمنا الهائل في بقية المجالات عن تحمل مسئولية .....كهذه؟
هناك رجال أعمال
خيرون؟ جميل. هناك من يحرص على الزكاة؟ رائع. هناك بعض الجمعيات التي تبذل جهوداً
مجتمعية مهمة في هذا المجال؟ ممتاز. هناك خطط حكومية تستهدف بعض هذه الفئات؟ أمر
مطلوب. ولكن أين البقية؟ مازالت كل هذه الأدوار خجولة ولا تتناسب مع التغير
الاجتماعي المذهل في التسارع والذي يلامس كل طوبة في جدار نسيجنا الاجتماعي.
والحل.. لن أطرح أية
حلول أو مقترحات. تعب كياني بأكمله من ذلك. فعلتها سابقاً في كثير من المرات ولا
أحد يبالي. كل ما سأقوله هو أنه لن تنجح
كل حلول الدنيا ما لم يكن هاجس الإحساس
بالآخر يسكن بداخل كل فرد منا، وهو أمر لا يتطلب سوى مراجعة علاقتنا ببعضنا البعض،
والحرص على استرجاع ما فقدناه في زحمة ما يدعى بالمدنية والحضارة.
نسيت أن أخبركم . يشير(ديكسون ) في كتابه إلى هذه العبارة "إن الإنسان الذي لا يملك
فلساً واحداً، سيكون وضعه في (لندن) أسوأ كثيراً مما لو كان في الجزيرة العربية
حيث يحدوه الأمل دائماً أن يجد خيمة سوداء تستضيفه".
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.