الاثنين، 25 فبراير 2013

اعتذارية.. الى سيدي المعلم


اعتذارية .. إلى سيدي المعلم

سيدي. سليل الأنبياء وخليفتهم  وحامل رسالتهم.  لأن رسالتك هي الأهم ، ولأنها الأسمى والأرقى،  وجب علي أن أكتب لك هذه الاعتذاريات التي قد لا تفيك حقك، ولا تقلل من مكانتك التي تحفظها القلوب قبل الدفاتر والكشوف والمحاضر.

سيدي ..اعتذر منك أولاً  نيابة عن ابني الذي أتاني ذات صبيحة كئيبة طائراً على جناح الفرح لأن مدرسته سوف تقوم بصرفهم بعد العاشرة لأنها ستحتفل بيوم يدعى (يوم المعلم)، وبالتالي فلا حصص ولا دراسة برغم أنه (أي ابني)ليس من المحسوبين على أعداء المدارس من الطلاب الذين لم يستوعبهم المجتمع جيداً. لست أدري هل هو خطأه، أم خطأي وخطأ المجتمع أجمع لأننا لم نغرس فيه معناك وقيمتك ومكانتك.

أعتذر منك كذلك لأننا لا نرى في رسالتك تلك الأهمية التي تستدعي تمييزك أو حتى مساواتك بالبعض، حتى ولو قلنا عكس ذلك في وصلات النفاق التي نمارسها هنا وهناك حول دورك وأهميتك ومكانتك وبقية الطقم الذي يقال في كل مناسبة. كتب عليك أن تلعق العلقم بينما الشهد لغيرك، و لا تستغرب لو طاولك أحد طلابك بعد سنة من توظفه . نتحدث عن مكانتك بينما نميز غيرك بالرواتب والهبات والمكافآت والكوادر الخاصة ونمن عليك بذلك، على الرغم من أن رسالتك هي الأخطر، وعلى الرغم أيضاً من أن هؤلاء جميعاً قد خرجوا من تحت عباءة فكرك وجهدك وتضحيتك. هل رأيت أستاذي  تناقضاً أشد من ذلك؟

أعتذر منك سيدي لأنهم لا يتذكرونك سوى مرة كل عام، بخطبة متكلفة أعدت مسبقاً، وغيرت بعض كلماتها وتواريخها. كتبها أناس يجيدون دبج الكلمات لا المشاعر ، وراجعها آخرون بالحذف والاضافة عشرات المرات كي ترضي المسئول، وكي لا ترهقه وتأخذ من وقته الثمين في تعديلها مرة أخرى، ثم صدرت بشأنها عشرات المراسلات كي تصل إلى وجهاتها المعنية، ثم  قرأها ببرود وسط ضجيج الطلاب وصخبهم ولا مبالاتهم،  مدير  أو مساعد أو مدرس أو طالب مجتهد. ليس لأنها تعني لهم شيئاً مهماً،  ولكن لأنه طلب منهم أن يقرأوها كما اعتادوا ذلك كل عام.

اعتذر منك بحجم الملايين التي تصرف على المشاريع والندوات والورش والاحتفالات والزيارات  وقائمة أخرى تطول، بداعي تحقيق الجودة التعليمية، ورفع كفاءة الأداء التربوي، وتحقيق الإنماء المهني لك، بينما لا يتطلب تحقيق أبسط معايير تلك (الجودة ) سوى معاملة كريمة لك تتمثل في توفير مقعد مناسب تجلس عليه بعد ساعات وقوف طويلة  كرسول علم ومعرفة، وخلق بيئة اجتماعية مناسبة  تجعلك أكثر تحفزاً وارتياحاً ورغبة في العطاء،  ولن أتحدث عن حقوقك الأخرى ، فسنتركها بعد توفير المقعد أولاً.

أعتذر منك بعدد آلاف اللجان والفرق  التي تشكل سنوياً لغرض أو بدونه، والتي ترى فيك حقلاً لتنفيذ برامج وفعاليات أغلبها غير ذي جدوى، فهي لا تفعل شيئاً سوى أن تسلب منك وقتاً ثميناً كان يمكن أن تستغله في تعديل سلوك أحد طلابك، أو غرس قيمة نبيلة، أو إضافة معلومة مهمة، أو حتى التفكير في مشروع تربوي هادف.

اعتذر منك  بحجم آهات معلم ناضل كثيراً من أجل استكمال دراسته هنا أو هناك، وبعد أن قطع شوطاً كبيراً في ذلك، وضحى بالمال والأهلون وبأشياء أخرى كثيرة ، كان نصيبه ركن مظلم خلف كرسي عتيق أكلت عوامل الدهر منه كثيراً، أو وظيفة إدارية علاقته بها كعلاقة كاتب المقال باللغة الصينية،  بينما السؤال الأبدي الملح هو لماذا سمح له باستكمال الدراسة مادامت لا توجد الرغبة الصادقة والأكيدة في الاستفادة من خبراته وإمكاناته.

أعتذر منك بحجم طاقات الإبداع  المختلفة المهدرة وسط روتين العمل واللجان والأوراق والقرارات  وتوصيات الاجتماعات واللقاءات التي تشهدها أرقى الفنادق وأفخمها، والتي لم تستطع أن تجعل نهر عطائك متدفقاً رقراقاً فحرم الكثيرون من نبع معينك، ومن شهد عسلك.

أعتذر منك بعدد دمعات عجوز ذاق الأمرين كي يعلم ابنته البكر لتكون له عوناً وظهراً وسنداً بعد أن حنت ظهره مرارات السنين، وعندما أتى ميعاد فرحه أخيراً  فجع بها (شهيدة) في محراب العلم بعد عودتها من تلك القرية النائية البعيدة التي  فشلت لجان التخطيط الكثيرة في أن توفر مقاعد (استثنائية) لعدد من أبناءها كي يقوموا  مستقبلاً بدورهم في تنميتها والنهوض بها فكرياً واجتماعياً، فكان حتماً على تلك البنت أن تضحي بنفسها من أجلهم حتى لو كلفها ذلك حادث أليم بسبب وعورة الطريق أو بعد المسافة، وحتى لو كان الثمن مصير أسرة بكاملها كل ذنبها أنها قدمت للمجتمع فلذة كبدها بعد أن ذاقت الصعاب في سبيل تنشئته وتكوينه كي يكون مواطناً صالحاً باراً بهم.. وبمجتمعه.

أعتذر منك بعدد الذين تركوا وظيفتهم السامية وانتقلوا لجهات أخرى،  والذين يجاهدون لفعل الشيء ذاته بعد أن أيقنوا بصعوبة الاستمرار في تأدية الرسالة لأسباب نفسية ووظيفية مختلفة، والذين هم ذاتهم يحققون معادلة النجاح الكاملة عند انتقالهم لتلك الجهات، ويصبحون مدارس تتعلم منها فئات أخرى في هذه المؤسسة أو تلك.

أعتذر إليك بعدد من علمتهم وساهمت في تشكيلهم وتوجيههم الوجهة الصحيحة، وعبرت بهم مخاطر كثيرة، وكنت أباً وأخاً وصديقاً وحاضناً رحوماً عطوفاً بهم،  وأخذت بأيديهم إلى طريق النجاح  ليشقوا طريقهم وسط أمواج الحياة العاصفة، وليكونوا لبنة حقيقية تضاف إلى لبنات هذا الوطن الغالي.
سيدي. أعتذر منك لأشياء كثيرة وكثيرة  قد لا أجد في ذكرها سوى مزيد من الألم، وكثير من الحسرة ، ولكن العزاء هو في دعوات الكثيرين لك  وذكرهم لك بالخير. وفي ابتساماتهم وسلامهم الحار أينما التقوك. فهو أرقى وأصدق تقدير لك. وشرف لك أن تكون الأساس  الذي لولاه لما قامت الحضارات أو بنيت.

سيدي ومعلمي  وتاج رأسي . عذراً لأني تذكرتك اليوم فقط، وعذراً لأني قد أنساك بعد قليل حتى يذكرني بك بعد عام من الآن خبر صحفي صغير عن يوم ابتدعناه لك سرعان ما ننساه.
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.