الثلاثاء، 18 فبراير 2014

في أرض الفيروز


عندما اقترح علينا الصديق الدكتور علي القلهاتي زيارة محافظة الوسطى في عطلة نهاية الاسبوع لم أتردد لحظة في الموافقة وأنا الذي أتعلل دائماً بظروفي العمليّة وزحمة جدولي اليومي، ذلك أن زيارة هذه المحافظة كانت حلماً مؤجلاً ينتظر اللحظة الفارقة لتحقيقه.

تاركين مسقط لمطرها وزحمة شوارعها، وسوء تصريف مجاريها، نسلك الطريق المتّجه إلى وادي العقّ فسناو، فمحوت، ثم الدقم، مروراً بمناطق وقرى عديدة أزورها لأول مرّة بعد أن كادت تتحول لشواهد أسطورية من كثرة ما كان يردّد أسماؤها رفقاء لي اعتادوا قضاء إجازاتهم في تلك المناطق، وكثيراً ما تشبّبوا بغرامها وسحر طبيعتها.

نصل إلى الدقم في حوالي السابعة مساء، لندخل أول مسجد نجده في طريقنا لأداء صلاتي المغرب والعشاء، والذي يتوسط منطقة سكنية قامت الحكومة ببنائها ضمن حزمة من المساكن الاجتماعيّة التي تتوزّع في أنحاء المحافظة. يشدّني في تصميم المسجد ارتفاع سقفه المبالغ فيه، وصحنه الذي تسرح ذاكرتي معه إلى مشاهد الإفطار في رمضان. هذا طفل يحمل طبقاً به بعض التمر، وذاك آخر حاملاً صينية عامرة باللقيمات، والفتّة، والفيمتو. في مناطق كهذه لا يأنف الناس من أن يفطروا جميعاً في صحون المساجد كعادة اجتماعيّة مازالوا يحافظون عليها كحفاظهم على أشياء كثيرة تناساها إخوة لهم في مناطق أخرى من أرض الوطن.

ألمح شابّاً مصريّاً أتى لتعبئة بعض بالماء من ثلاجة المسجد، فيذهب خيالي بعيداً إلى بقعة نائيّة في أقصى صعيد مصر أو وجهها البحري، وإلى أهل وأصدقاء، وربّما حبيبة وهميّة تركها ذلك الشابّ هناك. ترى كيف يقضي وقته هنا بعيداً عن كل هؤلاء، وهل يمرّ عليه الليل طويلاً كئيباً وهو يعدّ الأيام المتبقيّة على العودة، أم أن حميمية من يحيط به تكاد تنسيه كل تلك الآلام. في قريتي الصغيرة قبل ثلاثين عاماً من الآن كنّا نعتبر أمثال هذا المصري جزءاً من مجتمعنا، فنشاركهم كلّ شيء، ونقدّمهم على أنفسنا في الأعياد والمناسبات. هل ما يزال (أولاد جابر) يفعلون الشيء ذاته مع هذا المصري وغيره؟

نترك الدقم في طريقنا إلى منطقة (ظهر) وهي تجمع سكّاني يقع جنوب الدقم، حيث كنّا مرتبطين بموعد عشاء مع أحد معارف الدكتور. في طريقنا نصادف دورية تفتيش في الطريق الذي يربط الدقم بهيماء والجازر. برغم البرد القارس، والرياح الباردة، إلا أن ابتسامة هؤلاء الشباب وحرصهم على أمن وطنهم كانت أقوى من كل تلك المنغّصات . أشعر بقشعريرة تنتاب كل جسمي وأنا أنظر بفخر لهؤلاء الشباب.بفضلهم بعد الله ننام ملء جفوننا عن شواردها.
نصل إلى المكان المخصص لاستقبالنا لنتفاجأ بطابور طويل من الرجال شيبة وشباباً ينتظروننا أمام مدخل البيت مرحبين بنا لنتجه بعدها إلى خيمة كبيرة نصبت وسط حوش البيت، وضع في وسطها موقد نار كبير. ألا يكفي دفء لقائكم وحرارة ملتقاكم أيها الرائعون. هنا تصنع الرجال، وهكذا كانت المدرسة العمانيّة لتربية الجيل.

تأتي (الفواله) وكانت مزيجاً من التمر العماني الذي لم يتم استيراده من بلدان مجاورة، ولم يعلّب في صناديق بلاستيكيّة فاخرة، ومعه السّمن العمانيّ الطبيعيّ بلا مواد حافظة، أو نكهات طبيعية وغير طبيعيّة، لتدور بعدها القهوة العمانيّة التي تكاد تشمّ رائحتها من على بعد كيلو بنكهة الهيل والزنجبيل ، والتي صنعتها على نار هادئة من خشب السمر يد خبيرة مجرّبة. الله.. منذ متى لم أحظ بجلسة صادقة كهذه، بل منذ متى لم أستلذّ طعم التمر والقهوة كما هو اليوم؟ ماذا حدث للعالم لتفارقنا كثير من الأشياء الجميلة؟

يأخذنا القوم لتناول العشاء في قاعة قريبة، ويتركونا لوحدنا وهي عادتهم بل عادة العرب عند رغبتهم في إكرام الضيف، ليأتي بعدها الشاي الذي لن تشربه سوى في تلك المناطق. شاي تحلف عندما تذوق طعمه أنك شربته يوماً ما في بيت طين أو سعف عندما كنت صغيراً، وعندما كانت هناك حميميّة في الوصال. ثم يليه العود والبخور وهي إشارة إلى انتهاء الجلسة وقت المغادرة، أو كما قال العمانيّون في مثلهم الشعبيّ " ما بعد العود قعود".

نعود بعدها إلى مقرّ إقامتنا في الدقم. برغم تأخّر الوقت، وبعد المسافة إلا أن مستقبلينا يرفضون تركنا بدون أن يرافقنا أحدهم وهو شاب في العشرين من عمره. يحلف عبدالله وهذا اسم الشاب بأنه سيحضر لنا الإفطار صباحاً من منزلهم، وأنه لولا خشيته من إزعاجنا لأتى لأخذنا بعد الفجر كي نتناوله في مجلسهم، ليأتي الافطار الصباحي مكوّناً من التمر الممزوج بالسمن، والقهوة العمانيّة، وحليب الجمال، وخبز الرقاق، وهو افطار تعجز الفنادق ذات الخمس نجوم بكل (شيفاتها) أن تأتي بمثل لذّته ولو قامت مجلة (الأسبوع) بعمل مسابقة مخصصة لذلك.

وجهتنا الأولى في جولتنا السياحيّة بالولاية كانت ميناء الدّقم. برغم أن الزيارة ممنوعة، إلا أنهم سمحوا لنا بالدخول ربما تقديراً لظروفنا، وقدومنا من مكان بعيد، والأهمّ رغبتنا الملحّة في التعرّف على معلم عمانيّ بارز من معالم النهضة الصناعيّة التي تساهم في صنع عمان الجديدة بل والمتجدّدة منذ أربعة وأربعون عاماً.

في الميناء وحوض السفن الجاف رأيت وسمعت عن أشياء تثلج الصدر، فهذا الميناء بحوضه العميق الواسع، وجدران رصيفه الطويلة؛ لديه المقومات التي تجعل منه باباً تجارياً متعدد الأغراض بمستوى عالمي، وبكونه مرتكزاً أساسياً لمنطقة اقتصاديّة ضخمة، وقد يصبح في القريب أكبر الموانئ في الشرق الأوسط على المدى الطويل.

من الأشياء التي شدّتني كذلك معلومة سمعتها عن أن المبالغ التي أنفقت على هذا المشروع من المؤمل استرجاعها في عام 2017، وعن أنّ فترة صيانة السفينة في الحوض الجاف لا تتجاوز الاسبوع. في بعض المؤسّسات يتردد المواطن لأشهر من أجل الحصول على رسالة رسمية، أو متابعة موضوع عالق لا يحتاج سوى لإمضاء مسئول، أو همّة موظّف.
ننطلق بعدها إلى فندق كراون بلازا، وهو معلم سياحي تملك الحكومة نسبة كبيرة من حصّته، ويعدّ من مفاخر السياحة العمانيّة بتصميمه الرائع، ومرافقه المتكاملة، وغرفه الواسعة النظيفة، وشاطئه الخلّاب.

وأنا أتجوّل بانبهار في مرافق الفندق المختلفة أقول لنفسي معاتباً إيّاها: هو لا يختلف عن "سوفوتيل" الرباط، أو "حياة" كازا، أو "ماريوت" القاهرة، فلماذا أكتب شعراً في وصف جمال تلك الفنادق والبقاع، ولا اتحدث عن هذا. هل هي (عقدة الخواجة)، التي تلازمنا؟ هل هو الانبهار بكل ما هو خارجي أو مستورد، والتفرغ لإبراز عيوب كل جميل نملكه؟ ربما.

تاركاً الفندق باتجاه الشواطئ القريبة حيث الطبيعة البكر، وشواطئ الفيروز، وغناء النوارس. أحلم بأسبوع أقضيه هنا مع كومة كتب، وهاتف بدائيّ ذو كشّاف تأنف فتيات اليوم أن تراه، وبرّاد شاي منعنع. ربما سأتخلّص بعدها من كثير من القلق والأرق. بل ستتغير معها نظرتي إلى أشياء حياتيّة كثيرة. كم أحتاج إلى وقت كهذا.

وأنا أتأمل الطبيعة وزرقة المياه الصافية تراودني الأسئلة: كم نحتاج إلى أن نعرّف شبابنا بمناطق جميلة كهذه المناطق، ماذا لو كانت هناك أراض مخصّصة لكل مؤسّسة حكومية كبرى كي تقيم أندية ومصايف لموظفيها، وماذا لو خصصت قطعة أرض كبيرة ليقام عليها معسكر عمل دائم للشباب، بل ماذا لو قامت وزارة السياحة بتسهيل إقامة بيوت للشباب، وحافلات تقلّهم بمواعيد محدّدة للتعريف بالمنطقة وجمالها وطبيعتها البكر، وعادات أهلها الأصيلة.

أتذكر شبه جزيرة سيناء، يوماً ما كانت هكذا أرضاً بكراً تكاد أن تكون خالية من السّكّان فأصبحت الآن قبلة السياحة العالميّة، وملتقى مؤتمرات العالم. لماذا لا نفكر جدّيّاً في تحويل المنطقة الى مكان جاذب لسياحة المؤتمرات؟
في المساء نعود إلى (ظهر) مرّة أخرى، ولتلك قصّة أخرى قد تروى بعد أسبوع في نفس هذا المكان، ولكن في غير الزمان.

د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.