الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

لماذا يحبّون السّلطان

 هو سؤال وجّهه لي ابني ذات ظهيرة ونحن نتابع تقريراً عن احتفاليّة إحدى الولايات فرحاً بخطاب السلطان المطمئن لشعبه عن صحّته.

ما دمت قد سألت فاسمع مني ما سأرويه لك: كانت بلدك ذا تاريخ وحضارة موغلة في القدم تعود لآلاف السنين، وكان لأهلها منجزات كثيرة ساهمت في تغيير أوجه عديدة من العالم. تاجروا مع دلمون وسومر وأكّد وبابل وطيبة وملوخه وعيلام وأرض كنعان وحمير وسبأ، ووصلوا إلى الهند والصين وسرنديب وما حولهما، وعرفت تلك البقاع فضلهم في نشر الدين واللغة وما اشتمل عليهما من قيم كثيرة، وأقاموا امبراطوريّات واسعة امتدّت لمئات السنين، وابتكروا أنظمة اقتصاديّة وزراعيّة ومعماريّة وسياسيّة ما زالت تدرّس في كثير من الجامعات والمعاهد العلميّة، وخرّجت أعلام بارزين في مناحي مختلفة أضافوا الكثير إلى سجلّ الحضارة العربيةّ والإسلاميّة الزاخر. ثمّ تكالبت عليها ظروف مختلفة أعجزتها وأرجعتها سنوات طويلة إلى الوراء حتّى غدت أشبه ما تكون بأوروبّا في العصور الوسطى: تخلّف، وجهل، وأمراض فتّاكة، وانقسام وفرقة مجتمعيّة على أسس قبليّة ساذجة، بل إنّ البعض وصفها وقتها بقوله" هي قطعة من العالم القديم دجل وترّهات وخزعبلات، وظلام فوق ظلام، وأناس طيّبون يروحون ويغدون. الوقت هو أرخص السّلع في عمان، الناس يخلعون أسنانهم بالدوبارة، ويأكلون المكرونة بالسّكّر"، بينما صرخ  آخر مستغرباً " لماذا يريد النّاس أن يعيشوا هناك؟ ومن يستطع أن يخرج الحياة من هذه الجبال!!"

وفجأة.. وكما يقال في الأمثال "من رحم الظّلام يولد الأمل"، ظهر فارس يمتطي حصاناً أبيض، ولكنّه كان هذه المرّة حقيقة وليس حلماً. فارس شعر بحجم المعضلة التي تعانيها بلده، واستشعر المأساة والمعاناة التي يعيشها مواطنيها، فكانت الانطلاقة نحو تحقيق حلم أشبه بالخيال، حلم لا يفقه أسراره سوى من عايش الوضعين، وقارن بين الحالتين.

كانت المسئولية كبيرة، والتحدّيات أعظم، تخيّل نفسك في بلد بلا مؤسّسات أو قوانين، وبلا أدنى مستوى من البنية التحتيّة، وحدود مفتوحة لم يتمّ ترسيمها، وشعب نصفه إمّا غارق في وحل الأمراض والجهل، أو مهاجر يبحث عن لقمة عيشه بعيداً عن وطنه، عدا ذلك كلّه فهناك من يبحث عن الإنفصال، وعيون خارجيّة تراقب ما يحدث بدقّه بحثاً عن ثغرات تفرض من خلالها أجندة معيّنة. تحدّيات تجعل القضاء عليها يكاد من ضروب المستحيل، وحلماً من أحلام اليقضة والخيال.
برغك كل تلك التحدّيات إلا أنّ هذا القائد الفذّ قد تجاوزها جميعاً فاستطاع خلال أعوام أن يصنع عماناً جديدة تختلف عمّا كانت عليه. عاد العمانيّ إلى بلده كي يسهم في بنائها، وتطوّرت السلطات التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة لنصبح دولة ذات دستور ومؤسّسات، وتوحّدت البلاد تحت ظلّ قائد واحد وعاصمة واحدة، ورسّمت الحدود لتقضي على خطر قنابل موقوتة كانت يمكن أن تهدّد مستقبل أجيال قادمة، وقضي على كثير من الأعراف الإجتماعية التي ساهمت في تفرقة المجتمع، ووصلت التنمية إلى وهاد وقفار لم نكن لنسمع عنها من قبل، وأصبح العمانيّ يحاضر في جامعات أكسفورد ومونبيلييه والسوربون وغيرها، ولعبت السلطنة دور الراعي لتسوية الكثير من الملفّات العالميّة الشائكة، وغيرها الكثير من منجزات لا يمكن حصرها هنا، بل هي كامنة في داخل كلّ عمانيّة وعماني.

أي بنيّ: عندما يخرج الناس بالآلاف للإحتفاء بهذا الرجل العظيم فهم لا يقومون بذلك نتيجة ضغط أو اجبار، فلا حزب حاكم لدينا يسيطر على مقدّرات الدّولة وينشر صبيانه هنا وهناك ليحشدوا الناس وكأنهم مقاولي أنفار، ولا اتحاد قوميّ أو اشتراكيّ أو طليعي يمارس دعاية سياسيّة فاسدة، ولا أجهزة أمن قمعيّة تعدّ على النّاس أنفاسهم وتدسّ بمخبر أمام كل بيت لتحصي من خرج ومن لم يخرج. في عمان يخرج الناس طواعيّة يدفعهم ولاء وجميل يحفظونه تجاه هذا القائد الذي أعاد للبلد حضارتها وصنع مجدها من جديد. هو حبّ بني مما قدّمه للوطن، وكبر بحجم ما أعطاه له ولشعبه. باختصار.. هم يخرجون لأنهم ببساطة يحبّونه بصدق.

وقد تسألني بنيّ: هل كلّ هؤلاء صادقين في مشاعر الفرح التي يظهرونها؟ لم أدخل قلوب النّاس كي أقيس مشاعر فرحهم أو حزنهم، ولكن لابدّ في كلّ زمان ومكان من طبّالي زفّة يندسّون وسط البقيّة بحثاً عن مصالح أحاديّة ضيّقة الأفق من قبيل من يتباهى بنحر كذا رأس من الإبل أو البقر وهو الذي يتردّد مليون مرّة قبل أن يتبرّع بحفنة ريالات من أجل استكمال مبنى خدميّ، أو مساعدة محتاج لجأ إليه، وهو الذي كان يمكن أن ينفق نفس المبلغ في أعمال أكثر ديمومة واستمراراً ليس أقلّها بناء مكتبة أهليّة، أو رصف شارع داخليّ، أو فكّ كربة عدد من المساجين بسبب مبالغ زهيدة لم يستطيعوا سدادها، أو التبرّع لمؤسّسة خيريّة تخدم المجتمع، ومن قبيل المسئول الذي يتوشّح الشّال، ويتظاهر بالدّعاء وهو الذي يعطّل مصالح الناس، ويبطء من وتيرة عجلة التنمية بسياسات مؤسسته التي تجاوزها العصر، ومن قبيل من يلتقط صوراً لنفسه ودموعه تهطل مدراراً، ثمّ لا يترك موقعاً ولا وسيلة تواصل دون أن يظهر للناس دموعه، ومن قبيل من يغلّف سيّارته بصور السّلطان ثم يقطع الإشارة، أو يكسر حاجز السّرعة المحدّد، أو (يفحّط) في الشوارع، ونماذج أخرى متعدّدة.

هؤلاء يا بنيّ لا يشكّلون من المجتمع سوى أقلّه، فعمان الحقيقيّة أكبر من ذلك بكثير. عمان الحقيقيّة هي جدّتك التي برغم معاناتها مع المرض إلا أنّها لا تنس أن تسألني في كلّ مرّة أزورها عن حال السّلطان وصحّته، خاتمة سؤالها بكلّ أنواع الأدعية التي تحفظها من أجل أن يمنّ الله عليه بالشّفاء والعافية، عمان هي المرأة الأمّيّة التي قالتها بكلّ عفويّة وصدق" نعيتني يا قابوس"، عمان هي الشيخ الأعمى الطّاعن في السّن والذي برغم سنواته التي قاربت التّسعين إلا أنّ سماعه لصوت السلطان جعله يستعيد كثيراً من سنوات عمره التي مضت، ويتذكّر بندقيّة ربّما اعتقد أنّه لن يراها بقيّة عمره بعد أن حلّ الأمن والأمان محلّ القلاقل والفتن التي كانت تشكّل خبزاً يوميّاً في حياته وحياة الآخرين فأخرجها من (سحّارته) العتيقة، وانطلق لحوش بيته يمارس عملاً نسيه منذ سنين طويله بينما صدى الطلقات تجلجل الحارة بأكملها وهو الذي لا يرى، ولكنّها البصيرة، عمان هي الصيّاد البسيط الذي يخرج فجر كلّ يوم متحدّياً البرد والموج وتقلّبات الطّقس باحثاً عن بضعة سمكات يصطادها كي يبيعها سعيداً قنوعاً بما رزقه الله. هي المزارع الذي مازال متمسّكاً بأرضه، وهي الحرفي الذي مازال كالماسك على الجمر وهو يرى الوافدين يسرقون منه مهنته التي هي جزء من تاريخ هذا البلد، عمان هي هؤلاء وغيرهم من المخلصين من كلا الجنسين الذين يبنونها بكلّ صدق، والذين يؤمنون أنّ الاخلاص في عملهم، والمحافظة على مكتسبات هذه النهضة، والتمسّك بقيم هذا البلد وأصالته هي أفضل ردّ للجميل يقدّمونه إلى وطنهم، وإلى عاهل بلادهم وباني نهضتهم.
عمان هي أنت وأقرانك ممّن صدحتم عالياً "بالروح..بالدّم نفديك يا قابوس"، وأنتم الذين لم يجد الرياء أو التزلّف سبيلاً بعد إلى قلوبكم.

هل عرفت الآن لماذا يحبّ العمانيّون قائدهم!!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.