الأربعاء، 11 يوليو 2012

مدرسة دار الفلاح



http://alroya.info/ar/alroya-newspaper/internal/36013--q-q-----
الرؤية- د. محمد بن حمد العريمي

للتعليم في عُمان حكاية تختلف جذريًّا عن بدايات التعليم -التعليم النظامي- في كثير من الدول العربية الأخرى، فعُمان لم تعش الصراع بين الموقفين المتضادين، الموقف الذي يقول: "لا تعلموا أولاد السفهاء العلم" فقصره على فئة معينة وبطريقة معينة، والموقف الذي تولى كِبره طه حسين الذي عمم التعليم على جميع المصريين الفقراء منهم والفلاحين.
فعُمان بلد آخر يرفض فكرة الصراع بين الحداثة والتقليد، بلد يمزج بين الجيد من القديم والجيد من الجديد، لذلك كانت قصص التعليم فيها لاسيما تعليم البنات مثالاً لقصص النجاح والريادة، ومدرسة "دار الفلاح" من المحطات البارزة على جبين هذا الوطن الجميل التي ساهمت في تفتح الزهور ونمو الأشبال على حروف اللغة والكتابة الأبجدية، مدرسة " دار الفلاح" دائما تهمس في أذن العاجز منا ببيت جرير:
دع الطريق لمن لا يضيء المنار بها
واقعد حيث اضطرك القدرُ
حتى يكون الطالب فيها أحد الرواد الذين يضيئون طريق النور، طريق الإبداع، وكذلك كانوا. 
وهنا سنعرض لقصة إنشاء مدرسة "دار الفلاح" التي تعود نموذجاً رائعاً من نماذج الإصرار المجتمعي على نشر العلم والمعرفة بكافة السبل المتاحة في عصر شهد كثيراً من التحديات المختلفة في المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وسنعتمد في تقريرنا على ما أورده الباحث والمؤرخ حمود بن حمد بن جويد الغيلاني الذي تناول تاريخ تلك المدرسة في كتابه المهم " ولاية صور" والذي تناول جوانب من تاريخ الولاية في عدد من المجالات المختلفة.
فكرة إنشاء المدرسة
قبل حوالي 70 عاماً من اليوم فكر أهل صور في إنشاء أول مدرسة نظامية تقدم عدداً من العلوم الحديثة لأبنائهم، وعهدوا بالمهمة إلى المعلم والمربي الفاضل عبد الله بن أحمد الغزالي، فكانت مدرسة "دار الفلاح" أو مدرسة "الغزالي"، والتي فتحت أبوابها في منطقة الساحل عام 1942م.
وقد لا تكون هذه المدرسة هي الأولى في تاريخ الولاية التي انتشرت فيها وقتها عدد من مدارس تعليم القرآن الكريم واللغة العربية والرياضيات بمفهومها القديم "الحساب"، وقد كانت هذه المدارس تأخذ شكلاً بدائياً بحسب ظروف تلك الفترة، مع عدم اقتصارها على جنس معين، ولكن "دار الفلاح" كانت أنموذجاً جديداً للمدرسة العصرية الحديثة بحسب ظروف تلك الفترة.
ولعل من بين الأسباب التي جعلت أهل صور يهتمون بالعملية التعليمية وقتها، ويولون القائمين عليها اهتماماً ورعاية كبيرين هو اهتمامهم بالملاحة البحرية، لذا فقد حرصوا بالتالي على تعليم أبنائهم لمبادئ الحساب كي يعرفوا حساب النجوم ومواقعها وقياساتها، وخطوط الطول والعرض، وقياس الأبعاد والمسافات وأعماق البحار، وسرعة سير السفينة.
ولأهمية الحدث المجتمعي المتمثل في افتتاح تلك المدرسة النظامية الحديثة والتي كانت نتيجة لوعي مجتمعي شامل تمثل في توافق الرغبة من قبل شيوخ واعيان المدينة، وتعاونهم في تحمل الأعباء المادية المتعلقة بها، فقد تفاعل معها المجتمع الصوري بشكل كبير، وقيل فيها كثير من القصائد الشعرية التي نورد منها هذه الأبيات لإحدى شاعرات الولاية وقتها:
الحمد لربي شكر وجب
على آلاء صور وكل العرب
ألا يا صورهم فلقد طلع
هلالك من بعد ما قد غرب
وهذه مدرسة للوطن
تسمى فلاح عيام الرغب
دار الفلاح لأبنائها
كأم وخال وعم وأب
المبنى المدرسي
وفي بداية افتتاحها، كان مبنى المدرسة يتكون من خمس غرف؛ أربع منها استخدمت كفصول دراسية، بينما استخدمت الغرفة الخامسة كمكتب لإدارة المدرسة، بالإضافة إلى باحة المدرسة الواسعة التي استخدمت في اقامة الأنشطة المصاحبة للعملية التدريسية.
ونتيجة لازياد أعداد الطلاب بسبب الإقبال الكبير عليها، فقد تم اضافة سبعة فصول أخرى ليبلغ اجمالي الفصول الدراسية أحد عشرة فصلاً دراسياً، وبلغ عدد طلاب في إحدى السنوات الدراسية حوالي سبعمائة طالب.
الهيئة التدريسية
وتولى الأستاذ والمربي عبد الله بن أحمد الغزالي إدارة المدرسة والتدريس فيها كذلك يعاونه عدد من المدرسين منهم أخوه علوي بن أحمد الغزالي، وسعيد بن مبارك بن جويد الغيلاني، وعبد الله بن عبد الكريم الفارسي، وعبد الله بن سالم الحضرموتي الذي استدعاه عبد الله الغزالي للتدريس بالمدرسة، ويوسف بن ابراهيم المخيني، إضافة إلى عدد من الطلاب المجيدين وقتها والذين تم تكليفهم بالقيام بعملية التدريس لزملائهم ومنهم ناصر بن عبد الله المخيني، وراشد بن عبد الله آل فنه، وصلاح بن عيسى الزدجالي.
المناهج الدراسية
وتنوعت المناهج الدراسية التي درست لطلاب مدرسة "دار الفلاح"، ولم تقتصر على مواد بعينها بل شملت اللغة العربية حيث كان يتم تدريس النحو من خلال ألفية ابن مالك، كما كان الطلبة يأخذون دروساً في الفقه تشمل دراسة التطبيقات الصحيحة للواجبات والفروض الملازمة لسلوكيات المسلم في عبادته خلال حياته اليومية، كما درس الطلاب التجويد من خلال تعليمهم لكيفية قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة خالية من اللحن، بالإضافة إلى علم التوحيد والذي اشتمل على دراسة الإلوهية والربوبية والأسماء والصفات.
ودرس الطلاب كذلك الحساب والرسم "الخط العربي"، بالاضافة إلى دراسة جزئية لبعض العلوم المختلفة حسب الحاجة إليها كعلم الفلك، وذلك بالتركيز على دراسة مواقع النجوم وأوقات خروجها لأهمية ذلك للطلبة، الذين لم يكن لهم من وسيلة لتحصيل الرزق مستقبلاً سوى بالعمل غالباً في مجال الملاحة البحرية.
نشيد الصباح
وكان للمدرسة نشيدها الصباحي الذي يحمل كثيراً من المعاني التربوية والدينية والوطنية، وكان الطلاب يحرصون على حفظ هذا النشيد وترديده بصوت عال أثناء الطابور الصباحي، وهنا نقتطف بعضاً من أبيات ذلك النشيد:
يا ربنا بالفاتحة
هبنا العلوم الناصحة
ومن القلوب الخاشعة
ألطف بنا والمسلمين
إنا وقفنا طائعين
وفي المواهب طامعين
فهب لنا حسن اليقين
إنك مجيب السائلين
يسر لنا أمورنا
واشرح لنا صدورنا
واستر لنا عيوبنا
فأنت بالستر تعين
وانصر لنا وأيد
سلطاننا زاكي الندى
ربي اكفه شر العدا
وشر كل المؤذيين


إغلاق المدرسة 
واستمرت المدرسة في أداء مهمتها ما بين عامي 1942 و1952، حيث تم إقفالها رغم محاولات بعض أبناء المدينة لافتتاحها مرة أخرى ونشر رسالة التعليم كما فعل الشيخ سعيد بن مبارك بن جويد الغيلاني الذي لم يوفق في مسعاه نظراً لبعض الظروف التي أعاقت هذا الأمر في تلك الفترة، ثم اضطر إلى إنشاء المدرسة الدينية الصورية في نفس مبنى "دار الفلاح"، وذلك بعد عودته من مكة المكرمة حيث أنهى دراسته وتخرج في مدارسها، واستمرت المدرسة الجديدة لمدة أربعة أعوام ساهمت في تخريج جيل من الطلاب الذين عملوا في مجالات الخطابة والإمامة أو العمل في بعض المنافع العمومية أو الخاصة.
إزالة المبنى
وكانت جناية ما يعرف "بشهر البلديات" كبيرة على هذا الإرث التاريخي المهم، فقد قامت البلدية بإزالة ما تبقى من المبنى الأثري المهم وساوته بالتراب، وهو الذي احتضن يوماً ما منارة علم قامت وسط ظروف مجتمعية وثقافية صعبة، ونثرت نفحاتها العلمية في أرجاء المجتمع الصوري، وساهمت في تخريج جيل من الشباب المتعلم كان انطلاقة لأجيال أخرى ساهمت فيما بلد في نهضة المجتمع العُماني بشكل عام وتقدمه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.