الأحد، 12 مارس 2017

(في رحاب العارف بالله)

أصل أخيراً إلى شارع محمود علي البنّا وهو شارع خلفيّ مطلّ على المسجد الأحمديّ، أو على وجه الدّقّة يقع إلى اليمين من بوّابة المسجد الرئيسة. والبنّا هو أحد مشاهير القرّاء في مصر، المنوفيّ الأصل الذي ارتبط بطنطا وبجامعها الأحمديّ طالباً في مقتبل عمره، ثم قارئاً لأكثر من عشرين عاماً، وهو الذي استقبلته المدينة في احتفال رسميّ مهيب حضره الآلاف من محبّيه ومريديه و(سمّيعته)، وهو الذي كانت الشوارع المحيطة بالجامع تفيض بالسائرين عليها أيّام الجُمَع للحصول على موطئ قدم كي لا تفوتهم تجلّيات شيخهم وهو يصدح بآيات الله في صوتٍ ملائكيّ رخيم، لذا لم يكن غريباً تسمية الشارع باسمه، وشوارع أخرى بأسماء قرّاء كبار آخرين اعترافاً بفضلهم، وإشادة بعطائهم، كيف لا وهي المحطّة التي طاف عليها رموز وقامات من أمثال الشيخ الشعراوي، ومحمد أبو زهرة، وعبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ مصطفي إسماعيل، ومحمود البنّا، ومحمود خليل الحصري، وغيرهم.

حاملاً زادي الفكريّ من صحفٍ مختلفة التوجّهات كنت قد ابتعتها من رصيف محطّة مصر، أتجوّل في الشارع الذي يغصّ بروّاده وهم خليط من مترددين على المؤسسات الحكوميّة القريبة، ومريدين قادمين طلباً لنفحات شيخ العرب، وباعة حلويّات وملابس جائلين، وسكّان قاطنين في الحارات التي يتفرّع منها الشارع كحارة قيصريّة الجزّار، فهذا سوق الفاكهة بنداء باعته المميّز، وهذه محلات عدلي، وشهد، والفلاح تعرض منتجاتها من حمّصيه، وسمسميه، وفوليّه، وملبن، وبسبوسه، وكنافة، وغيرها من الحلويّات التي اشتهرت بها عروس الدلتا، وتلك مقاهي تناثرت كراسيها الخشبيّة على الرصيف بانتظار زبائن لا ينقطعون.

ها أنا أقف الآن أمام بوّابة المسجد الأحمدي أكبر وأشهر مساجد مصر بعد الأزهر والحسين، المسجد الذي كانت بدايته كزاوية صغيرة بجوار قبر العارف بالله أحمد البدوي، الفاسي أصلاً ومولداً، الحسيني نسباً، السطوحيّ لقباً، الذي لبّى النداء بالهجرة إلى مصر، ما لبثت أن تحوّلت تلك الزاوية إلى مؤسّسة دينيّة وتعليميّة جامعة لها سبعة أبواب. المَعْلَم الذي تبارى مماليك، وأمراء، وخديويّات، وسلاطين، وملوك، ورؤساء مصر في عمارته وتجديده والاعتناء به طلباً للبركة، ورغبة في نيل الثواب حتى عُدّ تحفة معماريّة رائعة، وقبلة لشيوخ العلم وطلبتهم ومريديهم، ومكاناً لإقامة الموالد الكبيرة التي يحضرها القاصي والداني من صعيد مصر الجوّاني حتى ساحل دمياط، ومن أحراش السودان حتّى سهول فاس وتطوان.

أدخل الجامع مخترقاً باحته الخارجيّة حيث العشرات قد تجمّعوا، فهذا مجذوب يلبس أسمالاً وكأنّه عائد من أحد العصور القديمة يهذي بأبيات شعر غير مفهومة، وذاك متسوّل يمسك بمبخرة وهو يدعو عباد الله أن يعينوا المحتاج في صوت جهوريّ رخيم يدلّ على أن صاحبه قد أصابته نفحات المكان، أو أنه كان تلميذاً لدى أحد القرّاء قبل أن يتركه لسبب ما، وتلك امرأة تحتضن طفلة يبدو من هيئتها أنها أصيبت بمسّ وأتت تبحث لدى سيّدها العارف بالله عمّا يزيله، وذاك رابع يعرض بضاعة تناثرت من شوال أزرق مهترئ، وخامس على ما يبدو أنه صبيّ يعمل في القهوة المجاورة يدور بأكواب العنّاب والكركديه على الزائرين والمقيمين،  لأجد نفسي أمام صحن واسع تحيط به الأروقة، وتغطّيه قبّة مرتفعة، ويبدو أثر العمارة الإسلامية جليّاً من خلال الزخارف، والزجاج الملوّن، والأعمدة العالية، والنجف النحاسيّ في إشارة واضحة إلى مدى الجهد المبذول، والتنافس الكبير على عمارة المسجد والاهتمام به.

في إحدى زوايا المسجد ألمح زحاماً شديداً، وبشراً يحمل بعضهم طفله، وآخر حذاءه وهم خارجون من غرفة يشع منها لوناً أخضر، ورائحة بخور مميّزة. يدفعني فضولي لاستكشاف المكان فأجد نفسي في حضرة مقام شيخ العرب وسط العشرات الذين تزاحموا طلباً لحاجات كثيرة ليس أقلّها طلب الشفاء من مرض عضال، أو الرغبة في تزويج البنت البكر، أو برّاً بنذر كانوا قد نذروه يوماً ما، اعتقدوا أن وقوفهم على ضريح (سيّدهم)، وتمسّكهم بأستار قبره، وبكاؤهم في حضرته قد يحقّقها، وتبدو في المنتصف لوحة كبيرة تؤرّخ لسيرته، بينما يعلو المكان لوحة أخرى نقش عليها بخط عربيّ جميل الآية القرآنيّة "وكان فضل الله عليك عظيما".

بعد ركعتين أديتهما في صحن المسجد تحية له أعود الخطى مرّة أخرى إلى باحته الخارجيّة طلباً لبعض الراحة، لأجد نفسي مرّة أخرى في شارع محمود البنّا، وبالتحديد على كرسيّ خشبيّ قديم داخل مقهى تاريخيّ تجاوز عمره العشرين بعد المائة من السنوات منذ أن أسّسه صاحبه علي بخيت في منتصف العقد الثامن من القرن التاسع عشر مقتبساً من الجامع الأحمديّ المجاور بعضاً من ملامحه وفنّه وكأنّه يغري زوّار المكان وطالبي قضاء الحاجات بالتردّد عليه، والمكوث فيه.

ولأن الوقت لا يزال مبّكراً حيث لم ينتصف النّهار بعد، ولأننا في منتصف الربيع حيث الجوّ لا يزال بديعاً، وأصوات نداء الباعة المختلط بأصوات المجاذيب والمتسوّلين والنساء والأطفال تشكّل سيمفونيّة جميلة محبّبة إلى النفس سمعتها مراراً أثناء تجوالي في أماكن عدّة مشابهة كالحرم الحسيني، وساحة أبو العبّاس المرسي، أختار مكاني في الجزء الخارجيّ من المقهى حيث يمكنني مراقبة المكان، ورصد حركة البشر، وهي العادة التي أمارسها في كلّ مقهى أجلس عليه، بجواري دكّة خشبيّة صغيرة، وطاولة قديمة فرش عليها ملاءة زرقاء أضع عليها زادي من الصحف، وبالقرب منّي طاولة يجلس عليها رجل يرتدي جلباباً صعيديّاً أزرق اللون منسجماً مع لون فراش الطاولة التي يضع رأسه عليها، وقد أغلق جفنيه غارقاً في نومٍ عميق ربما كان سببه إرهاقاً حل به بعد أن قطع رحلة طويلة من قريته النائيّة الغائصة في أعماق الريف أو الصعيد كحال الكثيرين من بني جلدته!

أتأمل المقهى الواسع والمزدحمة كراسيه العتيقة بالبشر عن آخره مع أننا ما زلنا في بدايات الصباح، فرحلتي المبكّرة من القاهرة إلى طنطا لم تستغرق أكثر من ساعة ونصف، ولكن يبدو أن زيارة السيّد لا تعرف مواعيداً محدّدة، ولا تلتزم بأعدادٍ معيّنة، فالمقام مفتوح، والخلوة حاضرة. تشدّني الأبواب الكبيرة المفتوحة التي تشكّل بهواً يربط الجزء الداخلي من المقهى مع جزئه الخارجيّ، وثمّة لوحات متناثرة على جدران المقهى كتبت عليها عبارات وحكم وآيات قرآنيّة، وأخرى عليها صوراً للحرم الأحمديّ، وآيات قرآنيّة منقوشة على زجاج النوافذ العليا، وعمال وصبيان يتنقّلون في حركة دائبة تلبية لطلبات الزبائن المتعدّدة، وعدداً من الباعة الجائلين الذين يعرضون لبضاعة متنوعة ابتداء بالساعات الرديئة والفلايات والأمشاط، وانتهاء بالسميط والحمّصيّة والفوليّة، وبعض ماسحي الأحذية الذين ينتهزون فرصة دخول زبون جديد من غير أصحاب الجلابيّات كي يعرضوا عليه مسح حذاءه وتلميعه.  

أما ما حدث معي منذ لحظة طلبي لكوب السحلب بالمكسّرات، وحتى تركي للمقهى باتجاه ميدان المحطة فتلك حكاية مؤجّلة.    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.