الأربعاء، 3 أغسطس 2011

مصر التي في هاجسـي


منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أعتزم الكتابة عن مصر، لولا إحساسي أن كل مشاعري تجاه هذا البلد لن يحتويها مقال ، وبعد الأحداث الأخيرة رأيت أن العشرة، والأيام الجميلة التي عشتها في كنف "المحروسة" تستلزم مني كتابة مقال أعبر من خلاله عن شيء مما أكنه تجاه هذا البلد.

عندما ركبت الطائرة قبل خمس سنوات متجهاً إلى القاهرة لاستكمال دراستي ( العليا) فيها.. كانت هناك كثير من المشاهد تتراءى أمام مخيلتي.. مشاهد صنعت أحداثها عشرات المسلسلات المصرية الجميلة، والتي لم تكن أحداثها تدور في القصور وبيوت ومنتجعات  الطبقة الجديدة كما يحدث في مسلسلات هذه الأيام.. كما صنعتها حكايات المعلمين المصريين ... وصنعتها روايات أصدقائنا من أبناء أولئك المعلمين.

عندما نزلت من الطائرة في ميناء القاهرة الجوي كان كل همي أن أتخلص مما أحمله من حقائب ، وأن أنطلق كي أتحقق من تلك المشاهد..كان منظر النيل.. وصورة الأهرامات.. وطعم الفول ..ورائحة البهارات  يجذبني بشدة .. تخلصت من حقائبي، وانطلقت نحو الشارع استكشف مصر، واستمرت محاولات استكشافي لها أربعة سنوات كاملة، ومازلت حتى الآن لم استكشف سوى القليل من حضارة هذا البلد الرائع.

إن كنت أنسى يا مصر فلن أنسى أياماً جميلة قضيتها  في ربوعك..مازال منظر الريف المصري الجميل بنيله وفلاحيه، وأنا أتطلع إليه من نافذة القطار "الاسباني" ماثلاً أمام عيني ..ومازال نغم "القانون" في مقهى نجيب محفوظ بخان الخليلي يرن في أذني..ومازلت أستسيغ طعم "حواوشي" شلبي في ميدان أحمد عرابي .. ومازالت رائحة الكتب القديمة والمستعملة في سور الأزبكية باقية في يدي..

عن ماذا  يا مصر  سأحكي من ذكرياتك..ترى هل يعرف من زارك قهوة "ريش" ودورها في صناعة التاريخ السياسي لك؟وهل احتسوا التاريخ مع أقداح الشاي والقهوة في  قهوة "المضحكخانه" و"الفيشاوي" و"جروبي" و"بعره" وغيرها من المقاهي المتناثرة في ربوعك، والتي ساهمت في صنع تاريخك؟هل زاروا دار الكتب والمتحف المصري ومتحف الآثار الإسلامية وقلعة صلاح الدين وقايتباي؟ هل تجولوا في شوارع طلعت حرب وقصر النيل وشامبليون  ومحطة الرمل ورأوا رقي حضارتك؟ هل تسكعوا أمام عمر أفندي وصيدناوي وشيكوريل ومكتبة مدبولي والشروق؟هل زاروا "الوادي الجديد"، أو"عزبة سعداوي" وقضوا أياماً جميلة بصحبة مصريين حقيقيين كل همهم في الدنيا هو الستر والقناعة؟..هل يعرفون لذة التجوال عصراً في "المشاية" ، أو "جزيرة الورد"، أو "سيدي بشر"..هل أصابتهم نفحات " المرسي أبو العباس"، و"أحمد البدوي"، "وسيدي القناوي" وغيرهم من الأولياء الذين فتحت لهم بابك فوجدوا في حضنك الأمان؟.. هل أحسوا بدفء أصالتك في عابدين وامبابه ومحرم بك والمنيرة والجيزة ...هل أسمعهم سائق التاكسي  آخر نكته، أو تحليل سياسي عميق لحدث يهمك، أو وصف لمباراة كرة قدم،أو شكوى  من المعيشة  بينما نسخة من المصحف الشريف تتصدر مقدمة السيارة؟..هل سمعوا عن وجهك القبيح المتمثل في العشوائيات كعزبة الهجانة، وقلعة الكبش، واصطبل عنتر، وعزبة النخل أو فرع جهنم في الأرض كما يحلو لبعض سكانها أن يسموها بذلك؟

علمتني سنوات المعيشة في "المحروسة" أشياء عدة..علمتني أن القاهرة  ليست فقط شارع  جامعة الدول العربية بكل تناقضاته، كما يحلو لكثير من زوار مصر أن يعتقدوا بذلك.

علمتني أن المصري  يميل إلى الوداعة والطمأنينة والهدوء وطول البال والدعابة والمرح والتفاؤل والوسطية وحب الحياة، ولعل السبب في ذلك يعود إلى الطبيعة التقليدية التي عاش فيها المصري على ضفتي النيل وتركت بصماتها على شخصيته ، حيث منحته شعوراً زائدا بالطمأنينة والسكينة وصل به  في بعض الأحيان إلى حالة من الكسل والتواكل والسلبية والتسليم للأمر الواقع والميل إلى الاستقرار الذي يصل أحيانا إلى حالة من الجمود.

علمتني أن المصري صبور لدرجة لا يمكنك تخيلها، ولكن عليك أن تحذر غضبه في عدة حالات: حين تنتهك قدسية عقيدته الدينية المتراكمة عبر عصور طويلة، و حين تجرح كرامته الوطنية بشكل مهين ، وحين تهدد لقمة عيشه بشكل خطر.

علمتني أن المصري "قدري" إلى أبعد حد ، فهو يوكل أمره إلى الله، وهو يعتقد أن مصيره بيده ، و"عشانا عليك يا رب".

علمتني أن توالي الحضارات على مصر جعل من شعبها بشوشاً، محباً للغريب، جرب أن تمشي في أي شارع أو حارة في مصر وفي أي وقت من أوقات اليوم، لن تجد من يتعرض لك أو ينظر لك نظرة استغراب أو استهجان..جرب أن تسأل أحدهم عن مكان ما، ستجد الكل يتسابقون في مساعدتك ، بل وسيتطوع بعضهم لترك عمله وإيصالك للمكان الذي تريد...جرب أن تطلب شيئاً ما من جارك في السكن، أو تحاور شخصاً لا تعرفه ويجلس جوارك في القهوة أو أية وسيلة مواصلات.

علمتني أن المصري لديه قدرة هائلة على التكيف مع الظروف , ويبدو أن هذه القدرة اكتسبها من تاريخه الطويل في التعامل مع أنماط متعددة من الحكام والحكومات , وتغير الظروف والأحوال التي يعيش تحت وطأتها , فلديه مرونة كبيرة في التعامل , ولديه قدرة على قبول الأمر الواقع والتكيف معه أيا كان هذا الأمر , ولديه صبر طويل على الظروف المختلفة .

علمتني أن المصري متدين بطبعه، ورؤيته  لأي أمر في حياته يغلب عليها الدين حتى ولو كان غير متدين، فهو يفتتح يومه بآيات الذكر سواء في محله أو بيته، ويضع المصحف بجواره في كل مكان ، وفي جيبه، حتى لو مرت أشهر بدون أن يقرأ آية منه، وهو يشعل البخور، ويستمع إلى إذاعة القرآن ، ويلبس الجلباب الأبيض الناصع كل جمعة حتى لو تأخر في الذهاب إلى الجامع لأداء الصلاة، وهو يحلم طوال عمره بأن يوعده ربه بحج أو عمره، وأن يزور قبر الحبيب.

علمتني أن النكتة والدعابة هي سلاح المصري للتغلب على همومه،  فهو يستخدمها للتخفيف من معاناته، فمن خلالها يستطيع أن يسخر من المستبدين به ويهينهم ويقلل من هيبتهم، والنكتة دفاع ضد الحزن العميق الكامن في الشخصية المصرية, ولهذا تجد المصريين يضحكون كثيرا برغم كثير مما يعانونه .

النكتة بالنسبة للمصري كما يراها الصحفي الكبير (عادل حمودة )تعني المقاومة الساخرة، الواعية، الحية، المتفلسفة، وربما السلبية أيضاً..مقاومة تعطي الشعب "الأمان"، وتعبر عن إرادته التي لا تفنى، ولا تقر الخوف، وتسعى إلى أن تتجاوزه..هي "انتقام"مقدس ..يدافع به الشعب عن نفسه ضد "الطغيان".

لا أحد يفهم الشعب المصري أكثر من الشعب المصري..قالها نابليون عندما تلقى نبأ ثورة الشعب المصري عليه..لم يعرف نابليون أن الثورة في مصر تشتعل عندما تنعدم المسافة بين الجوع والموت..بين الحرية والسجن..عندما يصبح الحشيش عاجزاً عن التخدير..والنكتة عاجزة عن التسكين..باختصار..عندما يكون الألم أشد من المورفين..والغضب أكبر من حلقات الذكر..والانتحار هو السبيل الوحيد للحصول على رغيف العيش.

ختاماً ..أيتها العظيمة لن أجد لوداعك سوى قول أحد أبنائك:
ياصابحة متعطرة..من حلفا للقنطرة..أنا اللي دمعي اشترى..أغلى مناديلك



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.