كنت قد تناولت في المقال السابق عدداً من المشاهد والمواقف المرتبطة بحلول الشهر الفضيل ، وفي هذا المقال سأعرج على بعض المشاهد والملاحظات الخاصة بي خلال الأيام الأولى من أيام هذا الشهر المبارك، وهذه المواقف بعضها سلبية سبقت الإشارة إليها والتحذير من وقوعها، والدعوة إلى التصدي لها، والبعض الآخر ايجابية وبها كثير من الروحانية، والتكافل الاجتماعي، وينبغي العمل على تعزيزها بحيث تشمل بقية أيام السنة، والمحافظة على جوانبها وتطويرها، وسنبدأ بسرد بعض المشاهد السلبية:
المشهد الأول : اليوم السابق لدخول رمضان، ولأن السمك - وهو وجبة مفضلة لنا في رمضان نحن سكان المناطق المطلة على بحار كريمة بصيدها وخيراتها المختلفة – أصبح ينافس في ارتفاع أسعاره اليومية أوقية الذهب، بالإضافة إلى قلة وجوده في الأسواق المحلية حالياً، فقد توجهت إلى إحدى الحظائر لشراء رأس من الغنم المستورد، وذلك لأن النوع المحلي إما نادر الوجود لظروف التصدير والبيع في الأسواق الخارجية، حيث يتم رمي اللحم، والإبقاء على العظام التي تدق بعد سلقها لعمل (حساء) مخصوص لإبل السباق في بعض الدول المجاورة، أو لأن أسعاره فوق قدرة ذوي الدخل المتوسط أمثالي. الشاهد أنني اخترت أحدها وسألت البائع عن سعره، فأجابني أنه بــ(48) ريالاً، وهذا سعر نهائي ولا مجال للمفاصلة، قلت له: ولكنني اشتريت شبيهاً له من نفس المكان، وبنفس المواصفات ب(37) ريالاً قبل أقل من شهر، بلا مبالاة تركني البائع وذهب لتلبية طلبات زبائن آخرين بدا من تزاحمهم عليه أنهم على استعداد لشراء أكثر من رأس وبأي سعر ، فكرت أن أهدد البائع و(كفيله) بإبلاغ هيئة حماية المستهلك، وبعض الجهات الرقابية الأخرى،ولكني خشيت من سخريته مني، فلذت بالصمت وانصرفت.
المشهد الثاني: عصر اليوم الأول من رمضان، الساحة الرئيسية في السوق مزدحمة بالناس، عشرات الباعة الجائلين من الجنسيات الآسيوية يعرضون أصنافاً من الوجبات والحلويات الرمضانية المتنوعة، وبعض "قليل" من باعة "الهريس" العمانيين بجوارهم. شدني تزاحم عدد كبير من الناس شيباً وشباباً وصغاراً بداخل أحد المطاعم المشهورة بإعداد مثل هذه الأصناف ، الزحام رهيب، والطابور الفوضوي يتعدى باب المطعم ليملأ الساحة المحيطة بالمطعم، في ظاهرة غريبة لم أعتد رؤيتها في الأيام العادية.
أحد الأصدقاء أكد لي أن هذه الظاهرة ستقل بمرور أيام الشهر الفضيل، ولكن تبق ثمة تساؤلات محيرة: ما السبب لذلك التزاحم الغريب والغير مبرر؟ هل هو الإحساس بالجوع خاصة ونحن في أول أيام الشهر المبارك؟ أم هو الفراغ وقلة الأماكن التي يمكن ارتيادها في مثل هذا الوقت كالمكتبات العامة والمراكز الثقافية والاجتماعية؟
كما أن كثيراً من المشاركين في ذلك التزاحم العجيب كانوا بالطبع قد اشتركوا في الحملات المكثفة نحو المجمعات والمحلات الكبيرة قبل حلول الشهر الكريم، وقادوا بأنفسهم عشرات (العربات) المحملة بما لذ وطاب من معجنات ومعلبات ومجمدات وسوائل من كافة أنواع أصناف الطعام، فأين ذهب كل ذلك؟ هل هي الثقافة الاستهلاكية السلبية مرة أخرى؟ وهل نمارس عملية الشراء العشوائي لمجرد تقليد الآخرين والتباهي أمامهم بحجم المشتريات وقيمتها؟
نفس الصديق السابق تمنى لو كان هذا التزاحم حدث أمام صندوق خيري يضع فيه الناس شيئاً بسيطاً من نقودهم أو بعض المستلزمات، تذهب إلى المحتاجين في أنحاء شتى من العالم الإسلامي، خاصة وأن وسائل الإعلام المختلفة تتحدث كثيراً هذه الأيام عن شبح المجاعة الذي يتهدد الملايين في القرن الأفريقي القريب جغرافياً من منطقتنا.
شاركته أمنيته، وأضفت عليها أمنية أخرى وهي وجود مراقبة صحية وبلدية يومية للأسواق، خاصة في الفترة من الظهر حتى أذان المغرب، حيث يكثر باعة الطعام الجائلين.
وكي نكون منصفين، ولكي تبدو الصورة أكثر جمالاً ونقاء فهناك مشاهد أخرى ايجابية قد تبدد تلك الصورة السلبية ، صحيح أن بعضها يكثر في رمضان ولكنها تبقى مظاهر جميلة ينبغي تشجيعها والحث عليها، خاصة ونحن نتحدث دائماً عن أهمية المحافظة على ما تبقى من عادات وقيم مجتمعة، ومحاولة إحياء ما اندثر منها.
المشهد الأول: صلاة الفجر في أحد المساجد.. المسجد ممتلئ برواده من مختلف الأعمار، صوت قراءة القرآن يعلو على بقية الأصوات، الصبيان لهم حضورهم، إما وحدهم أو برفقة آبائهم ، عجوز تسعيني يدخل المسجد متكئاً على يد أحد أحفاده. برغم ظروفه الصحية وكبر سنه، وبرغم عدم استطاعته الصلاة واقفاً، إلا أنه مصر على تسجيل حضوره الروحاني اليومي، ربما لأن خير الأعمال الخواتيم ، وربما لكي يقدم لأولئك الصغار درساً في أهمية المحافظة على الصلاة باعتبارها ركن الدين قد يستفيدون منه في حياتهم اليومية وصلتهم بربهم.
مشهد آخر: قبل المغرب بدقائق..صحون المساجد ممتلئة بعدد كبير من الصائمين، البعض يتوضأ، والآخر يقرأ القرآن، والثالث يتوجه إلى الله بالدعاء، أصناف الوجبات المختلفة تتوالى على المكان، سواء من البيوت القريبة، أو من صندوق وقف بعض المساجد، أو من تبرعات المحسنين طالبي الأجر والثواب، يرفع الأذان فيشترك الكل في الإفطار في حميمية عجيبة، دون تفرقة بين لون أو جنسية .
صورة رائعة ومعبرة لمظهر من مظاهر التكافل الاجتماعي تتضح بشكل جلي خلال أيام الشهر الفضيل، وتؤكد على وجود استعداد فطري لدى الكثيرين للمساهمة في الأعمال الخيرية بمختلف أشكالها، بشرط أن توجد الجهة التي تنظم هذا الأمر بشكل جدي ومناسب ومدروس.
مشهد ثالث: أطفال صغار يتجمعون قبل أذان المغرب أمام باب بيت أحدهم ، وقد أتى كل منهم حاملاً في يديه طبقاً مما جاد به بيته، يشكلون حلقة وهم يرددون بعد انتهاء صوت المؤذن" بو أذﱡون.. بو أذﱡون..فطروا فطروا يا صايمين.. باكر بتصبحوا نايمين" بصوت فيه من براءة الطفولة الكثير، يشجي النفس، ويعيد ذكريات طفولة جميلة لدى الكثيرين ممن أفقدتهم زحمة الحياة كثيراً من متعتها. ترى هل تعرف مريم ومودة وفرح وشهد وبقية الرفاق أن كثيراً من أقرانهن قد نسي مثل هذه العادة الجميلة وأمثالها؟
جميل هو رمضان.. ورائعة هي أيامه..وروحانية هي أمسياته..نلتقيكم في مشاهد رمضانية قادمة أتمنى أن تكون أكثر جمالاً وايجابية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.