الجمعة، 15 يوليو 2011

"عن السياحة أتحدث"

كنا في زيارة عمل لإحدى المدارس البعيدة التي تقع في قلب الصحراء، والتي يدل وجودها على عزم الإنسان العماني وتصميمه على نشر العلم والنور في كل بقاع السلطنة،  عندما دعانا أحد زملاء الرحلة  للمبيت في استراحة أحد أقاربه، والتي تقع على أطراف الصحراء، وعلى القرب من الطريق المؤدي إلى المنطقة التي تقع بها المدرسة.
        كانت الاستراحة مصممة على أعلى المستويات بحيث تكون استراحة سياحية ، وقد اتضح ذلك من خلال اختيار مكان إقامتها، فهي مقامة وسط تلال رملية عالية، يخلب لبك انكسار أشعة الشمس عليها قبل المغيب وكأنه وداع  اللا عودة، وظلال خيمة بدوية تلوح من بعد،ونسمات "الكوس" المنعشة تهب من جهة الشرق، وبضعة جمال عربية أصيلة ترعى بأمان في جانب مجاور.
          كما أن  تصميم المرافق ينسجم مع البيئة المحيطة من حيث  نوعيات الأثاث أو الأدوات المستخدمة في التصميم، بالإضافة إلى نوعيات الطعام المختارة بعناية من المائدة العمانية المعروفة بتنوعها وجودة أصنافها.
إلا أنني فوجئت بعدم تواجد أي زوار للاستراحة سوانا، وعندما بادرت صاحبها بسؤاله حول هذا الأمر كانت الإجابة: إنها الإجراءات الروتينية التي أكملت الحول ولم تنته بعد.
       قادنا سؤالي له إلى  الحديث حول واقع السياحة في عمان، تحدث أحدنا عن المقومات التي نستطيع من خلالها أن  نصنع سياحة حقيقية وهادفة في السلطنة، من حيث توافر  الأمن والأمان، والبنية التحتية التي وصلت إلى معظم أنحاء السلطنة، وما عرف عن الإنسان العماني من تسامح واحترام للآخر.
        وتناول زميل آخر المقومات السياحية العديدة والمتنوعة التي تحظى بها السلطنة ، والتي تتمثل في الشواطئ البكر، والصحاري الرملية الناعمة، والجبال المتنوعة التضاريس والمناخ، والإرث الهائل من الفلكلور والشواهد الأثرية المختلفة، وأنماط الحياة المتنوعة.
       وذكر كل منا تجربته حول بعض الأماكن السياحية والطبيعية  والأثرية التي زارها في السلطنة، وما تعانيه بعض هذه الأماكن من عدم استغلال حقيقي، أو عدم توافر المرافق التي من شأنها أن تجعلها أكثر أهمية من الناحية السياحية.
     واتفقنا في نهاية الجلسة على أن قطاع السياحة في السلطنة بحاجة إلى إعادة نظر، وأنه من المهم أن تكون هناك إستراتيجية مدروسة واضحة المعالم للنهوض بهذا القطاع ، وتحويله من مجرد عملية إدارية إلى عملية صناعة حقيقية، فبرغم كل الجهود المبذولة، إلا أنها لا تتواكب مع المقومات السياحية المتنوعة التي تمتاز بها السلطنة، ومازال رأس المال العماني متردداً في الدخول بقوة في هذا النوع من الاستثمار.
إذاً نحن بحاجة إلى "صناعة للسياحة" ، فالسياحة لم تعد مجرد مصطلح اقتصاديً نتداوله كبقية المصطلحات دون أن نعي معناه الحقيقي، ولم يعد يرتبط كذلك  ببعض المحظورات التي يعتقد البعض أن السياحة قد تجلبها، مما يترتب عليه تغييراً للقيم، أو إدخالاً لثقافات غير مرغوبة، بل أصبحت تحمل في طياتها رسالة حضارية وثقافية مهمة، تحاول البلدان المختلفة من خلالها تصدير ثقافاتها، والتعريف بحضارتها،والترويج لمنجزاتها.
      إن هناك العديد من الخطوات التي يمكن من خلالها تشجيع قطاع السياحة في السلطنة، وإيجاد صناعة حقيقية للسياحة يستطيع من خلالها هذا القطاع المساهمة بفعالية في دعم عملية التنمية الاقتصادية والثقافية  للسلطنة،فتنظيم المؤتمرات العالمية للسياحة والتي يتم من خلالها دعوة عدد من رجال الأعمال وصناع السياحة في السلطنة و العالم للإطلاع على  فرص الاستثمار السياحي بالسلطنة، سواء من خلال أوراق العمل المقدمة من خلال هذه المؤتمرات، أو من خلال اطلاعهم على عدد من المعالم السياحية المتنوعة بالسلطنة من الأمور المهمة لإنعاش صناعة السياحة في السلطنة، ذلك أن الكثير من المهتمين بالاستثمار في هذا القطاع على المستوى الدولي قد لا تتوافر لديهم المعلومات الكافية عن المقومات السياحية من حيث الإمكانات، أو البنية التحتية، أو القوانين واللوائح المنظمة للاستثمار في هذا المجال بالسلطنة، كما أن عدداً من المستثمرين ورجال الأعمال المحليين قد يترددون في الدخول بقوة في هذا المجال بسبب عدم اتضاح الرؤية المستقبلية لهذا القطاع .
          كما أن وجود قوانين واضحة ومرنة ومشجعة لبيئة السياحة الداخلية والخارجية بالسلطنة،  وتولي جهة واحدة فقط إصدار التصاريح، وتخليص المعاملات المتعلقة بالمشاريع السياحية بدلاً من أن يتوه المستثمر بين عدة جهات، من العوامل المشجعة لتنمية هذا القطاع ، وهناك دول كسيشل وموريشيوس وتايلند على سبيل المثال انتعشت فيها السياحة بسبب القوانين المرنة التي تشجع السائح والمستثمر ، وبفضلها انتقلت إليها عشرات المشاريع السياحية الضخمة، كما يزورها الملايين من السياح سنوياً.
     كما أننا من خلال هذه القوانين الواضحة نستطيع أن نحمي قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا من التأثر بثقافة الآخرين، فنحن نستطيع أن نضع محددات ثقافية واجتماعية لا يمكن تجاوزها ، وليس شرطاً أن نقلد الآخرين في تقبل كل ما يأتي به الآخر، أو التغاضي عن بعض الأمور المتعلقة بثقافتنا لمجرد الرغبة في زيادة عدد السياح، فالسائح سيأتي متى ما وجد برامج سياحية واضحة ومتنوعة وهادفة، وهناك شرائح متعددة منهم يهتمون بالاطلاع على ثقافة البلد وحضارتها أكثر من اهتمامهم ببعض الجوانب الأخرى التي يمكن وضع بعض الخطوط الحمراء أسفلها.
        ومن الضروري الاهتمام بالاستثمار الأكاديمي في مجال السياحة والفنادق، وتأهيل الكوادر المدربة الواعية لأهمية السياحة، وتوفير فرص العمل والاستثمار لها، بدلاً من تحولهم للعمل في قطاعات أخرى، بحجة عدم توافر فرص عمل حقيقية في مجال السياحة، أو عدم مناسبة الأجور التي يتقاضونها.
كما أن تضمين دروس وأنشطة عن السياحة ودورها الحيوي في المجتمعات، والمقومات السياحية المتعددة للسلطنة، من خلال مناهج الدراسات الاجتماعية من شأنها أن تعزز وتنمي أهمية هذا الجانب في نفوس الجيل القادم، والذي ستعتمد عليه الدولة في النهوض بها، ودفع عجلة تقدمها.
         من المهم كذلك الاهتمام بالسياحة الداخلية، فكثير من الأسر العمانية والجاليات المقيمة لا تجد الفرصة الكافية للاستمتاع بالسياحة الداخلية في السلطنة برغم التنوع الجمالي الهائل، وبرغم المقومات الطبيعية والتاريخية التي تتميز بها السلطنة، وذلك بسبب أمور عدة لعل من بينها: ضعف التوعية الإعلامية المتعلقة بالسياحة الداخلية، وضعف المقومات السياحية الجاذبة من حيث انتشار المرافق المتعددة، وقلة عدد أماكن الإيواء السياحي، والمغالاة في أسعار الإقامة في هذه الأماكن إن وجدت، وقلة عدد الوكالات والمكاتب السياحية الفاعلة في مجال السياحة الداخلية،  فباستثناء فصل الخريف في محافظة ظفار وما يرتبط به من سياحة فصلية، وباستثناء بعض المجمعات التجارية في مسقط، فإن كثيراً من المعالم  والنزل السياحية في بقية المناطق تكاد تكون مجهولة، أو لا تتوافر المعلومات الكافية المتعلقة بها، أو لا توجد عروض سياحية مناسبة تغري قطاع كبير من الأسر  والأفراد بالحصول عليها، أو قد لا تتوافر بها المرافق التي تشجع على ارتيادها.
       كما أن رغبتنا في الاهتمام بصناعة حقيقية للسياحة ينبغي علينا أن نعيد العشرات من الحرفيين المجيدين في المجالات المختلفة، والذين تدهورت أوضاعهم الاقتصادية، وهجر كثير منهم حرفته، بسبب منافسة العمالة  الوافدة الرخيصة له في مجال عمله، وبسبب عدم وجود قوانين حامية ومشجعة له.
       إن إعادة هؤلاء إلى سوق العمل يكون من خلال إيجاد القوانين والتشريعات التي تحمي الحرف الأصيلة التي يعملون بها ، ومن خلال ترويج منتجاتهم ، وتسويقها في الأسواق والمعارض المحلية والدولية، ومن خلال توفير الأسواق الشعبية التي تجعلهم أكثر استقراراً وبالتالي أكثر إنتاجاً، ولعل هؤلاء لا يختلفون كثيراً عن الحرفيين في أسواق خان الخليلي، والحميدية وغيرها من الأسواق التي ازدهرت في بلدانها، وأعطت بعداً سياحياً وحضارياً لتلك البلدان، وأوجدت مصادر دخل مناسبة لشريحة مهمة تحمل على كتفها عاتق الحفاظ على الإرث الحضاري لوطنها.
      ولأن الفنون المغناة تمثل جانباً مهماً من الفلكلور والموروث الشعبي الذي يغري السياح للإطلاع عليه في أية دولة من دول العالم، فسيكون من الضروري إعادة الروح لعدد من الفنون التي بدأت في الاندثار  بسبب ابتعاد ممارسيها والقائمين عليها بحجة ضعف التشجيع، ذلك أن هذه الفنون تعد جزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع، وشاهداً على عراقته، ودليلاً على تنوع ثقافته، لذا فإن تشجيع تكوين فرق الفنون في المناطق، وربطها بخطة تطوير السياحة، وإدخالها ضمن برامج التعريف السياحي لهو من الأمور المشجعة لتطوير صناعة السياحة في السلطنة.
        من المهم أيضا أن يواكب هذا الاهتمام التوعية الإعلامية بدور السياحة الثقافي والاقتصادي، ومساهمتها في تعزيز مصادر الدخل القومي، وكذلك دورها في نشر الثقافة العمانية بمختلف أبعادها ، وذلك من خلال تخصيص مساحات إعلامية متنوعة ، وتوفير أدلة ومطبوعات تعرف بكافة الجوانب المتعلقة بالسياحة من  أماكن ومزارات ومرافق وبرامج مرتبطة بها.
إن هناك دولاً عديدة تعتمد في شهرتها الحضارية، وكذلك مدخولها الاقتصادي على قطاع السياحة، ولم يتأت ذلك من فراغ، ولكنه أتى من خلال تصميم، ووضع أهداف محددة، وتوفير كافة الفرص للنهوض بهذا القطاع، بالرغم من أن هذه الدول قد لا تفوقنا كثيراً في الإرث الثقافي والحضاري، أو في التنوع البيئي والجمالي.
         إن شواطئ الريفيرا الفرنسية، أو شرم الشيخ المصرية، أو اللاذقية السورية ليست أكثر نظافة وجمالاً ونقاءً من الشاطئ الممتد من رأس الحد حتى ضلكوت ، ومغارة جعيتا اللبنانية ليست أكثر تشويقاً من كهف"الهوته"، أو "مجلس الجن"، والحكايات المرتبطة بقلعة "الكونت دراكولا" في رومانيا، أو قلاع اسبانيا والبرتغال، ليست أكثر إثارة  من حكايات قلاع وحصون  نزوى، والرستاق، والحزم، وجبرين، وأسواق "المباركية"، و"واقف"، ليست أكثر عراقة من سوق مطرح، كما أن مواطني تلك الدول جميعها ليسوا أكثر وعياً وتسامحاً وترحيباً بالضيف  من المواطن العماني الذي امتزجت ثقافته العمانية، بعادات عربية أصيلة، عززتها قيم إسلامية مترسخة جعلت منه مثالاً للتسامح ، ومضرباً للأمثال في الكرم واحترام الآخر.
     ما نحتاجه هو  اشتراك كافة أطياف المجتمع في الوعي بأهمية قطاع السياحة كمصدر مهم للدخل القومي، ودوره الثقافي والحضاري في التعريف بالبلد، ونشر حضارته، وإيصال رسالة التسامح إلى كافة شعوب العالم من خلال التلاحم بين المواطن والسائح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.