كنت في "المقطم"، تلك الضاحية القاهرية الجميلة المرتفعة ، والتي منها تستطيع مشاهدة معالم القاهرة من نيل وأهرامات وغيرها بكل وضوح، عندما شدتني عبارة مكتوبة على لافتة بإحدى البنايات التجارية ، كانت اللافتة تحمل عبارة "بنك الطعام المصري".
كان الاسم غريباً علي، وعجيباً في نفس الوقت، فأنا قد سمعت عن بنك للتعاملات المالية، وأعرف بنك الدم، وكونت ما يسمى ببنك المعلومات، أما "بنك الطعام" فقد كان مصطلحاً أسمعه لأول مرة وقتها، وتخيلت ساعتها أنه اسم ظريف لأحد المطاعم اختاره صاحبه كوسيلة لجذب الزبائن، خاصة وأن كثيراً من المصريين يتمتعون بخفة دم جميلة يعرفها القاصي قبل الداني.
وأذكر أنني يومها ذهبت بشيء من الفضول أبحث في شبكة المعلومات العالمية عن هذا المصطلح، الذي شدني، وعرفت كثيراً من المعلومات حول هذا البنك ، وهدفه الأساسي المتمثل في توفير الطعام للفقراء والمحتاجين بطريقة علمية ومستدامة، وتمكين مختلف شرائح المجتمع من الإسهام في دعم الفقراء والمحتاجين، وحول بداياته عام 1967 على يد الهولندي "جون فان هينجل" الذي بدأت فكرته بتأسيس بنك "سانت ميرى" للطعام عندما كان يقوم منذ عام 1965 بارتياد صالات الطعام الفخمة وجمع ما يتبقى من الضيوف، ثم قام بعدها بالاتصال بمخازن الأغذية ليحثهم على التبرع بالمواد الغذائية التي اقترب موعد نهاية صلاحيتها لكي يقوم بتوزيعها على الفقراء أثناء صلاحيتها بدلاً من بقائها في المخازن وفسادها، وتطورت الفكرة التي ولدت كفكرة شخصية إلى إنشاء مؤسسة خيرية كبيرة، أصبح لها مجلس إدارة وأعضاء وتمويل خاص، حتى إن المطاعم الكبرى والفنادق تتطوع أحياناً بتقديم وجبات مجانية للمؤسسة لتوزيعها على الفقراء، وبدأت تلك الفكرة تنتشر في عدد من دول العالم، فتم تنفيذها في الهند وكوريا والولايات المتحدة، ومصر، والسعودية، وغيرها من الدول.
تذكرت موضوع" بنك الطعام " مجدداً عندما كنت مدعواً قبل فترة قريبة لحضور إحدى المناسبات، وهالني وقتها حجم الطعام المقدم، والذي تفوق كمياته عدد المدعوين وحاجتهم إليه، وهالني أكثر ما علمته من صاحب الدعوة أن ما سيتبقى من الطعام سوف يرمى لأن الوقت متأخر، ولأنه لا يوجد من المدعوين من هو بحاجة إلى ما تبقى من الطعام، وتذكرت وقتها عشرات المناسبات الاجتماعية المتشابهة التي يهدر فيها كثير من الطعام نتيجة سلوكنا وعاداتنا، ورغبتنا في الحفاظ على موروثاتنا في الكرم، ورغبتنا كذلك في التميز عن الآخرين في هذا المجال.
تذكرت في نفس الوقت أن هناك كثير من المحتاجين ممن هم بحاجة إلى هذا الطعام المهدر ، ولا تسمح لهم كرامتهم بتسول الطعام ، وهنا تردد في ذهني هذا الخاطر: " لماذا لا يكون لدينا بنك للطعام"؟
قد يستهجن البعض منا الفكرة باعتبار أننا مجتمع إسلامي عرف بالتماسك والتكافل والتقارب، و لا ينبغي عليه أن يستورد أفكاراً من مجتمعات أخرى ليطبقها، ومع كل التقدير لهذا الرأي، إلا أنه ينبغي علينا أن نعترف أننا بدأنا نتخلى عن كثير من الروابط الاجتماعية التي كان مجتمعنا يتميز بها، ولم يعد التكافل ملموساً كما كان في الماضي،وأصبح الكثير منا منشغلاً بهمومه اليومية، وأصبحت العلاقات الاجتماعية معقدة، و مساحة التواصل الاجتماعي لدينا محدودة، فباستثناء الأعياد، وشهر رمضان، وبعض المناسبات التي تخص أشخاصاً تربطهم بنا صلات قربي أو صداقة وطيدة، فإن كثير منا قد لا يكاد يتذكر جاره، فما بالكم بالأشخاص الآخرين؟؟ولنا أن نقارن مجتمعنا بما كان عليه في سنوات سابقة، فللأسف لم يعد المجتمع نفس المجتمع،ولم يصبح الجار نفس الجار.
كما أن الظروف الحالية في ظل ارتفاع الأسعار، جعلت مثل هذه الأفكار مطلباً مهماً ، حيث أن هناك كثير من الأسر التي أصبحت بحاجة ملحة إلى من يقوم بمساعدتها، وأصبحت بعض الأصناف الغذائية الأساسية من الكماليات لديها، لعدم قدرتها على توفيرها، لذا فنحن أصبحنا بحاجة إلى تفعيل وسائل أكثر تنوعاً في سبيل إعادة شيء من التكافل للمجتمع.
ولنا أن نتخيل لو كانت لدينا مؤسسة خيرية يديرها عدد من الناشطين الاجتماعيين، وتشرف عليها وزارة التنمية الاجتماعية، ويساهم في تمويلها مجموعة من رجال الأعمال وأهل الخير، ولها فروع في عدد من المدن والولايات، ولها حساب مصرفي معروف، ولديها قائمة بعدد من الأسر والعائلات الفقيرة والمحتاجة في المدينة التي يقع فيها فرع المؤسسة،ولها نشاط إعلامي يسهم في إيصال فكرة المؤسسة الخيرية إلى كافة أطياف المجتمع، وتقوم هذه المؤسسة بجمع الأغذية غير المستغلة والفائضة من المصادر المختلفة كالفنادق والمطاعم والمناسبات الاجتماعية المختلفة، أو حتى من الأشخاص العاديين، بحيث يكون هناك عنوان معين لهذه المؤسسة يستطيع الفرد أو الجهة الاتصال بمندوبها لكي يأتي لاستلام الفائض من الطعام لإعادة تجهيزه بطرق صحية وتوزيعه على الأسر الفقيرة والمحتاجة.
ويمكن للمؤسسة أو "البنك" أن يستقبل التبرعات من فاعلي الخير من خلال الحسابات المصرفية المعلن عنها، كي يمكن استغلالها في توفير مواد غذائية متنوعة، وإيصالها لتلك الأسر المحتاجة من خلال دراسات استطلاعية ومسحية مسبقة.
كما يمكن للمؤسسة أن تتوسع مستقبلاً في تنويع خدماتها، والاستفادة من التجارب الخارجية لمؤسسات مشابهة، وكذلك الاستفادة من الأفكار التطويرية للمهتمين بهذه القضايا في المجتمع المحلي، كي تغدو أكثر قابلية للتطوير، وأكثر قدرة على تحقيق أهدافها المنشودة.
إننا من خلال هذه الفكرة سنتمكن من تحقيق العديد من الأهداف لعل من أهمها الشعور بمعاناة الآخرين ، والتفكير في حياة الفقراء والمحتاجين، وبالتالي الدعوة إلى تغيير بعض جوانب الثقافة الاستهلاكية السلبية، والحرص على عدم التبذير والإسراف، وكذلك بث روح التكافل في المجتمع من خلال إحساس المساهمين بأهمية مساعدة الآخرين، واعتبارهم شركاء في المجتمع، وجزء أساسي فيه، ترسيخاً لمبدأ التكافل في الإسلام والذي حثنا عليه ديننا الحنيف ورسولنا صلى الله عليه وسلم في أكثر من موطن، ونشر ثقافة العمل التطوعي، وذلك من خلال استثمار طاقات الشباب وطلاب المدارس ، وإشراكهم في العمل بهذا البنك، وبالتالي غرس ثقافة المواطنة وأهمية الإحساس بالآخر، كذلك فإننا قد نضمن وصول المساعدات الغذائية إلى مستحقيها بطريقة تضمن لهم كرامتهم وتتوافق مع خصوصية مجتمعنا العماني.
إننا بإمكاننا أن نأخذ الجانب الجيد في فكرة "بنك الطعام"، بحيث نطبقها كي تحل لدينا مشكلة، ولكي تسهم في شيء من التنظيم الذي يعود بالنفع على المجتمع، ويجعله أكثر تكافلاً وترابطاً، لذا فإن الاطلاع على تجارب الآخرين في هذا الشأن ، والأخذ بالتجارب الجيدة منها من شأنها تحقيق شيء من مبادئ التكافل الاجتماعي، وعلينا أن نتذكر دائماً أن الحرب على الجوع والفقر ، هي الحرب الشرعية الوحيدة التي يجب أن نعترف بها حالياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.