حميد بن عامر هو اسم مستعار لمواطن بسيط يسكن في إحدى التجمعات الصحراوية بالمنطقة الشرقية، قابلته صدفة في إحدى المؤسسات التعليمية بالمنطقة، ودار بيننا حوار متبادل حول عدد من القضايا المرتبطة بسبب مجيئه إلى هذه المؤسسة.
كان الغرض من مجيئه هو متابعة رسالة قديمة سبق أن تقدم بها إلى المسئولين بهذه المؤسسة حول آلية فتح فصل دراسي بالمنطقة التي يسكن بها لتعليم بعض سكان ذلك التجمع الصحراوي مبادئ الكتابة والقراءة والحساب، وبعض المعلومات المتعلقة بأمور الدين والصلاة.
المسافة بين المنطقة التي يسكن بها هذا المواطن، وبين المدينة التي توجد بها المؤسسة تتجاوز 150 كيلو متر، تقطعها سيارة الدفع الرباعي في حوالي 3 ساعات، وذلك لعدم وجود طريق واضح المعالم ، حيث أنه عبارة عن كثبان رملية متراكمة على امتداد البصر، وبدون سائق محنك خبير قد لا تستطيع الوصول إلى تلك المنطقة، ومع ذلك فهذا الأمر لم يثنه عن المجيء ومتابعة الموضوع .
حميد نفسه لا يعرف القراءة أو الكتابة بالرغم من أنه من مواليد النهضة ، وهذا الأمر لا يضيره كثيراً لو تعلق بأي أمر دنيوي، لكنه يتضايق - كما يقول- عندما يدخل إحدى دور العبادة، ويرى من حوله يتلون القرآن، وهو يتفرج عليهم دون أن يقدر على فعل ما يقومون به، وهذا الأمر جعله أكثر حماساً ورغبة في تحقيق حلمه وحلم الآخرين في منطقته.
خلال حوارنا،حدثني حميد عن محطات في حياته..تحدث عن ظروف منطقتهم الجغرافية من حيث بعدها عن المراكز الحضرية بالمنطقة، وطبيعة النشاط الاقتصادي الممارس فيها،والذي كان يحتم عليهم التنقل بحثاً عن الكلأ والمرعى، مما جعل الاهتمام بالتعليم في منطقتهم ضعيفاً، وحكى لي قصة رحلته يوماً ما مع خاله الذي يعمل بإحدى الدول المجاورة، وكيف أنه طلب من خاله أن يعلمه قصار السور، وبعض الأدعية طوال مسافة الطريق الطويل.
يشيد حميد بدور الحكومة التي قامت ببناء مدرسة تتوسط التجمعات الصحراوية ، ولكنه يرى أنها لوحدها غير كافيه، وذلك لتباعد المسافات بين هذه التجمعات، ولوجود العشرات من سكان هذه المناطق ممن فاتهم قطار التعليم قبل افتتاح المدرسة.
الشخصية التي أتى حميد لكي يرشحها لتعليم الناس في منطقته ، ليست من خريجي الجامعات، ولا ممن يشار إليهم بالبنان في الثقافة والمعرفة، ولكنها فتاة متزوجة بسيطة الثقافة، أتاحت لها ظروف انتقالها إلى إحدى القرى مع زوجها، فرصة استكمال دراستها حتى حصولها على شهادة الدبلوم العام، لذا.. فهي في نظره ونظر الآخرين، الإنسان المناسب لتعليمهم مقارنة ببقية الموجودين بالمنطقة.
ختم حميد حواره معي بعتاب وجهه إلى المتعلمين – كما أسماهم - و المسئولين عن بعض المؤسسات الحكومية، حول تجاهلهم لمنطقته التي يسكنها، فهي تعاني من نقص في كثير من الخدمات الصحية والاجتماعية، وأهالي المنطقة لا يستطيعون تركها، لأنها في النهاية موطنهم الذي ارتبطوا به، ولأن ظروف المعيشة تحتم عليهم ذلك، فغالبية السكان يمتهنون حرفة تربية الحيوانات، وهم لا يعرفون عملاً بديلاً لذلك.
كما طالب في نهاية حديثه بتبني البعض سواء كانت جهات حكومية أم خاصة، أو أفراد لفكرة تسيير قوافل تنموية متكاملة من وقت لآخر لتقديم الخدمات المتنوعة لمثل هذه التجمعات، والتي هي بأمس الحاجة لهذه الخدمات، وللتعريف بها، ونقل واقع الحياة بها للآخرين؟
هذا السرد يقودنا إلى قضية هامة، وهي واقع العمل التطوعي ومدى تحقيقه للأهداف المرجوة منه في مجتمعنا، حيث إن مثل هذه الحالات قد تتكرر في مجتمعات وقرى مختلفة لم تتح لها ظروفها الجغرافية والاجتماعية الاستفادة الكاملة من كافة معطيات النهضة المباركة في مختلف المجالات.
نعم، لم تأل الحكومة جهداً في نشر مظلة الخدمات المختلفة في معظم بقاع ومناطق السلطنة، ولكن تبقى هناك بعض الحالات الاستثنائية التي هي بحاجة إلى دور من قبل الأفراد ومؤسسات المجتمع لممارسة أدوار اجتماعية مكملة لدور الحكومة التنموي في هذه المناطق.
ويبقى التساؤل المهم: أو لا يمكن لي كفرد أن أخصص يوماً في السنة أقوم فيه بعمل تطوعي في مجال عملي دون دعوة رسمية أو خاصة من أحد، ودون انتظار لهبة أو تكريم، ودون رغبة في شو إعلامي؟
ألا يمكن لرجل الأعمال، أو المعلم، أو الطبيب، أو الممرض، أو رجل الدين، أو غيرهم من فئات المجتمع، أن يخصصوا جزءاً من أوقاتهم أو إمكاناتهم، لتقديم خدمات تطوعية في مجتمعهم المحيط، أو مجتمعات أخرى في وطنهم يشعرون أنها بحاجة لإمكاناتهم، سواء كان هذا العمل التطوعي المقدم بالاشتراك مع آخرين، أم جهد شخصي.
لماذا نجد بعض المجتمعات الأخرى الذي نتهمها عادة بضعف القيم وعدم ترابط المجتمع لديها، تهتم بمثل هذه الأعمال التطوعية، ويتبرع بعض رجال أعمالهم بكامل ثرواتهم لهذه الأعمال، بينما نحن الذين نتغنى طوال الوقت بقيمنا وحضارتنا نعاني من ضعف المشاركة المجتمعية، ومن تأثر قيم التكافل الاجتماعي بفعل تأثيرات العولمة المتراكمة.
هل الأمر مرده لضعف وعي وثقافة بأهمية مثل هذه الأعمال، أم لظننا أن الحكومة هي وحدها من يقع عليها عبء تقديم كافة الخدمات دون مشاركة مجتمعية أو فردية منا؟
إن خدمة المجتمع والمساهمة في بنائه ونهضته لا يقتصر على العمل الحكومي فقط، فالشراكة الحقيقية بين الدولة والأفراد هي من الأمور المهمة لنجاح أي مجتمع،كما أن الحكومة لا تستطيع الوصول بخدماتها لكل فرد في هذا الوطن، ولا معرفة الظروف الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لكافة المواطنين، لذا فإننا كأفراد أو كمؤسسات مجتمع قد نكون أكثر عوناً للحكومة في هذا الجانب، متى ما أيقنا بأهمية التواصل المجتمعي، وضرورة إيجاد التقارب بين أفراد المجتمع، وبالتالي فإن نشر التوعية بأهمية العمل التطوعي ودوره في خدمة المجتمع والارتقاء به لهو من الأمور الضرورية والهامة.
وإذا لم نقم نحن أبناء هذا الوطن الذين نعمنا من خير التنمية، بهذه الأعمال التطوعية،فلن ننتظر الآخرين كي يقوموا بها، فنحن الذين ضربنا للعالم أروع الأمثلة في تكافلنا الاجتماعي عند تعرض بلدنا للأنواء المناخية، قادرون على أن نستمر على نفس النهج، وأن نعزز هذا التكافل بمزيد من نماذج العمل التطوعي الهادف المنظم الشامل.
إن كثيراً من فئات المجتمع، هم بحاجة لدعمنا وتشجيعنا ومساندتنا ورعايتنا واهتمامنا وخبراتنا، وكثيراً من الأعمال التطوعية بانتظارنا.
تخيلوا لو زرع بعضنا شجرة واحدة فقط أمام بيته، أو قامت جماعة منا بتسوية أرض فضاء لإقامة متنزه بسيط لأبناء حيهم عليها، أو تبرعت مجموعة من معلمينا بمحو أمية عدد من المواطنين، أو قام عدد من أطبائنا بعلاج عدد من الحالات المرضية، أو تبنت جماعة من مثقفينا عدد من القضايا المجتمعية، وقس على ذلك أشكال عديدة من هذه الأعمال المجتمعية الهامة.
لو فعلنا ذلك فباعتقادي سيكون مجتمعنا أكثر إشراقاً وجمالاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.